12 يونيو 2015
التصنيف : منبر الجمعة
لا تعليقات
5٬277 مشاهدة

شهر رمضان، موسمٌ للعبادة والوَرَع

(الجمعة 12 / 6 / 2015م)(الجمعة 3 / 6 / 2016م)(الجمعة 26 / 5 / 2017م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

تمهيد

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183) (صدق الله العليّ العظيم).

ها هو شهر الله سبحانه وتعالى يعود إلينا مجدَّداً، حاملاً معه البَرَكة والرَّحْمة كلَّها. هذا الشهر الذي فرض الله عزَّ وجلَّ فيه الصيام على عباده. تلك الفريضة التي من شأنها تقوية إرادة الإنسان؛ ليقف بكلّ صلابةٍ وجُرْأة أمام التحدّيات، وأمام الإغراءات، ليختار طريق الله، ويترك طريق الشيطان.

الصوم في كلِّ الشرائع السماويّة

ومن هنا كان تشريع الصوم في كلِّ الأمم، فهو، وإنْ اختلف في الكيفيّة، يتَّفق في الهَدَف والغاية.

وها هو القرآن الكريم يحدِّثنا عن صوم اللِّسان، أي أن يُمْسك المَرْءُ عن الكلام.

فهذا نبيُّ الله زكريّا(ع) عندما بشَّره الله بيحيى، على كِبَر سنِّه، وعُقْم امرأته، خاف كلام الناس وأقاويلهم، و﴿قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَنْ لاَ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً﴾ (آل عمران: 41).

وهذه مريم(عا)، لمّا خافت كلامَ السُّفَهاء من قومها أن يتَّهموها في شَرَفها، وهي التي أنجبَتْ من دون زواجٍ، ودون أن يمسَسْها بشرٌ، جاءها التطمين من الله جلَّ جلالُه: ﴿فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً﴾ (مريم: 26).

وهكذا كان الصَّوْم ملجأهم وحصنهم الذي يَحْتَمون به من الناس وأقاويلهم، فكأنَّهم يشعرون وهم صائمون أنَّهم مع الله دائماً، قريبون منه جدّاً؛ فإنّ صيامهم قُرْبةٌ إليه. والصِّيام ـ أيُّها الأحبَّة ـ لا يدخله الرِّياء؛ لأنَّه ليس حركةً تتحرَّكها، وتظهر منك لهذا وذاك، بل هو سرٌّ يبقى في نفسك، وقد لا يعرف به إلاّ اللهُ تبارك وتعالى.

ولكنَّنا ـ وللأسف ـ لا نعرف في هذا الصيام إلاّ واجباً واحداً، وهو الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات. فهل هناك واجباتٌ أخرى؟

واجباتٌ في الصيام

تعالَوْا نتعرَّف ذلك من مصدر العِلْم والمعرفة، من نبيِّ الهُدَى والرَّحْمة، محمد بن عبد الله(ص)، الذي وقف في آخر خطبة جمعةٍ من شعبان([1]) يرسم للناس البرنامج الإلهيّ التربويّ العباديّ الأخلاقيّ والاجتماعيّ الذي يُفترض بهم أن يتَّبعوه، ليحسنوا استغلال هذا الشهر المبارك، وتجارةُ الله لا تبور، فقال:

خطبة النبيّ(ص) في استقبال شهر رمضان المبارك

أيُّها الناس، إنَّه قد أقبل إليكم شهرُ الله بالبَرَكة والرَّحْمة والمغفرة.

شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور، وأيَّامُه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات.

هو شهرٌ دُعيتُم فيه إلى ضيافة الله، وأيُّ مُضيفٍ أكرمُ من الله؟! فأيُّ نعمةٍ قُسِمَتْ لنا؟! وجُعلتُم فيه من أهل كرامة الله.

أيُّها الضيوف، ما هي الجوائز والعطايا؟

أنفاسُكم فيه تسبيحٌ، ونومُكم فيه عبادةٌ، وعملُكم فيه مقبولٌ، ودعاؤُكم فيه مستجابٌ. وهذا شهر الدعاء والابتهال، فهل نستغلُّ ذلك جيِّداً؟

فاسألوا الله ربَّكم بنيّاتٍ صادقة، وقلوب طاهرة، أن يوفِّقكم لصيامه، وتلاوة كتابه؛ فإنَّه شهرُ القرآن: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ (البقرة: 185)، ﴿فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ (يونس: 108)، فإنّ الشقيَّ مَنْ حُرِم غفران الله في هذا الشهر العظيم.

