الحلقة 12 من برنامج (آيات)، على قناة الإيمان الفضائية: (الحجاب)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ (الأحزاب: 53) (صدق الله العليّ العظيم).
إنّه الحجاب، الموضوع الإشكاليّ الحاضر دوماً وبقوّةٍ على طاولة البحث والتحقيق العلميّ، كما في جلسات النقاش والجدل الدينيّ القائم بين الأديان والمذاهب وسائر أطياف المجتمع.
هي أسئلةٌ لا تغيب عن هذه الجلسات: هل يمثِّل الحجاب حالةَ تخلُّف؟ وهل هو انتقاصٌ صارخ من مكانةِ المرأة واحترامها وإنسانيّتها؟ ولماذا تُلزَم المرأةُ بالحجاب دون الرجل؟ وغيرُها من الأسئلة التي نسمعها في كلِّ نقاشٍ أو جدال حول الستر والحجاب.
وقبل الخوض في الإجابة عن هذه الأسئلة نستمع وإيّاكم ـ مشاهدينا الكرام ـ إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه.
1ـ هل يدلّ الحجاب على التخلُّف؟
مشاهدينا الكرام، يستنكر البعض وصف الحجاب بحالة تخلُّف، ويعتبرونه قِمَّةَ الحضارة، ونوعَ تطوُّرٍ للمجتمع، مستشهدين بطريقة التعاطي مع المحجَّبات وغيرهنَّ؛ داعين إلى حجابٍ حديث متوافقٍ مع العصر، ولا يخرج عن حدِّ الالتزام الشرعيّ المطلوب والواجب.
وفي معرض الجواب عن هذا السؤال: هل يمثِّل الحجابُ حالةَ تخلُّفٍ؟ لا بدّ من ذكر مقدِّمات، يتَّضح الجوابُ تلقائيّاً بعد استعراضها.
يقول الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ (الأحزاب: 53).
وهذه دعوةٌ إلهيّةٌ لاحتجاب نساء النبيّ(ص) عن الرجال، وفيها أمرٌ للرجال بضرورة عدم الاختلاط بنسائه(ص) والدخول عليهنّ؛ لئلاّ يطمع الذي في قلبه مرضٌ، وفي عينه زيغٌ، وقد كانوا؛ فقد قيل: إنّ السبب في نزول تتمّة هذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً﴾ أنّه لمّا تُوفّي أبو سلمة وحُبَيْش بن حُذَافة، وتزوَّج رسول الله(ص) امرأتَيْهما أمَّ سلمة وحفصة، قال بعضُ أصحاب النبيّ(ص): أينكح محمدٌ نساءَنا إذا مِتْنا، ولا ننكح نساءَه إذا مات، واللهِ لئن مات لأَجَلْنا على نسائه بالسهام، وكان أحدهما يريد عائشة، والآخر يريد أمَّ سلمة، فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً * إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ (الأحزاب: 53 ـ 54).
ولم يكن هذا هو الحكم الوحيد لنساء النبيّ(ص) في تعاطيهنَّ مع الرجال، بل جاء في القرآن الكريم توصيةٌ أخرى، فقال: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب: 32 ـ 33).
ثمّ بيَّنَتْ الآياتُ الكريمة أصنافَ الرجال الذين يحلُّ لهم مخالطةُ أزواجِ النبيّ(ص) حَصْراً فقالت: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً﴾ (الأحزاب: 55).
وما تقدَّم خاصٌّ بنساء النبيّ(ص)، إلاّ أنَّه قد تشاركهنَّ في بعضه بقيّة النساء، كما في عدم الخضوع بالقول، والدلال في الحديث، والغنج في الكلام، والابتذال في المنطق، فيطمع ذوو النفوس المريضة في الفاحشة والخيانة والمنكَر.
غير أنّ القرآن الكريم لم يترك النساء المؤمنات دون أن يبيِّن لهنَّ وظيفتهنَّ بشكلٍ واضحٍ وصريح، فقال مخاطباً نبيَّه الأكرم محمداً(ص): ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (الأحزاب: 59).
