«من زار الرضا(عليه السلام) فأصابه في طريقه قطرةٌ من السماء حرَّم الله جسده على النار»، دراسة تحقيقيّة
(بتاريخ: 19 ـ 5 ـ 2011م)
تمهيد
يعمد بعض الذين يرتقون المنبر الحسينيّ، ويرافقون المؤمنين الزائرين للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة(عليهم السلام)، إلى طرح مقولات حول الثواب الجزيل الذي يناله الزائر في زيارته.
وهذا أمرٌ حسنٌ؛ إذ فيه تشجيعٌ للمؤمنين على زيارة مشاهد النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته(عليهم السلام)، وذلك أمر مستحبٌّ ومطلوب.
غير أنّ بعض هؤلاء يطرح الموضوع بطريقةٍ بعيدةٍ عن الأمانة العلميّة في النقل والآليّة الصحية للفهم، ما يوجب الوقوع في بعض المحاذير العقائديّة، فينقلب فعله الحسن إلى قبيحٍ.
ذكر بعضهم أنّه قد ورد في بيان ثواب زوّار الإمام الرضا(عليه السلام) أنّه إذا أمطرت عليهم السماء وأصابتهم قطرة من الماء فإنّ الله سبحانه وتعالى يحرِّم أجسادهم عن النار، ويغفر لهم ذنوبهم كلّها، فيعودون كيوم ولدتهم أمّهاتهم.
فهل هذا صحيحٌ؟
الروايات، عرضٌ وتحليل
1ـ جاء في «عيون أخبار الرضا(عليه السلام)»، للشيخ الصدوق(381هـ): «حدَّثنا محمد بن أحمد السناني[مجهول]، قال: حدَّثنا أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي[ثقة]، قال: حدثني سهل بن زياد الآدمي[ضعيف]، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني[ثقة]، قال: سمعت عليّ بن محمد العسكري[الإمام الهادي](عليه السلام) يقول: أهل قم وأهل آبة مغفورٌ لهم لزيارتهم لجدي علي بن موسى الرضا(عليه السلام) بطوس، ألا ومَنْ زاره فأصابه في طريقه قطرةٌ من السماء حرَّم الله جسده على النار»([2]).
2ـ وجاء فيه أيضاً: «حدَّثنا محمد بن علي ماجيلويه[مجهول]، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم[ثقة]، عن أبيه[مجهول]، عن عبد السلام بن صالح الهروي[أبو الصلت، ثقة]، قال: سمعت الرضا(عليه السلام) يقول: إني سأقتل بالسمّ مظلوماً، وأقبر إلى جنب هارون، ويجعل الله تربتي مختلف شيعتي وأهل محبَّتي، فمَنْ زارني في غربتي وجبت له زيارتي يوم القيامة. والذي أكرم محمداً(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالنبوّة، واصطفاه على جميع الخليقة، لا يصلّي أحدٌ منكم عند قبري ركعتين إلاّ استحق المغفرة من الله(عزّ وجلّ) يوم يلقاه. والذي أكرمنا بعد محمد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإمامة، وخصَّنا بالوصية، إنّ زوّار قبري لأكرم الوفود على الله يوم القيامة، وما من مؤمن يزورني فيصيب وجهه قطرة من الماء إلاّ حرَّم الله تعالى جسده على النار»([3]).
وهكذا نلاحظ أنّ هذه الأحاديث لم ترِدْ سوى في كتابٍ حديثيٍّ واحد، وهو «عيون أخبار الرضا(عليه السلام)»، للشيخ الصدوق، ولم يورِدْها غيره من العلماء والمحدّثين الأوائل في كتبهم، الأمر الذي يجعلنا في مقام الشكّ في صحّتها وصدورها من المعصوم(عليه السلام).
ولو لم يكن لما ذكرناه أيّة دلالة على الضعف فإنّ متابعة حال الرواة في كتب الرجال المعتمدة توصلنا إلى أنّ في سند كلٍّ من الروايتين خللاً وضعفاً.
أمّا الرواية الأولى ففي سندها راوٍ مجهولُ الحال، وهو محمد بن أحمد السناني، وراوٍ ضعيف، وهو سهل بن زياد الآدمي، فكيف يمكن الاعتماد عليها؟!
وأمّا الرواية الثانية ففي سندها راويان مجهولا الحال، وهما: محمد بن علي ماجيلويه، وإبراهيم بن هاشم، فكيف يصحّ الاستدلال بها؟!
النقاش في دلالة هاتين الروايتين على المدَّعى
ولو سلّمنا صدور هاتين الروايتين من المعصوم(عليه السلام) فإنّ النقاشَ في دلالتهما على ما ذكره ذلك البعض كبيرٌ جدّاً.
رواياتٌ مشابهةٌ
1ـ روى الكلينيّ(329هـ) في الكافي، عن علي بن إبراهيم[ثقة]، عن أبيه[مجهول]، عن النوفلي[مجهول]، عن السكوني[مجهول]، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): أخبرني جبرئيل(عليه السلام) بأمر قرّت به عيني وفرح به قلبي، قال: يا محمد، مَنْ غزا من أمّتك في سبيل الله فأصابه قطرةٌ من السماء أو صداعٌ كتب الله(عزّ وجلّ) له شهادة([4]).