ذكرُ الآخرة

واذكروا بجوعكم وعَطَشكم فيه جوعَ يوم القيامة وعطشَه، ذلك الذي يصيب الفُجّار المنحرفين؛ إذ ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾ (الغاشية: 6 ـ 7)، و﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً﴾ (الكهف: 29). أمّا المؤمنون الأبرار فـ ﴿يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ (الإنسان: 5 ـ 6). فمع مَنْ نحبُّ أن نكون؟! لا بُدَّ من أن نحدِّد موقفنا من الآن، فـ «إنَّ اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل»([2]).

التكافل الاجتماعي

وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم. ووقِّروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصِلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، عن كلِّ ما حرَّم الله من غيبةٍ أو نميمة أو فتنة بين الناس أو كذب أو كلام فحشٍ أو غناء محرَّم أو تجسُّس أو سخرية، وغُضُّوا عمّا لا يحلُّ النظر إليه أبصاركم، وعمّا لا يحلُّ الاستماع إليه أسماعكم. كُفَّوا أبصارَكم عن النَّظْرة الحرام، وإنْ دَعَتكم إليها نفوسُكم الأمَّارة بالسوء. وأقفِلوا آذانَكم عن سماع كلِّ ما حرَّمه الله على سمعكم؛ فـ ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 36).

وتحنَّنوا على أيتام الناس يُتحنَّن على أيتامكم. فهذه العادة إذا انتشَرَتْ فسينتفع بها أولادُكم؛ فإنَّكم لن تخلدوا لهم، كما لم يخلد آباء أولئك لأبنائهم. فـ «اللهَ اللهَ ـ وهذه وصيَّةُ أمير المؤمنين عليٍّ(ع) إلينا جميعاً ـ اللهَ اللهَ في الأيتام، لا تغُبُّوا أفواهَهم، ولا يضيعوا بحضرتكم([3]).

التوبة والإنابة

وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديَكم بالدعاء في أوقات صلواتكم؛ فإنَّها أفضل الساعات، ينظر الله عزَّ وجلَّ فيها بالرحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجَوْه، ويلبِّيهم إذا نادَوْه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعَوْه. أيُّها الناس، إنّ أنفسَكم مرهونةٌ بأعمالكم، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدَّثر: 38)، ففكُّوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلةٌ من أوزاركم، فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله تعالى ذكرُه أَقْسَمَ بعزَّته أن لا يعذِّب المصلِّين والساجدين، وأن لا يروِّعهم بالنار يوم يقوم الناس لربِّ العالمين.

تعميق الأخوّة والمحبّة بين المؤمنين

أيُّها الناس، مَنْ فطَّر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، قربةً إلى الله جلَّ وعلا، لا لمالٍ يدفعه، ولا لتأييدٍ يمنحه، بل خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى، كان له بذلك عند الله عِتْقُ نسمةٍ، ومغفرةٌ لما مضى من ذنوبه. فقيل: يا رسول الله، وليس كلُّنا يقدر على ذلك؛ لعُسْرٍ أو مشاغل أو ما إلى ذلك، فقال(ص): اتَّقوا النَّار ولو بشقِّ تمرةٍ، اتَّقوا النَّار ولو بشربةٍ من ماء.

ثواب حُسْن الخُلُق

أيُّها الناس، مَنْ حسَّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازٌ على الصِّراط يوم تزلُّ فيه الأقدام، ومَنْ خفَّف في هذا الشهر عمَّا ملكَتْ يمينُه خفَّف الله عليه حسابه، مَنْ خفَّف فيه عن كلِّ مَنْ هُمْ تحت يده وسيطرته وسلطته، يأتَمِرون بأمره، وينتهون بنَهْيه، ومَنْ كفَّ فيه شرَّه كفَّ الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومَنْ أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، وأيُّ إكرامٍ أعظم من أن يكون إلى جَنْب رسول الله(ص) في الجنَّة، وهو الذي رُوي عنه أنَّه قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتَيْن في الجنَّة، وأشار بالسَّبَّابة والوُسْطى، وفرَّق بينهما قليلاً»([4])، ومَنْ وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومَنْ قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، اللهُ أكبر، أيُّ مكانةٍ للرَّحِم تلك المكانة. فاللهَ اللهَ في الرَّحِم، صِلوها ما حَيِيتُم وقَدِرْتُم.

