26 أكتوبر 2018
التصنيف : مقالات فقهية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬496 مشاهدة

فقه القرآن (5): نوع الطعام في الكفّارة والفِدْية، قراءةٌ فقهيّة جديدة

(الخميس 2 / 8 / 2018م)

تمهيد

يُجمع الفقهاء ـ من الفريقين ـ على أن من أفراد بعض الكفّارات والفِدْيات إطعام مساكين([1]).

ويختلف العدد باختلاف نوع الكفّارة؛ ففي كفّارة الإفطار العمديّ في شهر رمضان، أو إفساد الاعتكاف بالجماع ـ ولو ليلاً ـ، أو قتل مؤمنٍ عمداً أو خطأً، أو نقض العهد، يجب إطعام 60 مسكيناً، وكذلك في كفّارة الظهار؛ وفي كفّارة حنث اليمين ومخالفة النذر والإفطار في قضاء شهر رمضان بعد الزوال يجب إطعام 10 مساكين.

وكذلك هو الحال في الفِدْية الواجبة على مَنْ لا يستطيع الصيام في شهر رمضان إلاّ بجُهْدٍ كبير ومشقّةٍ وعُسْرٍ وحَرَجٍ، فإنّه يسقط عنه الصوم، ويجب عليه عن كلّ يومٍ لم يصُمْه فديةٌ، طعامُ مسكينٍ واحد لا غير.

ويختلفون في كيفية هذا الإطعام ومقداره؛ فبين مَنْ يرى جواز دعوة هؤلاء المساكين إلى مائدةٍ من الطعام ليتناولوا وجبةً واحدةً مُشْبِعة؛ ومَنْ يرى عدم كفاية ذلك، بل لا بُدَّ من تسليمهم الطعام، وتمليكهم إيّاه.

ليتفرَّع عن ذلك اختلافٌ جديد حول لزوم تسليمهم عين الطعام أو جواز تسليمهم قيمته.

ومع القول بكفاية تسليمهم القيمة فهل يجوز ذلك مطلقاً (من دون نيّة كونها بَدَلاً عن الطعام وإعلامهم بذلك وتوكيلهم في شرائه) أو لا بُدَّ من نيّة البَدَليّة، والإنابة في شراء الطعام، دون غيره من حاجاتهم؟

ثمّ اختلفوا في مقدار هذا الطعام؛ فمن قائلٍ بكفاية مُدٍّ (ربع صاعٍ) من الطعام، إلى مَنْ يرى لزوم أن يكون نصفَ صاعٍ، لا ربعه، وصولاً إلى إيجاب صاعٍ كاملٍ إذا كان الطعامُ من جنسٍ معيَّن من الأقوات([2]).

رأي الفقهاء: كفاية مُدٍّ من أدنى طعامٍ

ولكنّ ذلك كلَّه ليس موضع عنايتنا في هذا البحث، وإنّما نريد تسليط الضوء على ما يذكرونه في تحديد نوع الطعام، حيث حدَّده بعضهم بأصنافٍ سبعة من الأقوات، وهي: القمح والشعير والسُّلت، والذرة، والدخن، والأرزّ، والتمر والزبيب، والأقط؛ وحدَّده بعضهم بالأرزّ والطحين؛ إذ هما غالب قوت الناس اليوم، بينما كانوا في زمن النبيّ(ص) يُطعمون الحنطة والشعير والتمر.

هذا وقد اتَّفقت كلمة فقهاء الشيعة على كفاية مُدٍّ من الطعام، وقدَّروه بثلاثة أرباع الكيلو غرام، أي 750 غراماً، وأمّا نوعه فيرجِّحون أن يكون من الحنطة أو دقيقها، ويمثِّلون له اليوم بـ (ربطة الخبز)، التي تزيد قليلاً عن 750 غراماً، ولذلك يرَوْن كفايتها أو قيمتها في حساب الكفّارة والفِدْية وزكاة الفطرة (التي هي بمقدار 3 كيلو من الطعام).