ورواه أيضاً عن عدة من أصحابنا[ثقات]، عن أحمد بن محمد بن خالد[البرقيّ، ثقة]، عن أبي البختري[ضعيف]، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن جبرئيل أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح به قلبي، قال: يا محمد، مَنْ غزا غزاة في سبيل الله من أمّتك فما أصابه قطرةٌ من السماء أو صداعٌ إلاّ كانت له شهادة يوم القيامة([5]).
2ـ ورواه الصدوق(381هـ) في الأمالي، عن علي بن عيسى[المجاور، مجهول]، عن علي بن محمد ماجيلويه[مجهول]، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي[البرقيّ، ثقة]، عن أبيه[مجهول]، عن وهب بن وهب القرشيّ[ضعيف]، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن جبرئيل(عليه السلام) أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح له قلبي، قال: يا محمد، مَنْ غزا غزاة في سبيل الله من أمّتك، فما أصابته قطرةٌ من السماء أو صداعٌ إلاّ كانت له شهادة يوم القيامة([6]).
3ـ ورواه الصدوق(381هـ) في ثواب الأعمال، عن أبيه)[ثقة]، عن سعد بن عبد الله[ثقة]، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي[البرقيّ، ثقة]، عن أبيه[مجهول]، عن وهب بن وهب[ضعيف]، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده(عليهم السلام) قال: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن جبرئيل(عليه السلام) أخبرني بأمر فقرّت به عيني وفرح به قلبي، قال: يا محمد، مَنْ غزا غزوة في سبيل الله من أمّتك فما أصابته قطرةٌ من السماء أو صداعٌ إلاّ كان له شهادة يوم القيامة([7]).
4ـ ورواه الطوسيّ(460هـ) في تهذيب الأحكام، بسنده عن محمد بن أحمد بن يحيى[صحيح: 481]، عن أبي جعفر[البرقيّ، ثقة]، عن أبيه[مجهول]، عن وهب[ضعيف]، عن جعفر، عن أبيه’ قال: قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن جبرئيل(عليه السلام) أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح به قلبي، قال: يا محمد، مَنْ غزا غزوة في سبيل الله من أمّتك فما أصابته قطرةٌ من السماء أو صداعٌ إلاّ كانت له شهادة يوم القيامة([8]).
5ـ ورواه الفتّال النيسابوريّ(508هـ) في روضة الواعظين، مرسَلاً عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن جبرئيل(عليه السلام) أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح له قلبي، فقال: يا محمد، مَنْ غزا غزاة في سبيل الله من أمّتك فما أصابته قطرةٌ من السماء أو صداعٌ إلاّ كانت له شهادة يوم القيامة([9]).
6ـ ورواه ابن أبي جمهور الأحسائيّ(880هـ) في عوالي اللآلي، مرسَلاً عنه(صلّى الله عليه وآله وسلّم): إن جبرئيل أخبرني بأمر قرّت به عيني وفرح به قلبي، قال: يا محمد، مَنْ غزا غزاة في سبيل الله من أمّتك فما أصابته قطرةٌ من السماء أو صداعٌ إلاّ كانت له شهادة يوم القيامة([10]).
وهذه الروايات ـ كما تلاحظ ـ ضعيفةٌ كلُّها، غير أنّ مضمونها مقبولٌ ويُحتَمَل صدوره منهم(عليهم السلام).
المعنى الصحيح لهذه الروايات
ولكن ما هو معنى «أصابته قطرة من السماء أو صداع»؟ وهل هي بمعناها الحقيقيّ أو أنّها تعبير مجازيّ عن شيءٍ ما؟
الصحيح أنّها تعبيرٌ كنائيّ مجازيّ، والمراد أنّ الله(عزّ وجلّ) لمّا كان يعلم ما في الجهاد من المشقّة والتعب، وهي أقصى درجات التعب والنصب، ولمّا كان يحبّ الجهاد في سبيله، ويريد للناس أن يخرجوا إليه، فقد وعدهم الأجر الكبير والثواب الجزيل على أيّة مشقّة زائدة على مشقّة الجهاد الأصليّة، ولو كان ذلك بمقدار قطرةِ ماءٍ من السماء أو وجعٍ في الرأس (الصداع).
المعنى الحقيقيّ = محاذير عقائديّة
ولو لم نحمل هذا التعبير على الكناية والمجاز فإنّه يلزم من هذه الروايات عدّة محاذير، ومنها:
1ـ إنّ ذلك خلاف سياقات الوعد بالجزاء والثواب، فالوعدُ يكون عادةً في مقابل المشقّة والتعب.
وهنا نستطيع أن نتفهَّم الوعد بالثواب الزائد إذا أصابه الصداع، وأمّا إذا أصابته بعض قطراتٍ من السماء، أي من ماء المطر، فما هو التعب والنصب الحاصل له؟!