جزاء الطاعة والعبادة

ومَنْ تطوَّع فيه بصلاةٍ كتب الله له براءةً من النار، ومَنْ أدَّى فيه فرضاً كان له ثواب مَنْ أدَّى سبعين فريضة في ما سواه من الشهور، ومَنْ أكثر فيه من الصلاة عليَّ ثقَّل الله ميزانه يوم تخفُّ الموازين [اللَّهُمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد]، ومَنْ تلا فيه آيةً من القرآن كان له مثل أجر مَنْ ختم القرآن في غيره من الشهور.

الاستعاذة من الشيطان الرجيم ومكائده

أيُّها الناس، إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتَّحةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا ربَّكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولةٌ، فاسألوا ربَّكم أن لا يسلِّطها عليكم؛ لأنّ الشيطان إذا ملك على المرء عقله وقلبه فإنّه يظلّ به حتّى يخرجه من رحمة الله سبحانه وتعالى التي يحصِّلها بالطاعة والعبادة، ويدخله في مواضع الشُّبُهات ومزالق المحرَّمات؛ لكي يستحكم غضب الله عليه فيستحقَّ بذلك جهنَّم وساءت مصيراً.

ولا يحسَبَنَّ أحدٌ نفسَه خارجَ ملعب الشيطان، فلا العالِم ينفعه علمه حينذاك، ولا العابِد تنفعه عبادتُه. فقط عبادُ الله المصطفَوْن المُخْلِصون له، الذين عرفوه حقَّ معرفته، فقط هؤلاء لا يمكن للشيطان الإيقاع بهم، ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ (الأعراف: 16 ـ 17)، ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ﴾ (الحجر: 39 ـ 40).

أفضل الأعمال الوَرَع عن محارم الله

قال أمير المؤمنين(ع): فقمْتُ، فقلْتُ: يا رسول الله، ما أفضلُ الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحَسَن، أفضلُ الأعمال في هذا الشهر الوَرَع عن محارم الله عزَّ وجلَّ.

نسأل الله أن يجعلنا من عباده الصالحين، الأتقياء الوَرِعين. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) رواها الشيخ الصدوق(ر) في (الأمالي: 153 ـ 155)، عن محمد بن إبراهيم(ر)، عن أحمد بن محمد الهمداني، عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه الباقر محمد بن عليّ، عن أبيه زين العابدين عليّ بن الحسين، عن أبيه سيد الشهداء الحسين بن عليّ، عن أبيه سيِّد الوصيِّين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عم)، قال: إنّ رسول الله(ص) خطبنا ذات يوم، فقال:….

ورواها الشيخ الصدوق(ر) أيضاً في (عيون أخبار الرضا(ع) 2: 265 ـ 267)، عن محمد بن بكر بن النقّاش وأحمد بن الحسن القطّان ومحمد بن أحمد بن إبراهيم المعاذي ومحمد بن إبراهيم بن إسحاق المكتب، عن أبي العبّاس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني مولى بني هاشم ، عن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا(ع)…، الحديث.

([2]) نهج البلاغة 1: 93.

ورواه الكليني في (الكافي 8: 58)، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن حمّاد بن عيسى ، عن إبراهيم بن عثمان ، عن سليم بن قيس الهلالي ، عن أمير المؤمنين(ع).

([3]) نهج البلاغة 3: 77، من وصيَّةٍ له(ع) للحسن والحسين(عما) لمّا ضربه ابن ملجم لعنه الله.

ورواها أيضاً الكليني في (الكافي 7: 49)، عن أبي عليّ الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبّار ؛ ومحمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، [جميعاً]، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال : بعث إلي أبو الحسن موسى(ع) بوصيَّة أمير المؤمنين(ع)، وهي….

([4]) رواه أحمد في المسند 5: 333 ، عن سعيد بن منصور ، عن يعقوب بن عبد الرحمن ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، مرفوعاً.

ورواه البخاري في الصحيح 6: 178: عن عمرو بن زرارة ، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل ، مرفوعاً.



أكتب تعليقك