ومن هنا نرى تنافساً بين المكاتب الشرعية للفقهاء في تحديد قيمةٍ أدنى للكفّارة والفِدْية وزكاة الفِطْرة، حتّى وصل الأمر أن حُدِّدَتْ زكاة الفِطْرة بـ (3000 ليرة لبنانية)، وكفّارة إطعام ستّين مسكيناً بـ (45000 ليرة لبنانية)، فهل يتوافق هذا مع ما ورد في القرآن الكريم من تحديدٍ لنوع كفّارة الإطعام؟

المرجع القرآن الكريم

قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (المجادلة: 3 ـ 4).

وهذه الآية واضحةٌ بيِّنة في تحديد أفراد كفّارة الظهار، وأنّها كفّارةٌ ترتيبية، فيجب أوّلاً تحرير رقبةٍ، فإنْ لم يجِدْ فيجب صيام شهرَيْن متتابعَيْن، فإنْ لم يستطِعْ فيجب إطعام 60 مسكيناً.

وهكذا نعلم عدد المساكين الذين يجب إطعامهم.

ولكنْ ما هو نوع الطعام الذي نقدِّمه لهم؟

هذه الآية ساكتةٌ عن بيان ذلك.

ثمّ الروايات

ومثلُها في البيان والسكوت ما جاء في بعض الروايات التي ذكرت كفّارة الإفطار العمديّ في شهر رمضان([3])، وغيرها من الكفّارات.

ولئن شاهدنا روايةً تذكر مقدار الطعام الذي يجب تسليمه إلى المسكين، كالمُدّ أو المُدَّيْن (نصف الصاع) أو الصاع([4])، فإنّنا لا نجد في الروايات ما يشير إلى طعامٍ من نوعٍ خاصّ، وعليه ـ وكما يقول السيد الخوئي ـ «مقتضى الإطلاق… أنه لا فرق… بين أنواع الطعام، فيجتزي بكلّ ما صدق عليه أنه طعامٌ، من خبزٍ أو شعير أو أرزّ ونحو ذلك…» ([5]).

ومن هنا نكاد نطمئنّ بوجود إجماعٍ بين فقهاء الشيعة على كفاية مطلق الطعام، من الحنطة والدقيق (الطحين) والخبز والشعير والأرزّ والتمر والزبيب والذرة والماش والعَدَس و…، بشرط أن يكون قوتاً وغذاءً متعارَفاً لغالب الناس([6]).

نعم، قد يخصِّص بعضُ الفقهاء كفّارة اليمين بنوعٍ خاصّ من الطعام، حيث جاء في رواياتها ذكرُ الحنطة والشعير والخلّ والزيت([7]).

عَجَبٌ قولهم!

ولكنّ الذي يثير الاستغراب هو تأكيد بعض الفقهاء على الاقتصار في كفّارة اليمين والنذر على تسليم الحنطة أو دقيقها([8]).

وكذلك يثير العَجَب ما ذكره في حالة الإشباع (دعوة المساكين إلى مائدة طعامٍ) من أن «الأفضل أن يكون مع الإدام، وهو كلّ ما جرت العادة بأكله مع الخبز، جامداً أو مائعاً، وإنْ كان خلاًّ أو ملحاً أو بصلاً، وكلّما كان أجود كان أفضل»([9]).

منهجيتان ضروريّتان للفهم الصحيح

فلو تناولنا الروايات بمنهجيّة القراءة التاريخية ـ وهي المنهجيّة الأصحّ والأَجْدى في مقاربة الحديث الشريف ـ، وبالاشتراك مع منهجيّة العَرْض على القرآن الكريم، الذي يشهد بعضُه لبعضٍ، لاتّضح لنا سرُّ الاستغراب والعَجَب.

1ـ منهجيّة القراءة التاريخيّة للحديث الشريف

فصحيحٌ أن بعض الروايات ذكرَتْ من الإدام الخلّ والملح والزيت([10])، إلاّ أنها ذكرت أيضاً اللحم كسيّدٍ للطعام([11])، واللبن والسمن([12]). ومن هنا شاعت مقولتهم: «الإدام أعلاه اللحم، وأوسطه الخلّ، وأدناه الملح».

