(رضاع الكبير) في ميزان العقل والنقل
(بتاريخ: الثلاثاء 17 / 3 / 2015م)
تمهيد: هنيئاً لنا شيعة عليّ(ع)
ما كنّا لنثير هذا الموضوع من قبل؛ اعتقاداً منّا بأنّه لا يعدو كونه خبراً مفترىً في صفحات التواصل الاجتماعي، أو بين العوامّ من الناس.
ولكنّ تأكيد مفتي الديار المصرية السابق، الشيخ علي جمعة، عليه أوجب منّا بياناً واضحاً حول هذا الموضوع، ليُعْرَف الغثُّ من السمين، ويزداد الذين آمنوا إيماناً، ويشكروا الله على نعمة الولاية لمحمدٍ وآل محمد(ص) صباحاً ومساءً، بل في كلِّ وقتٍ، وفي كلِّ مكانٍ؛ فإنَّها أعظمُ نعمةٍ منَّ الله بها علينا.
قليلٌ من الوعي والتحقيق
يتمسَّك مفتي الديار المصرية السابق، الشيخ علي جمعة، لهذه الفتوى (فتوى رضاع الكبير: ومفادها أنّ الرجل إذا شرب حليب أنثى، ولو لمرّةٍ واحدة، وبكمّيّةٍ قليلة جدّاً، أصبحت صاحبة الحليب أمّاً له بالرضاعة، وأصبحت بناتها أخواته بالرضاعة، فيحرم عليه الزواج بهنَّ جميعاً، ويحلّ له النظر إليهنَّ جميعاً) بحديثٍ صحيح في (صحيح البخاري) عن أمِّ المؤمنين عائشة. (راجع:
http://sendbyvideo.com/video/40537/-/
ولم نعثر على حديثٍ يفيد هذا المعنى كاملاً.
نعم أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين 2: 163 ـ 164، عن أبي جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي ، عن هاشم بن يونس العصّار ، عن عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد ـ وهو ابن مسافر ـ، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة رضي الله عنها، أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممَّنْ شهد بدراً مع رسول الله(ص) تبنّى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هنداً ابنة الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وهو مولى لامرأةٍ من الأنصار، فتبنّاه كما تبنّى رسول الله(ص) زيداً، وكان مَنْ تبنّى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث من ميراثه، حتّى أنزل الله تعالى في ذلك: ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾، فردّوهم إلى آبائهم، فمَنْ لم يعلم له أبٌ كان مولاه أو أخاه في الدين. قالت عائشة رضي الله عنها: وإن سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثم العامري، وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، جاءت رسول الله(ص) حين أنزل الله ذلك، فقالت: يا رسول الله، إنّا كنا نرى سالماً ولداً، وكان رسول الله(ص) قد آواه، فكان يأوي معه ومع أبي حذيفة في بيتٍ واحد، ويراني وأنا فضل، وقد أنزل الله فيهم ما قد علمْتَ، فما ترى في شأنه يا رسول الله؟ فقال لها رسول الله(ص): أرضعيه، فأرضعته خمس رضعات، فحرم بهنَّ، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة.
ثمّ قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح على شرط البخاري، ولم يخرِّجاه.
المناقشة
1ـ ولكنّ هذا الحديث يشترط أن يكون الإرضاع خمس رضعاتٍ، ولا تكفي المرّة الواحدة، بل في بعض الأحاديث إيجاب عشر رضعات ليتمّ التحريم. ففي سنن ابن ماجة 1: 625 ـ 626: حدَّثنا أبو سلمة يحيى بن خلف: حدَّثنا عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة؛ وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة، قالت: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً. ولقد كان في صحيفةٍ تحت سريري، فلما مات رسول الله(ص)، وتشاغلنا بموته، دخل داجنٌ فأكلها.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا الحديث مفاده القول بتحريف القرآن الذي بين أيدينا، فهل يقبل بذلك مسلمٌ عاقل؟!
2ـ والإرضاع ظاهرٌ في امتصاص الحليب من الثدي، دون إخراجه وشربه من كوبٍ ونحوه.
كما أنّه لا تكون رضعةٌ كاملة إلا بالامتلاء من الحليب، ولا تكفي الكمّيّة القليلة. ففي سنن ابن ماجة 1: 626: حدَّثنا حرملة بن يحيى: حدَّثنا عبد الله بن وهب: أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، أنّ رسول الله(ص) قال: «لا رضاع إلاّ ما فتق الأمعاء».
وفي الزوائد: في إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. والحديث رواه الترمذي من حديث أمّ سلمة، وقال حسنٌ صحيح.
3ـ ولم توافقها في ذلك بقيّةُ أمّهات المؤمنين (نساء النبيّ(ص)). (راجع: سنن ابن ماجة 1: 626؛ سنن النسائي 6: 106).
فإلى متى سنبقى ـ معاشر المسلمين ـ نتمسَّك بروايةٍ صحيحة السند، بعيداً عن النظر في معقوليَّتها، وتوافقها مع ما يعرفه كافَّةُ الخَلْق أجمعين من مكارم الأخلاق، والطهارة والعفَّة والشَّرَف، في هذا الدين الحنيف؟!
مقرَّرات مدرسة أهل البيت(عم)
وأمّا في مدرسة أهل البيت(عم) فالروايات صحيحةٌ صريحة في ما يلي:
1ـ لا قيمة لرضاع مَنْ تجاوز السنتين من العمر؛ حيث روى الكليني في الكافي 5: 443، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن الحكم، عن أبان بن عثمان، عن الفضل بن عبد الملك، عن أبي عبد الله(ع) قال: الرضاع قبل الحولين، قبل أن يُفْطَم.
2ـ الرضاع الذي ينشر الحرمة هو ما أنبت اللحم وشدَّ العظم، ولا يكون بالمرّة أو المرّتين؛ حيث روى الكليني في الكافي 5: 438، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضّال، عن عليّ بن عقبة، عن عبيد بن زرارة قال: سألتُ أبا عبد الله(ع) عن الرضاع أدنى ما يحرم منه؟ قال: ما أنبت اللحم والدم، ثمّ قال: ترى واحدة تنبته؟! فقلتُ: أسألك، أصلحك الله، اثنتان؟ فقال: لا، ولم أزَلْ أعدّ عليه حتّى بلغ عشر رضعات.
3ـ إذا كانت الكمّيّة قليلةً، وقد تناولها الكبير شُرْباً، لا ارتضاعاً، فإنَّها لا تعتبر رضاعاً شرعيّاً، كما دلَّ على ذلك ما رواه الكليني في الكافي 5: 445، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد الله(ع) قال: جاء رجلٌ إلى أمير المؤمنين(ع) فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ امرأتي حلبَتْ من لبنها في مكّوك، فأسقَتْه جاريتي؟ فقال: أوجِعْ امرأتك، وعليك بجاريتك، وهو هكذا في قضاء عليٍّ(ع).
وإنّما أمره بضرب امرأته؛ لارتكابها هذا الفعل الشنيع، الذي لا يخلو من فسادٍ أخلاقيّ. وأمّا الجارية فلم تحْرُم عليه؛ إذ لم تصبح بنتاً له بالرضاعة.
حقّاً حقّاً، الحمدُ لله على كمال الدين وتمام النِّعمة، بولايتك يا أمير المؤمنين، يا عليَّ بن أبي طالب، وولاية الأئمّة الهادين المهديِّين من وُلْدك، صلوات الله وسلامه عليكم أجمعين.