وقد كان المنافقون والفاسدون من أهل المدينة يتعرَّضون للجواري والإماء الكاشفات لشعورهنّ ورقابهنّ عادةً، بل يتعرَّضون لمَنْ يرَوْن أنّها قد تستجيب لهم؛ بسبب كونها كاشفةً عن بعض جسدها، فأراد الله للمؤمنات أن يتميَّزْنَ عن تلك النساء، ويتستَّرْنَ بشكلٍ كامل وتامّ، فأمر بإدناء الجلباب، فليس المهمُّ أن تلبس المرأة الجلباب فحَسْب، بل لا بدّ أن تُدْنيه وتستر به كامل أعضاء جسدها؛ لكي تتميَّز عن السافرات من النساء، فلا يرجو فاسقٌ النيلَ منها.
ثمّ جاء الأمر الإلهيّ المفصَّل، الذي لا يدعُ مجالاً للشكِّ والرَّيْب في وجوب الستر والحجاب، ويبيِّن حدودَه، وأهدافَه، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 30 ـ 31).
إذن فالممنوع هو إبداء الزينة ـ إلاّ ما ظهر منها ـ، الزينة التي تلفت نظر الرجل الأجنبيّ، وتثير شهوتَه وغريزته، وتجعل من نظرات الريبة الصادرة منه سهاماً شيطانيّة تستهدف إيمانَه وعفّته وطهارته، كما إيمان المرأة وعفّتها وطهارتها، فيُقدِمان على الفاحشة والمنكر، وساء سبيلاً.
وعليه فلا ينبغي الرَّيْب في أنّ التنزُّهَ عن النظر الشهوانيّ، والسترَ والحجابَ، حكمٌ إلهيٌّ لا محيص للمؤمنين والمؤمنات عن الالتزام به. والالتزام بحكم الله هو ميزان الإيمان وصدقه، فلا يكون الشخص مؤمناً بمجرّد دعواه الإيمان، وإنّما يُعرَف المؤمن من غيره بالتزامه تعاليم الله التي يخبر بها أنبياؤه الكرام(عم): ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِي مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ (النساء: 65). فحتّى الحرجُ والضيق والانزعاج ممنوعٌ إذا ما كان الأمر مرتبطاً بحكم الله ورسوله. وما كان حكماً إلهيّاً فلا يمكن أن يمثِّل حالة تخلُّف، بل هو بلا شكٍّ ولا ريب لمصلحة الإنسان الفرد، والمجتمع البشريّ عموماً؛ إذ هو تشريعٌ وتدبيرٌ من الخالق المصوِّر العالم بأسرار الخِلْقة، وكوامن النفس، وحاجات الجسد والروح معاً، سبحانه وتعالى ربّ العالمين.
ولكنْ لو أردنا أن نُقنع مَنْ لم يسلِّم للحكم الشرعيّ، وحاول أن يتملَّص منه بأسباب وأعذار شتّى، حتَّى وصل الأمر ببعضهم إلى القول: إنّ الحجاب ليس حكماً شرعيّاً، وإنّما هو تشريعٌ تنظيميّ، بمعنى أنّ المجتمع آنذاك كان يتطلَّب مثل هذا الحجاب، وأمّا اليوم فقد زالت الأسباب الموجِبة لمثل هذا الحجاب، وكأنَّه يقول: ليس لجسدِ المرأة ولباسِها اليومَ من تأثيرٍ على الرجل، فمهما كشفت من جسدها، ولبست من زينتها، فستبقى نظرتُه إليها نظرةً إنسانيّة، فلهذا جوابٌ مفصَّلٌ، ولكنْ بعد أن نستمع وإيّاكم ـ مشاهدينا الكرام ـ إلى هذا التقرير، فلنتابِعْ.
2ـ هل للباس تأثيرٌ على الجنس الآخر؟
مشاهدينا الكرام، تنوَّعت الأجوبة في هذا التقرير، بين مَنْ يرى أنّ الحشمة في اللباس مدعاةٌ للاحترام؛ ومَنْ يرى أنّ المهمَّ نفسيّةُ الرجل، والمطلوب منه أن يغضَّ بصرَه عن النساء الفاتنات.