إنّه على العكس من ذلك، فالمجاهد في تلك الصحراء القاحلة يفرح لهطول بعض قطراتٍ من ماء المطر عليه، حيث يعود إليه نشاطه وحيويّته، وإلى هذا يشير قوله تعالى، في حديثه عن معركة بدر: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ﴾ (الأنفال: 11).
إذاً إنّ إصابة بعضٍ من قطرات ماء المطر للمجاهد لا تستلزم أن يكون ثوابه أزيد ممَّنْ لم تُصِبْه تلك القطرات؛ فإنّ تلك القطرات رحمةٌ وفرحٌ وسرورٌ له، وليست مشقّةً ولا تعباً ولا نصباً.
2ـ إنّ الالتزام بأنّ نزول بعض القطرات من السماء ـ وهو أمرٌ غير اختياريّ للإنسان ـ وإصابته للمجاهد في سبيل الله أو للمؤمن الزائر للإمام الرضا(عليه السلام) يجعل ثوابه أكبر من ثواب المؤمن الذي رجع إلى بلاده قبل أن تصيبه تلك القطرات ينافي الاعتقاد بالعدل الإلهيّ، فكيف يثيب الله إنساناً على شيءٍ لم يكن له فيه أيّ اختيار في حين يحرم الآخرين منه؟!
إذاً في هذه الروايات ـ إذا حملنا عبارة «أصابته قطرة من السماء أو صداع» على معناها الحقيقي ـ ما ينافي اعتقادنا بالعدل الإلهيّ، فحريٌّ بنا أن نحذر أمثالَ هذه التفسيرات الخاطئة والمغلوطة، والتي ربما ذهبت بديننا.
معنى الروايتين ـ محلّ البحث
وبالعودة إلى محلّ البحث، وهو ثواب الزائر المؤمن للإمام الرضا(عليه السلام)، نقول:
إنّ قوله(عليه السلام): «فأصابه في طريقه قطرة من السماء»، أو «فيصيب وجهه قطرة من الماء»، لا بدّ أن يُحمَل على المعنى المجازيّ الذي ذكرناه في ما تقدّم.
وإنّ في متن الروايتين ما يدلّ ويؤيِّد هذا الحمل.
ففي الرواية الأولى: «أهل قم وأهل آبة مغفورٌ لهم لزيارتهم لجدي علي بن موسى الرضا(عليه السلام) بطوس، ألا ومَنْ زاره فأصابه في طريقه قطرةٌ من السماء حرَّم الله جسده على النار». فكأنّه يريد الإشارة إلى أنّ السفر إلى طوس، ذلك البلد البعيد في أقاصي العالم الإسلاميّ آنذاك، فيه من المشقّة والتعب ما لا يعلم حقيقته وقَدْره إلاّ الله(عزّ وجلّ)، ومن هنا فقد وعد الله مَنْ سافر إليه للزيارة بالثواب الجزيل والأجر الكبير، واعتبر أنّ أيّة زيادة في المشقّة الأصليّة تستوجب رحمة مفتوحةً بلا حساب، وثواباً عظيماً لا حدود له. وبالتالي لا يكون لقطرات المطر خصوصيّةٌ في هذا المقام، وإنّما هي كنايةٌ عن أدنى درجات المشقّة الزائدة.
وفي الرواية الثانية: «فمن زارني في غربتي وجبت له زيارتي…، إن زوّار قبري لأكرم الوفود على الله يوم القيامة، وما من مؤمنٍ يزورني فيصيب وجهه قطرةٌ من الماء إلاّ حرَّم الله تعالى جسده على النار». وفيها من الإشارة إلى الغربة وبُعْد المكان ما لا يخفى على ذي مسكةٍ، والكلام فيها هو الكلام المتقدِّم في الرواية الأولى.
النتيجة
وخلاصة القول: إنّ على المؤمن الكيِّس الفطن أن يسمع لما يُقال هنا وهناك بعقلٍ واعٍ، ويعرض ما يسمعه على عقله وعقائده الأساسيّة الثابتة، فما وافقها أخذ به، وما خالفها تركه لصاحبه. وهذا هو الطريق الوحيد لكي يأمن الإنسان المؤمن على نفسه من الوقوع في مزالق الخرافات والغلوّ، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179).
﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 286).
الهوامش
([1]) باحث وأستاذ في الحوزة العلميّة في مدينة قم المقدّسة. حائز على دبلوم الدراسات العليا في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللبنانيّة، وماجستير في علوم القرآن والحديث من كليّة أصول الدين ـ قم. مدير تحرير مجلّتَيْ: «نصوص معاصرة» و«الاجتهاد والتجديد».
([2]) الصدوق، عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 291.
([3]) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1: 249.
([4]) الكلينيّ، الكافي 5: 3.
([5]) الكلينيّ، الكافي 5: 8.
([6]) الصدوق، الأمالي: 673.
([7]) الصدوق، ثواب الأعمال: 189.
([8]) الطوسيّ، تهذيب الأحكام 6: 121.
([9]) الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين: 362.
([10]) ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللآلي 3: 182.