وعلى أيّ حالٍ فإنّ جميع ما ذُكر إنّما هو من باب المثال الخاصّ بذاك الزمان والمكان. ففي ذلك الزمان كانت غايةُ الغالب من الناس الحصولَ على مقدارٍ من الحنطة، يطحنونها بأنفسهم في بيوتهم (بالرحى / الجاروشة، ومن دون أيّ كلفةٍ أو أجرة)، ثمّ يعجنونها بالماء وعجينةٍ خميرة (وكلّ ذلك متوفِّرٌ بلا مالٍ)، ثمّ يخبزونها في موقدٍ يستمرّ مشتعلاً (دون أيّ كلفةٍ مادّية)، فيحصلون في نهاية المطاف على كسرةٍ من الخبز صالحةٍ للأكل، وقد يغمسونها في شيءٍ من اللبن أو السمن أو الزيت أو الخلّ أو الملح؛ للتخلُّص من خشونتها، ولتطييب مذاقها. هذا هو إدامهم المتعارف في تلك الأزمنة، والشائع بين عامّة الناس، يأكلونه، ويُطعمونه أهليهم.

وتختلف الأطعمة من مصرٍ لآخر، فإدام الشام يختلف عن إدام العراق، وإدام العراق يختلف عن إدام خراسان، وهكذا…

أما اليوم فقد تغيَّر الزمان، وتعدَّد المكان، وتنوَّعت الأطعمة والأشربة، واختلف الإدام، وصار الخلّ والملح والزيت والسمن واللبن جزءاً بسيطاً من الموادّ التي يُصنَع منها الإدام المركَّب واللذيذ.

ومن هنا ـ وبمنهجية القراءة التاريخية ـ نقطع بأنّه لم يعُدْ يكفي مثل ذاك الإدام (الزيت والسمن والخلّ والملح واللبن و…)، بل لا بُدّ من ضمّ إدامٍ من نوعٍ آخر، إدام هذا الزمان (اللحم والدجاج والسمك وسائر أنواع الحبوب والخضار، بل والفواكه أيضاً…).

ولقد أجاد بعض الفقهاء حيث قال: «والروايات المذكورة واردةٌ في ما كان متعارفاً في زمان صدورها»([13]).

ولكنّ العَجَب إصرارُه على كفاية الإشباع بالخبز وحده، دون الإدام، حيث قال: «ويكفيه أن يشبعه من خبز الحنطة وحده، ومن خبز غيرها، كالشعير والذرة والدخن وأشباهها، إذا كان متعارفاً وقوتاً لغالب الناس. والأفضل أن يضيف إليه إداماً يأكله معه»([14]).

وقد خصّ كفّارة اليمين بنوعٍ خاصّ من الطعام، فقال: «لا يترك الاحتياط في كفّارة اليمين وما بحكمها، من كفارة الإيلاء ونحوها، بأن يكون المُدّ الذي يدفعه إلى المسكين من الحنطة أو دقيقها أو خبزها أو من التمر»([15]).

2ـ منهجيّة الشهادة القرآنية

ولو اعتمدنا على منهجية شهادة بعض القرآن لبعضه الآخر لأدركنا خطأ ما ذكروه من كفاية الحنطة أو الدقيق أو الخبز أو التمر؛ فصحيحٌ أن الآيات القرآنية لم تحدِّد لنا نوع الطعام في كفّارة الظهار، حيث قالت: ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾ (المجادلة: 4)، ولا في كفّارة الصيد حين الإحرام، حيث قالت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً﴾ (المائدة: 95)، ولا في فِدْية عدم صوم شهر رمضان، حيث قالت: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ (البقرة: 184)، إلاّ أن الوضوح كان تامّاً في الآية التي بيَّنت كفّارة اليمين، حيث قالت: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ (المائدة: 89).