«يحرم على المرأة أن ترتدي من الثياب ما يكشف شيئاً من جسدها، أو يبرز مفاتنها، أو يلفت أنظار الرجال إليها». هي كلماتٌ يردِّدُها علماء الدين كثيراً، فما هي الحِكْمة من ذلك الحكم؟ أو فقُلْ: هل صحيحٌ أنّ الثياب التي ترتديها المرأة قد تؤدِّي إلى فسادٍ اجتماعيّ، وانحلالٍ خُلُقيّ؟
من الواضح جدّاً أنّ للباس دوراً كبيراً في لفت النظر، ولذا تعتني الفتيات والسيّدات باختيار ملابسهنّ، حيث يعرفْنَ ما لذلك من تأثيرٍ في الطرف المقابل، سواءٌ كان رجلاً أو امرأة، فتكون الفتاة أو السيّدة ذات الثياب الجميلة محطَّ إعجاب. وكذلك يفعل الرجال، وإنْ باهتمامٍ أقلّ من اهتمام النساء.
وكذلك هي حال الثياب التي تكشف شيئاً من الجسم، فإنَّها تكون سبباً مباشراً في لفت نظر الجنس الآخر إلى ما يحبُّونه ويعجبهم فيه، فتثور كوامنُ الغرائز، وتشتهي ما لا يحقّ لها تناوله، ويُستَرَق البصرُ إلى شيءٍ من ذلك؛ فتكون الخيانة.
وميلُ الرجل إلى جسد المرأة ورغبته فيه، وكذا ميلُها إلى جسد الرجل ورغبتها فيه، أمرٌ ضروريّ وفطريّ ـ بل إنّ عدمه يُعتبر مَرَضاً وعَيْباً ونَقْصاً ـ، وينبغي إشباعُه، ولكنْ بالطريقة المشروعة، ألا وهي الزواج، وليس من خلال علاقاتٍ عاطفيّة عابرة ودنيئة.
وقد كان أستاذنا المرجع فضل الله(ر) يقول: إنّ المرأة والرجل كالبنزين والنار، لا يمكن أن تجعلهما يقتربان من بعضهما كثيراً، وإلاّ ستكون الكارثة (الحريق).
إنّ انجذاب الرجل إلى الفتاة، وانجذاب الفتاة إلى الرجل، بل إنّ انجذاب كلِّ طرفٍ إلى جسد الطرف الآخر، هو انجذابٌ فطريّ ضروريّ ومشروع، بل هو أمرٌ غيرُ إراديّ، كما ينجذب الجائع إلى الطعام من خلال ما يشمُّه من رائحته الشهيّة. غير أنّه ينبغي لهذا الانجذاب وما يستتبعه من علاقةٍ حميمة أن يقنَّن وينظَّم من خلال مؤسَّسة الزواج، لا من خلال الفوضى القاتلة والمدمِّرة.
إنّ حاجة الرجل إلى المرأة، وحاجة المرأة إلى الرجل أيضاً، من قبيل حاجتهما إلى الطعام والشراب، ولكنْ هل يرضى الشخصُ لنفسه أن يكون دنيء النفس، فيتناول كلَّ ما يجده أمامه، ولو كان فيه هلاكُه وضررُه.
على الرجل والمرأة أن يسعيا في هذا المجال لإشباع حاجتهما من خلال التأسيس لحياةٍ زوجيّة (حياة المودّة والرحمة والسكينة والاطمئنان)، وهكذا يعيشان في رَغَدٍ وهَناء، وفي ظلّ رضا الله عزَّ وجلَّ، وبعيداً عن أيِّ خطرٍ أو ضرر أو أذى.
وما أجمل هذا الدرس من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، حيث جاء في الخبر «أنّه(ع) كان جالساً في أصحابه فمرَّتْ بهم امرأةٌ جميلة، فرمقها القومُ بأبصارهم [على عادة الشباب هذه الأيّام، يتحرَّشون بالنساء في الطرقات]، فقال(ع): إنّ أبصارَ هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سببُ هَبابها، فإذا نظر أحدُكم إلى امرأةٍ تعجبه فليلامِسْ أهلَه، فإنَّما هي امرأةٌ كامرأة، فقال رجلٌ من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القومُ [أي أصحاب الإمام(ع)] ليقتلوه، فقال(ع): رويداً، إنَّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنبٍ»([1]).
