(بتاريخ: الاثنين 17 ـ 2 ـ 2014م)
تمهيد
رُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال: «إِنَّ لقَتْلِ الحُسَيْنِ حَرارَةٌ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنينَ لا تَبْرُدُ أَبَداً»([1]).
غير أنّ تمظهر هذه الحرارة في السلوك الخارجيّ للمؤمنين قد قسَّمهم في يومنا هذا، وبشكلٍ حادّ، إلى فريقين متباينَيْن متباعدَيْن متهاجرَيْن، بل وصل الأمر إلى اتِّهام أحدهم للآخر بالضلال والانحراف، والمروق من المذهب، والنقص في الولاء لمحمدٍ وآل محمد(عم).
فقد أصرّ فريقٌ من المؤمنين على ضرورة مقاربة أخبار النهضة الحسينيّة، وأشكال إحيائها، وكلِّ ما يتَّصل بالشعائر الخاصّة بها بوعيٍ ومسؤوليّة، اعتماداً على منطق العقل والفكر، فلا نقبل من أخبارها والشعائر إلاّ ما وافق كتاب الله، وسنّة رسوله، ولم يُخالف حكماً عقليّاً قطعيّاً، أو شرطاً من شروط الإثبات التاريخيّ للأحداث والوقائع.
ومن هنا شهدنا رفض بعض العلماء والمفكِّرين والمثقَّفين المؤمنين لجملةٍ من أخبار ثورة الحسين(ع) في عاشوراء، كـ «أعداد مَنْ قتلهم الحسينُ(ع) أو ولدُه عليّ الأكبر»؛ و«بكاء السماء دماً عبيطاً بعد مقتله(ع)»؛ و«ولادة ظاهرة احمرار الأفق عند شروق الشمس وغروبها بعد مقتل الحسين(ع)، وأنّها لم تكُنْ موجودةً قبلها»؛ وأخبارٌ كثيرةٌ من هذا القبيل.
وكذلك كان لهم موقفٌ رافض ومنكِر لكثيرٍ ممّا شاع على أنّه من الشعائر الحسينيّة، كـ «التطبير»، و«ضرب الزنجيل»، و«المشي على النار»، و«الزحف على شظايا الزجاج المهشَّم»، وصولاً إلى «المشي إلى كربلاء لزيارة الحسين(ع) كظاهرةٍ اجتماعيّة تتجدَّد عاماً بعد عام»، في مسيرة جماعيّة تستهلك وقتاً كثيراً لمَنْ يخرج من المدن البعيدة، ويمشي مسافاتٍ طويلة، وما يقتضيه ذلك من تعطيلٍ للأعمال والدراسة وغيرها من مقوِّمات الحياة، وواجبات الفرد كعنصرٍ فاعلٍ في المجتمع البشريّ الذي يحيا فيه؛ وتعتورها مفاسدُ عديدة، من اختلاطِ النساء بالرجال في أوضاعٍ غير مَرْضيّة شَرْعاً؛ وإضرارٍ بالبدن، حيث الورم في الرجلَيْن، والألم في الساقَيْن والقدمَيْن؛ وأفعالٍ كثيرة تظهر بين الحين والآخر، وتُمنَح قدسيّة «الشعائر الحسينيّة».
وفي مقابل هؤلاء برز فريقٌ آخر لا يرى بأساً بقبول كلِّ روايةٍ أو حديث ينقل خبراً عن عاشوراء، أو عن أبي عبد الله الحسين(ع)، أو يدعو إلى عملٍ سُرعان ما يتحوَّل إلى شعيرة حسينيّة، ويغدو شعاراً للإيمان والمذهب.
وهكذا تصكّ أسماعَنا بين الفينة والأخرى أخبارٌ أقلّ ما يُقال عنها: إنّها غريبةٌ وبعيدةٌ عن منطق أهل البيت(عم)، إلى كونها مخالفةً للثابت والضروريّ من العقائد الإسلاميّة، غير أنّه يشفع لها، ويسهِّل رواجَها، ويرغِّب في تصديقها، ويُعيق مواجهتَها، أنّها تتناول سيرة أبي عبد الله الحسين(ع) بنحوٍ ما، وعليه فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن تُناقَش أو تُنتَقَد، ولو وفق الشروط العلميّة المقرَّرة في كافّة الحوزات العلميّة.
