أمثال/ح2: البعوضة… ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، والسلام عليكم ـ أيُّها الأحبَّة ـ ورحمة الله وبركاته.
﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾(البقرة: 26).
هو مَثَلٌ جديد أراده الله أن يكون عبرةً لكلِّ كافرٍ ومتكبِّر وجبّار.
فالبعوضةُ هي أصغر مخلوقٍ عرفه البشر آنذاك، ورأَوْه بالعين المجرَّدة. وهكذا ضرب الله المَثَل بها، وبما فوقها في الحَجْم والقوّة.
وقد يُقال: إنّ المراد بـ (ما فوقها) ما دونها في الصِّغَر، فهو من حيث الصِّغَر في درجةٍ أرفع.
ويُحتَمَل أن يكون قد اختار التمثيل بالبعوضة لأنّ هناك حيواناتٍ مجهريّةً حمراء اللون تعيش فوقها. وهذا ما أثبته العلمُ الحديث اليوم، ولم يكن لهم به من علمٍ آنذاك. وحينها يكون قولُه تعالى: ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ إشارةً إلى هذه الحيوانات الصغيرة، التي كانت آنذاك سرّاً من الأسرار الكونيّة.
إذن هي دعوةٌ للتفكُّر في المخلوقات، بَدْءاً من أصغرها إلى ما هو أكبر منها.
وللبعوضة ـ أيُّها الأحبَّة ـ خصائصُ كثيرة، تدلُّ على أنَّها مخلوقٌ لخالقٍ عالم وحكيم.
فقد رُوي عن مولانا الصادق جعفر بن محمد(ع) أنه قال: «إنَّما ضرب الله المَثَل بالبعوضة؛ لأنّ البعوضة على صِغَر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كِبَره، وزيادة عضوين آخرين، فأراد الله أن ينبِّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه، وعجيب صنعه».
فلنلاحِظْ خرطومَ هذا الحيوان الصغير، فهو يشبه خرطومَ الفيل، وهو أجوف، ذو فَتْحةٍ دقيقة جدّاً، وله قوّةٌ ماصّة تسحب الدم. وقد منح الله هذا الحيوان قوّةَ هضمٍ وتمثيل ودَفْع، كما منحه أطرافاً وأُذُناً وأجنحة تتناسب تماماً مع وضع معيشته. هذه الحشرة تتمتَّع بحساسيّةٍ تشعر معها بالخطر بسرعةٍ فائقة، وتفرّ عندما يداهمها عدوٌّ بمهارةٍ عجيبة، وهي مع صِغَرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات، فضلاً عن الإنسان، مهما بلغت قوّتُه وسلطته.
ويقولون: ٍإنّ البعوضة تحيا ما جاعَتْ، فإذا سمنَتْ ماتَتْ، فكذلك القوم الذين ضُرب لهم هذا المَثَل، إذا امتلأوا من الدنيا ريّاً أخذهم الله عند ذلك، وذلك قولُه: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾.
وقد شكَّل هذا المَثَل امتحاناً واختباراً للناس؛ فالذين آمنوا يعلمون أنّه الحقّ من الله، وعليهم أن يتَّعظوا به؛ وأمّا الذين كفروا فيهزؤون به، ويتساءلون مستنكرين: ما الذي يريده اللهُ من هذا التمثيل بالحَشَرة؟! وبذلك يتميَّز مَنْ يطلب الضلال ممَّنْ يطلب الحقّ والهُدى.
ولا يسعني هاهنا إلاّ أن أشير إلى ما جاء من رواياتٍ في تفسير هذه الآية، وبيان مصداقها، فقد روى عليُّ بن إبراهيم القمّي في (التفسير 1: 34 ـ 35)، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن المعلّى بن خنيس، عن أبي عبد الله(ع)، أنّ هذا المَثَل ضربه الله لأمير المؤمنين(ع)، فالبعوضةُ هي أمير المؤمنين(ع)، وما فوقها هو رسولُ الله(ص)، والدليلُ على ذلك قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾.
وهذه الروايات مرفوضةٌ؛ لما تتضمَّنه من إهانةٍ للنبيّ الأكرم(ص) ولأمير المؤمنين(ع)، وإساءةٍ لمقامهما الرفيع عند الله جلَّ وعلا.
نعوذ بالله من سخطه في تحقير نبيِّه ووليِّه، أو الكذب عليهم، فأعِذْنا اللهُمَّ من ذلك كلِّه، يا أرحم الراحمين. والحمد لله ربِّ العالمين.