ما أعظمَك يا مولاي يا عليّ! لم يعنِّفْ، لم يوبِّخْ، بل أرشد وعلَّم، فهدى الله به أقوماً ضلُّوا، وصدق الله حيث يقول لرسوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: 7).
أما وقد ثبت وجوب الستر والحجاب على المرأة، ووجوب غضِّ البصر على المرأة والرجل على السواء، بالنصّ والعقل، فما هي معايير الحجاب الشرعيّ؟ أيُّها الأحبّة، نستعرض الإجابة بعد أن نستمع وإيّاكم إلى هذا التقرير، فلنتابعْه.
3ـ ما هي معايير الحجاب الشرعي؟
تبدّى ممّا تقدَّم، وأشارت إليه الأجوبة في التقرير، أنّ المطلوب والواجب هو الستر التامّ والكامل لكلّ ما يُعجب الرجل ويشتهيه من جسد المرأة ، وعدم إبداء الزينة التي تلفت النظر، فينجرّ إلى نظرة شهوانيّة غرائزيّة دنيّة، بعيداً عن النظرة الإنسانيّة الراقية.
ومن هنا يحرم كلُّ لباسٍ شفّاف أو ضيِّق يحكي ما تحته من الجسد، وكأنَّه غيرُ موجود.
كما يحرم من اللباس ما كان ملوَّناً ومزيَّناً بحيث يشدّ الانتباه، ويستدعي التركيز.
كما يحرم وضع العطر الفوّاح، الذي يشدّ بعبَقه وشذاه كلّ مَنْ يشمّه، وفيهم الرجال الأجانب.
كما يحرم وضع الأصباغ (الماكياج) والكُحْل وكلِّ ما يكون مدعاةً للفت الأنظار، ويسترعي الانتباه.
وكذلك يحرم إبداء القُرْطَيْن (الحَلَق) في الأذنين، والعِقْد في الرقبة، والسوار في المِعْصَم أو الزَّنْد، والخلخال في الرجل أو الساق.
وأمّا الخاتم في الإِصْبَع فإنْ كان للزينة فهو حرامٌ. ومنه يتَّضح حكم الخاتم من «الأحجار الكريمة» المعروفة، كالعقيق والفيروزج ونحوهما، الذي شاع في الآونة الأخيرة لُبْسُه من قبل النساء المؤمنات، بحجّة أنّه ليس من الزينة، وإنّما هو سنّةٌ مستحبّةٌ؛ فإذا ثبت استحباب لبسه للرجال والنساء شرعاً كان لبس النساء له بهذا القصد حلالاً ومشروعاً؛ وأمّا إذا لم يثبت استحبابه يكون حراماً. ومن هنا تتَّضح أهميّة البحث في استحباب التختُّم بهذه الأحجار، للنساء والرجال معاً.
وكذلك يتّضح حكم خاتم الزواج (المَحْبَس)، فإنّ الهدف منه الإشارة إلى الارتباط الزوجي؛ بهدف تحديد إطار العلاقة مع المرأة، ومن هنا كان شكلُه بسيطاً، لا زخرفة فيه ـ وليته يبقى كذلك ـ، فلا يُعدُّ من الزينة، ويجوز للمرأة لبسه، وإبرازه أمام الرجال الأجانب.
وبالملاك المتقدِّم تحرم مصافحةُ الرجال للنساء، بل كلُّ ملامسةٍ لأجسادهنّ، والعكس أيضاً؛ إذ هي ممّا يحرِّك الغريزة والشهوة في كلّ جنسٍ تجاه الجنس الآخر.
وقد رُوي عن مولانا الصادق(ع) أنّه قال: «لمّا فتح رسول الله(ص) مكّة بايع الرجال، ثم جاء النساء يبايعنَه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الممتحنة: 12)، فقالت هند: أمّا الولد فقد ربَّينا صغاراً وقتلتَهم كباراً، وقالت أمُّ حكيم بنت الحارث بن هشام، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله، ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أنْ لا نعصينَك فيه؟ قال: لا تَلطِمْنَ خدّاً، ولا تَخمشْنَ وجهاً، ولا تَنتِفْنَ شعراً، ولا تَشقُقْنَ جيباً، ولا تُسَوِّدْنَ ثوباً، ولا تَدْعينَ بويلٍ، فبايَعَهُنّ رسولُ الله(ص) على هذا، فقالت: يا رسول الله، كيف نبايعك؟ قال: إنَّني لا أصافح النساء، فدعا بقَدَحٍ من ماءٍ، فأدخل يده، ثم أخرجها، فقال: أدخِلْنَ أيديَكُنَّ في هذا الماء، فهي البيعة»([2]).