إذن المطلوب في الإطعام ـ سواءٌ كان بالإشباع أو بالتسليم ـ أن يكون الطعام من النوع الوَسَط الذي يُطعِمه المكفِّر لأهله، وهذا يرتبط بقدرته وإمكاناته، ويختلف من شخصٍ لآخر.

ولا نحتمل الخصوصية لكفّارة اليمين، فالكفّارات كلُّها في ذلك سواء، وإنّما ذُكر هذا القيد مرّةً واحدة فقط في موضع بيان كفّارة اليمين، لينسحب هذا القيد إلى سائر الكفّارات؛ لكونها أشباهاً ونظائر، ولا يُحتَمَل فيها الاختلاف([16]).

نظيرٌ في كلماتهم

ولهذه الآلية في الاستدلال نظائر في فتاوى الفقهاء، حيث نجدهم يسحبون قيد (الإيمان) في الرقبة المحرَّرة من كفّارة القتل الخطأ إلى سائر الكفّارات. فلو تتبَّعنا ما جاء في القرآن الكريم من بيان للكفارات لوجدناها أربعة:

1ـ كفّارة قتل الخطأ، ويقول تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ (النساء: 92).

2ـ كفّارة حنث اليمين، ويقول عزَّ وجلَّ: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة: 89).

3ـ كفّارة الظهار، ويقول جلَّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (المجادلة: 3 ـ 4).

4ـ كفّارة قتل الصيد حال الإحرام، ويقول عزَّ من قائلٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ﴾ (المائدة: 95).

وكما هو واضحٌ فإنّ الأخيرة ليس من أفرادها عتق الرقبة، فهي خارجةٌ عن محلّ الكلام. وأمّا في الثلاثة الأولى فلم يُذكَر قيد «مؤمنة» إلاّ في الآية الأولى، التي بيَّنت كفّارة القتل الخطأ، ومع ذلك فقد عمد الفقهاء إلى اعتبار هذا القيد في سائر الكفّارات، ككفّارة النذر([17])، وكفّارة الظهار([18])، وكفّارة اليمين([19])، وما ذلك إلاّ لإيمانهم بعدم الفرق بينها، واتّحاد المراد منها، وإنْ اختلف السبب.

وهذا الكلام نفسه يمكن تطبيقه على (الإطعام)؛ فالإطعام في كفّارة اليمين وفي سائر الكفّارات واحدٌ، وإنْ اختلف سببه. وما أُخذ قيداً في إطعام كفّارة اليمين هو قيدٌ قطعاً في الإطعام في سائر الكفّارات، وهو أن يكون الطعام من أوسط ما يُطْعِم كلُّ امرئٍ أهله، ويختلف باختلاف الأشخاص وإمكاناتهم المادّية، كما يختلف باختلاف الزمان والمكان.

النتيجة

إنّه لا يكفي اليوم في الكفّارة تسليم المسكين 750 غراماً من الحنطة أو الطحين أو الخُبْز؛ فإنّ الأوليان ليسا طعاماً جاهزاً للأكل، بل يتطلّب مؤنةً إضافيّة كي يصير قابلاً للأكل، وهذه المؤنة في زماننا هذا لا تتمثَّل بالجُهْد البدنيّ فحَسْب، كالاحتطاب والعَجْن والخَبْز، وإنّما تستلزم كلفةً ماليّة لا يملكها الفقير، ما يعني أنّه لن يستطيع أن يأكل الحنطة أو الدقيق في ساعته ويومه.

كما أن الخبز ليس طعاماً وَسَطاً لدى غالب الناس. فأغلب الناس إذا لم نقُلْ: كلّهم، لا يكتفون من الطعام بالخُبْز جافّاً، وإنّما يأكلونه مع الإدام المتنوِّع من يومٍ لآخر. فإذا أراد المكفِّر أن يُطعِم المساكين ـ العشرة أو الستّين ـ من أوسط ما يُطعم أهله؛ لتبرأ ذمّته بذلك، فلا بُدَّ أن يحتسب كلفة الطعام المُعَدّ في بيته لعدّة أيّامٍ (أسبوع أو 10 أيّام أو شهر)، واحتساب وزنه الإجماليّ، ثمّ يتمّ احتساب كلفة 750 غراماً من هذا الطعام. ذلك هو الإطعام الحقّ، وتلك هي الكفّارة المجزية، و﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ﴾ (المائدة: 27).

