الإمام عليّ(ع) بين بيعتين، ويأبى الله إلا أن يكون عزيزاً
سؤال: في مقالكم، وهذا الرابط (https://dohaini.com/?p=3781)، حضرتك كتبتَ: “فلمّا عرف أمير المؤمنين(ع) قَصْدَهم خرج إليهم، وذهب معهم إلى المسجد، ماشياً على قدمَيْه، لا مسحوباً بنجائد سيفه، وبايع…”.
وفي نهج البلاغة كتابٌ من الإمام عليّ(ع) لمعاوية يقول فيه: “…وقلتَ إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع، ولعمر الله لقد أردْتَ أن تذمّ فمدحت، وأن تَفضَح فافتضحت…”
لا أعرف مدى دقّة أسانيد روايات نهج البلاغة، لكنْ ألا يدلّ كلامُ الإمام هُنا على أنّه اقتيد فعلاً؟ هو قال لمعاوية: قلْتَ: إني كنتُ أقاد… والإمام لم يَنْفِ أو ينكر الأمر، هو فقط استعمله لبيان أن معاوية يأخذ البيعة غَصْباً وبالإجبار…
الجواب: بغضّ النظر عن دقّة وصحّة نهج البلاغة
الإمام(ع) لم يقرّ على نفسه بأنه اقتيد، وإنما يقول لمعاوية: هذا قولُك
صحيحٌ أنه لم يَنْفِ وينكر؛ لأنه لم يكن يريد الدخول في تفاصيل هذا الحديث، التي يُراد بها الإساءة لمقام وهَيْبة وعزّة وكرامة الإمام(ع)، وكان هدف الإمام(ع) بيان شيءٍ آخر، وهو أنه المظلوم، المغصوب حقُّه، ولا شَكَّ في أن الحقَّ معه (يعرف ذلك كلُّ أحدٍ من المنصفين غير المعاندين)، وهذا ما تؤكِّده تتمّة الكلام، بينما معاوية ظالمٌ على باطلٍ، وهو يعلم ذلك
فالإمام(ع) لا يريد الحديث في تفصيلٍ، وإنما في الأصل
وفي الأصل نحن لم نَنْفِ أنه بايع كُرْهاً واضطراراً، ولكنّه لم يكُنْ ذليلاً ومُهاناً، بل القومُ لا يريدون إذلاله وإهانته، فهُمْ رغم عداوتهم له، وحقدهم عليه، لا يريدون إهانته (لا شَرَفاً وفَضْلاً ونُبْلاً من أنفسهم، بل خَوْفاً ورَهْبةً وجُبْناً)، كلُّ همِّهم أن يبايع؛ ليستفيدوا من ذلك شرعيّةً لحكمهم، ويمنعوا أيَّ معارضةٍ من التحرُّك، والتذرُّع بعدم بَيْعة الإمام(ع)
لذلك؛ بمقتضى الحكمة التي يمارسها الفَرْد العاديّ، فكيف بإمامٍ؟!… يمارسها أيُّ أحدٍ يأتي العَسْكَر لاعتقاله وسحبه من بيته؛ إمّا أن يُكابِر ويتحصَّن ويتمنَّع، فيدخلون إليه، بكثرتهم وسلاحهم، ويَعْصِبون عينَيْه، ويكبِّلون يدَيْه، ويقتادونه سَحْباً، وهُمْ يضربونه، وفي هذا قِمّة الإهانة؛ وإمّا أن يخرج لمواجهتهم، وتكون له الجُرْأة في مَنْع أحدٍ من الاقتراب منه، ولمسه، ويمشي وَحْده، ويصعد في آليّة العَسْكر، ويذهب معهم إلى الحَبْس. فالنتيجة واحدةٌ: لقد أخذوه واحتجزوه، لكنّ الطريقة تختلف؛ فإمّا ذُلٌّ وهَوَان؛ وإمّا عِزَّةٌ وكرامة
لا يمكن أن نتصوَّر أن الإمام(ع) يختار صورة الإذلال على صورة الكرامة، وهو يعرف تمام المعرفة ـ بحَسَب المعطيات الميدانيّة ـ أنه ليس له أنصارٌ، ولا مجال للمواجهة، لا نتصوَّر أنه(ع) يصرّ على مواجهةٍ تنتهي بإراقة ماء الوَجْه والذُّلّ والانكسار (لقد فعلها الزبير بن العوام فتعثَّر، فسقط السيف من يده، فأخذوه وكسروه، لكنّ الإمام(ع) لم يشهر سَيْفاً، بل لم يُبْدِ مقاومةً؛ لأنه لا يريد الاحتكاك الجَسَديّ مع القوم). فالإمام(ع) ـ كما القوم ـ لا يريدون المواجهة، وهو يعرف غايتهم، وهي البَيْعة فقط، فهلمّوا إلى المسجد؛ لنرى ماذا يكون هناك؟
وبالفعل في المسجد جَرَتْ أحداثٌ، وانكشفَتْ معطياتٌ، أيقن معها الإمام(ع) بأنه لا مجال لحوارٍ أو مفاوضةٍ، فكانت البَيْعة، بل يُقال: إن القوم استعجلوا إعلان البَيْعة، فقبل أن يضع الإمام(ع) يده في يد الخليفة، وبمجرَّد أن اقترب منه، علَتْ الأصوات بأن البَيْعة قد تمَّتْ، وعليٌّ بايع، ولا معنى لأيِّ معارضةٍ بعد اليوم…
يعني القوم متحرِّقون لحصول بَيْعةٍ، مهما كان شكلها ووضعها، يريدون استثمارها، ولا يَهُمُّهم شيءٌ آخر
من هذا المنطلق لا نتصوَّر الإمام(ع)، وهو مُدْرِكٌ لذلك كلِّه، يرضى بوصول الأمور إلى مرحلة الإذلال والإهانة بالجَرّ والسَّحْب، وإنما هو المُهَاب، الذي يخافون منه، يكفيهم أن يتحرَّك معهم إلى المسجد فهذه غنيمةٌ لا يحلمون بها
وفي اعتقادي أن هذا هو الذي حَدَث…، والله العالِم
ردّ: مأجورين. أنا كذلك نفسي لا تقبل ولا تتصوَّر المشهد…
ولكنّي أحبَبْتُ أن أستوضح الأمر؛ لأنّ الإمام لم يَنْفِ…
وفي النهاية تبقى الأمور الخاضعة لاستنتاجاتنا ورَبْطنا للأحداث غيرَ حَتْميّة…
وسيظهر الحقّ بظهور الحجّة(عج)