وروَتْ عائشةُ زوجُ النبيّ(ص) فقالت: «ما مسَّتْ يدُ رسولِ الله يدَ امرأة قطّ، ما كان يبايعهنَّ إلاّ بالكلام»([3]).
ولنفس الملاك أيضاً يحرم ترقيق الكلام، وتضمينه أيّ نوعٍ من الغُنْج والدَّلال؛ فإنّه مدعاةٌ للفساد والشهوة الحرام.
ويؤكِّد أنّ الملاكَ في وجوب الستر والحجاب على المرأة هو أنّ عدمَ الستر وكشفَ الجسد مدعاةٌ للشهوة الحرام، والاندفاع نحو الفاحشة والمنكَر، ما جاء من الترخيص للعجائز أن يكشفْنَ بعض المناطق من أجسادهنَّ، بعيداً عن أيِّ زينةٍ، فقال عزَّ من قائلٍ: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور: 60).
وإلى هذا المعنى يشير ما رُوي عن الرضا(ع) أنّه قال: «حَرُم النظر إلى شعور النساء المحجوبات بالأزواج، وغيرهنَّ من النساء؛ لما فيه من تهييج الرجال، وما يدعو التهييج إلى الفساد، والدخول في ما لا يحلّ ولا يُحمَل. وكذلك ما أشبه الشعور، إلاّ الذي قال الله تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾، غير الجلباب، ولا بأس بالنظر إلى شعور مثلهنَّ»([4]).
نعم، لا يجب على المرأة أن تستر وجها ويديها؛ لما رَوَتْه عائشةُ أنّ أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله(ص)، وعليها ثيابٌ رقاق، فأعرض عنها رسولُ الله(ص)، وقال: «يا أسماء، إنّ المرأةَ إذا بلغت المحيض [وهو سنّ البلوغ للمرأة] لم يصلح أن يُرى منها إلاّ هذا وهذا»، وأشار إلى وجهه وكفَّيْه([5]).
اللهمّ اغضُضْ أبصارَنا عن الفجور والخيانة، وامنُنْ على النساء بالحياء والعفّة، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
والسلام عليكم ـ مشاهدينا الكرام ـ ورحمة الله وبركاته.
الهوامش
([1]) نهج البلاغة: 4: 98، الموعظة 420.
([2]) الكليني، الكافي 5: 527. وسند الحديث: عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان، عن أبي عبد الله(ع). والسند ضعيفٌ؛ للتوقُّف في روايات إبراهيم بن هاشم.
([3]) صحيح البخاري 6: 173. وسند الحديث: حدَّثنا يحيى بن بكير: حدَّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب؛ وقال إبراهيم بن المنذر: حدَّثني ابن وهب: حدَّثني يونس: قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير.
([4]) الصدوق، علل الشرائع 2: 564 ـ 565، باب 364، علّة تحريم النظر إلى شعور النساء المحجوبات. وسند الحديث: حدَّثنا عليّ بن أحمد(ر) قال: حدَّثنا محمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن إسماعيل، عن عليّ بن العبّاس قال: حدَّثنا القاسم بن الربيع الصحّاف، عن محمد بن سنان، عن الرضا(ع)، أنّه كتب في ما كتب من جواب مسائله. وهذا السند ضعيفٌ.
([5]) سنن أبي داوود 2: 270، باب في ما تُبدي المرأة من زينتها. وسند الحديث: حدَّثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمّل بن الفضل الحرّاني، قالا: حدَّثنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد بن دريك، عن عائشة. وقال أبو داود: هذا مرسلٌ؛ فخالد بن دريك لم يدرك عائشة. وقال البيهقي في (السنن الكبرى 2: 226): مع هذا المرسل قولُ مَنْ مضى من الصحابة في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة، فصار القول بذلك قويّاً.