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) وهو صريح القرآن الكريم في آيات الكفارة والفِدْية، وهي:

1ـ كفّارة قتل الخطأ: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (النساء: 92).

2ـ كفّارة حنث اليمين: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (المائدة: 89).

3ـ كفّارة قتل الصيد حال الإحرام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (المائدة: 95).

4ـ كفّارة الظهار: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (المجادلة: 3 ـ 4).

5ـ فدية عدم الصوم في شهر رمضان: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ (البقرة: 184).

6ـ فدية حلق الرأس قبل ذبح الهَدْي: ﴿وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾ (البقرة: 196).

([2]) تعدَّدت مذاهب الفقهاء في مسألة مقدار إطعام المسكين؛ فمذهب الحنفية أنّه يجِب لكلّ فقيرٍ نصف صاعٍ من البُرّ ـ أي القمح ـ أو طحين القمح، أو صاعٌ من تمرٍ، أو صاعٌ من شعيرٍ؛ واعتمد الشافعية وجوب مُدٍّ واحدٍ من غالب قُوت البلد لكلّ فقيرٍ؛ وذهب المالكية إلى وجوب مُدٍّ من بُرٍّ لكلّ فقيرٍ، أو مقدار ما يكفي لإشباع المرء عادةً.

https://mawdoo3.com/%D9%85%D8%A7_%D9%85%D9%82%D8%AF%D8%A7%D8%B1_%D8%A7%D8%B7%D8%B9%D8%A7%D9%85_%D9%85%D8%B3%D9%83%D9%8A%D9%86

وأما مقدار الإطعام فمختلفٌ فيه بين العلماء؛ فمن أهل العلم مَنْ يرى أن مدّاً من الطعام يكفي، كقول الشافعية والمالكية؛ ومنهم مَنْ يرى أن المجزئ مدٌّ من بُرٍّ ـ أي قمح ـ ونصفُ صاعٍ من غيره، وهو قول الحنابلة؛ ومنهم مَنْ يرى أن المجزئ نصفُ صاعٍ من بُرٍّ وصاعٌ من غيره، وهو قول الحنفية. قال ابن قدامة في المغني: قدر الطعام في الكفّارات كلّها مدٌّ من بُرٍّ لكلّ مسكين، أو نصفُ صاعٍ من تمر أو شعير…. وقال أبو هريرة: يطعم مدّاً من أيّ الأنواع كان، وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي.

http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=242041

([3]) ومنها: ما رواه الكليني في الكافي 4: 101 ـ 102، عن عدّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع)، في رجلٍ أفطر من شهر رمضان متعمّداً يوماً واحداً من غير عذرٍ، قال: «يعتق نسمة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستّين مسكيناً، فإنْ لم يقدر تصدَّق بما يطيق». وإسنادُه صحيحٌ.

([4]) ومنها: ما رواه الطوسي في تهذيب الأحكام 4: 207، بسنده إلى سعد بن عبد الله، عن أبي جعفر، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيّوب، عن أبان بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن أبي عبد الله(ع)، قال: سألتُه عن رجلٍ أفطر يوماً من شهر رمضان متعمّداً؟ قال: «عليه خمسة عشر صاعاً، لكلّ مسكين مُدٌّ بمُدّ النبيّ(ص) أفضل».
وما رواه الطوسي أيضاً في تهذيب الأحكام 4: 320، بسنده إلى أحمد بن محمد، عن محمد بن الحسين، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة قال: سألتُه عن رجل لزق بأهله فأنزل؟ قال: «عليه إطعام ستّين مسكيناً، مُدٌّ لكلّ مسكين».