ومن الأمثلة على ذلك:
1ـ ما يتناقله بعضُ المؤمنين من خبر المَلَك فُطْرُس، حيث نُقل عن الصادق(ع) ما مختصره: إنّ الله بعث جبرئيل في ألفٍ من الملائكة؛ لتهنئة رسول الله(ص) بمولد الحسين(ع)، فمرَّ جبرئيل على فُطْرُس ـ وهو من الحَمَلة [أي حَمَلة العرش]، فبعثه الله في شيءٍ، فأبطأ عليه، فكسر جناحه، وألقاه في جزيرة ـ، فسأل جبرئيلَ أن يحمله معه؛ لعلَّ محمداً يدعو له، ففعل، وأُعلِم النبيُّ(ص) بحال فُطْرُس، فأمره أن يتمسَّح بالحسين(ع)، ويعود إلى مكانه([2]).
فهل يسعنا أن نقبل بصدور المعصية من المَلَك المقرَّب حامل العرش فُطْرُس، بعدما جاء في القرآن الكريم من أنّ الملائكةَ ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء: 26 ـ 27)؟!
وهل يسعنا أن نقبل أنّ الله أراد عقاب فُطْرُس، فحبسه في جزيرةٍ، ثمّ يأتي جبرئيلُ فيخرجه منها إلى محمّد(ص)؛ لعلّه يدعو له؟! فهل لجبرئيل أن يتصرَّف بهواه؟!
ثمّ هل يُعقَل أنّ النبيّ بعد أن علم بعقاب الله لفُطْرُس يأمره بالتمسُّح بالحسين(ع)، والعودة إلى مكانه في السماوات العُلى؟! أهكذا يتمّ إلغاء الجزاء الإلهيّ بكلِّ بساطةٍ؟!
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف: 18).
2ـ ما يتناقله بعضُ المؤمنين من أنّ الله بنفسه قد قبض روحَ الحسين(ع) بعد أن امتنع المَلَك الكريم عزرائيل عن قبضها؛ لتحيُّره من أيِّ عضوٍ يقبض روحَه(ع).
ففضلاً عن أنّه ليس لهذا الخبر عينٌ أو أثرٌ في كتب الحديث والأخبار نسأل: هل خَفِي على الله تقطُّع أعضاء الحسين(ع)، بحيث لا مجال لنزع روحه من أحدها، وبالتالي يكون قد كلَّف عزرائيل بمهمّةٍ مستحيلة غير مقدورة؟! والتكليف بغير المقدور قبيحٌ، لا يصدر منه سبحانه وتعالى، تعالى اللهُ عن الجهل والقبيح عُلُوّاً كبيراً([3]).
3ـ وصولاً إلى بعض المُختَرَعات المُضحِكات، الظاهر خطؤها، كما في محاولة أحد خطباء المنبر الحسينيّ المعروفين إثبات أنّ مظلوميّة الحسين(ع) قد وصلَتْ إلى أمريكا، والدليلُ أنّ في ولاية كاليفورنيا هناك مدينة اسمها «سان هوزيه»، و«سان» تعني «القِدّيس»، وأمّا «هوزيه» فهي «حسين»، ولكنّه ليس في اللغة اللاتينية سينٌ «س» فتلفظ زاياً «ز»، وتُحذف النون كحرفٍ أخير؛ اختصاراً، وهكذا تكون «هوزيه» تعادل «حسين»([4]).
في حين أنّه في اللغة اللاتينيّة حرف «س»، وهو حرف «s»؛ مضافاً إلى أنّ هناك ترجمةً لهذا الاسم: «سان هوزيه»، وهو «القِدّيس يوسف»([5]).
وبسبب هذا الخلاف المستحكِم، واستعار الجدل الدينيّ حوله، كانت لمجلَّة «نصوص معاصرة» وقفةٌ مع هذا الموضوع، في عددها المزدوج الثلاثون والواحد والثلاثون (30 ـ 31)، بعنوان: «النهضة الحسينيّة، قراءات ومطالعات /1/»، من خلال جملةٍ من المقالات العلميّة القيِّمة.
وتتلوها دراساتٌ متنوِّعة، ما بين العرفان، والفلسفة، والتفسير، والأصول.
ليكون الختام مع قراءةٍ في كتاب «الشعائر الحسينيّة»، للميرزا جواد التبريزي، بقلم: الشيخ جواد القائمي (البصري).
أكمل قراءة بقية الموضوع ←