وما رواه الكليني في الكافي 4: 144، عن أبي عليّ الأشعري، عن محمد بن عبد الجبّار، عن صفوان بن يحيى، عن عيص بن القاسم قال: سألتُه عمَّنْ لم يصُمْ الثلاثة أيام من كلّ شهر، وهو يشدّ عليه الصيام، هل فيه فداءٌ؟ قال: «مُدٌّ من طعامٍ في كلّ يومٍ».

وما رواه الكليني أيضاً في الكافي 4: 387، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب؛ وعن عدّةٍ من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسن بن محبوب، [جميعاً]، عن عليّ بن رئاب، عن أبي عبيدة، عن أبي عبد الله(ع) قال: «إذا أصاب المحرم الصيد ولم يجِدْ ما يكفِّر من موضعه الذي أصاب فيه الصيد قوّم جزاؤه من النعم دراهم، ثم قوِّمت الدراهم طعاماً، لكلّ مسكين نصف صاع، فإنْ لم يقدر على الطعام صام لكلّ نصف صاع يوماً.

وما رواه الصدوق في مَنْ لا يحضره الفقيه 2: 358، مرسلاً: «مرّ النبيّ(ص) على كعب بن عجرة الأنصاري، وهو مُحْرِمٌ، وقد أكل القمل رأسه وحاجبَيْه وعينَيْه، فقال رسول الله(ص): ما كنت أرى أن الأمر يبلغ ما أرى، فأمره فنسك عنه نسكاً، وحلق رأسه بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ﴾، فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة على ستّة مساكين، لكلّ مسكين صاعٌ من تمر (ورُوي: مُدٌّ من تمر)، والنسك شاة، لا يطعم منها أحد إلاّ المساكين».

([5]) الخوئي، كتاب الصوم 1: 369.

([6]) راجِعْ فتاوى الفقهاء في رسائلهم العملية.

([7]) راجِعْ: الخوئي، كتاب الصوم 1: 370.

([8]) وعلى سبيل المثال، لا الحصر، انظر:

https://www.sistani.org/arabic/book/13/689/

https://www.sistani.org/arabic/book/16/907/

([9]) أيضاً انظر، على سبيل المثال، لا الحصر:

https://www.sistani.org/arabic/book/16/907/

([10]) راجع: البرقي، المحاسن 2: 440 ـ 441، 592.

([11]) راجع: البرقي، المحاسن 2: 459 ـ 460.

([12]) الكافي 6: 326، المحاسن 2: 498.

([13]) الشيخ محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 6: 472.

([14]) الشيخ محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 6: 472.

([15]) الشيخ محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 6: 472 ـ 473.

([16]) وما أروع ما عبَّر به صاحب الجواهر في هذا المقام، فقال: «بل لظهور اتحاد المراد بخصال الكفّارة وإنْ اختلف السبب، باعتبار كونها عبادة واحدة، بكيفيّة خاصّة، من غير مدخلية لاختلاف أسبابها، كالغسل مثلاً»! (جواهر الكلام 33: 195).

([17]) راجِعْ: الصدوق، المقنع: 411 ـ 412، حيث قال: «وإنْ نذر رجلٌ أن يصوم يوماً، فوقع ذلك اليوم على أهله، فعليه أن يصوم يوماً بدل يوم، ويعتق رقبة مؤمنة».

والسيد محمد سعيد الحكيم، منهاج الصالحين 1: 335، حيث قال: «كفّارة إفطار الصوم المنذور المعيَّن كفارة الحَنْث بالنذر، وهي عتق رقبةٍ مؤمنة أو إطعام عشرة مساكين…».

([18]) راجِعْ: الصدوق، المقنع: 411 ـ 412، حيث قال: «ويجزي في الظهار صبيٌّ ممَّنْ ولد في الإسلام».

([19]) الشيخ محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى 7: 232، حيث قال: «كفّارة الوطء بعد الإيلاء من الزوجة هي كفارة مخالفة اليمين، وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو عتق رقبة مؤمنة…».



أكتب تعليقك