5 يونيو 2014
التصنيف : حوارات
لا تعليقات
3٬128 مشاهدة

الأسرة بين شراهة الاستهلاك ومحدوديّة الدخل

دعاية برنامج ولكن نلتقي ـ الأسرة بين شراهة الاستهلاك ومحدودية الدخل

حوارٌ مع سماحة الشيخ محمد عباس دهيني

أجرته الإعلاميّة حنان ضيا، على شاشة قناة العالم الفضائيّة

ضمن برنامج (ولكنْ نلتقي)، بتاريخ: الأربعاء 28 ـ 5 ـ 2014م

* كيف تستطيع الأسرة التوفيق بين شراهة الاستهلاك ومتطلَّبات الحياة المتشعِّبة وبين محدوديّة الدَّخْل؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).

فالإنسان بطبعه الأوّليّ يميل إلى مباهج وزخارف هذه الدنيا، فيطلبها، ويطلب الزيادة في كُلِّ ما يُعطاه منها.

ولكنْ لا بُدَّ للعاقل والحكيم، وكلٌّ يدَّعي العَقْل والحِكْمة، أنْ يلحظ أنّ الناس غير متساوين في الإنتاج والدَّخْل؛ وذلك لحِكْمة إلهيّة، بما فيه مصلحةُ المجتمع البشريّ: ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً﴾ (الزخرف: 32). فلو كان الناس كلُّهم طبقةً واحدة، وفي مستوى مادِّيٍّ ومعيشيّ واحد لأنِف كلٌّ منهم أنْ يعمل شيئاً للآخر، في حين أنّ النظام الاجتماعيّ لا يستمرّ إلاّ بذاك التعاون:

الناسُ للناسِ من بَدْوٍ ومن حَضَرٍ

 

بعضٌ لبعضٍ وإنْ لم يشعُروا خَدَمُ

فعلى الفقير الذي يملك مقوِّمات الكفاف أن يقنع بما أعطاه الله.

وعلى الغنيّ أيضاً، وهو الذي أنعم الله عليه بما يستطيع به أن يُوجِد أزيد من حاجته، أنْ يلتفت إلى قُبْح الإسراف والتبذير عَقْلاً، وبالتالي حُرْمَتُهما شَرْعاً.

والإسراف والتبذير قريبان جدّاً في المعنى والمفهوم، وهو مجاوزة الحَدِّ في النفقة.

وقد نَهَى اللهُ سبحانه وتعالى عنهما في أكثر من آيةٍ في كتابه المجيد:

قال جلَّ وعلا: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً﴾ (الإسراء: 26 ـ 27).

ويَصِفُ عبادَ الرحمن فيقول: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ (الفرقان: 67).

وينهى عن الإسراف حتَّى في الصَّدَقة: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأنعام: 141).

وقد رُوي عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع)، في تفسير هذه الآية، أنَّه قال: «كان فلان بن فلان الأنصاري، سمَّاه، وكان له حرثٌ، وكان إذا أخذ يتصدَّق به، ويبقى هو وعياله بغير شيءٍ، فجعل الله عزَّ وجلَّ ذلك سَرَفاً»([1]).

وقال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾ (الإسراء: 29)، أي فقيراً ذا فاقةٍ.

وقال عزَّ من قائلٍ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31).

وقال في وصف قوم لوط، الذين كانوا يأتون الرجال شهوةً من دون النساء، متجاوزين حدود العَقْل والمنطق والذَّوْق والفِطْرة ـ وهم يعودون إلى الظهور اليوم في أكثر من مجتمعٍ وبَلَد ـ: ﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ (الأعراف: 81).

ولكنْ في الوقت نفسه لا بُدَّ من الحَذَر من الوقوع في شِرْك البُخل والتقتير: ﴿لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾.

وقد وَرَد في الأخبار والروايات الكثيرة ما يدلّ على استحباب التوسعة على العيال:

فقد رُوي عن مولانا زين العابدين عليّ بن الحسين(عما) أنّه قال: «أرضاكم عند الله أسبغُكم على عياله»([2]).

ورُوي عن سيِّدنا أبي الحسن الرضا(ع) أنَّه قال: «ينبغي للرجل أنْ يوسِّع على عياله؛ كي لا يتمنَّوْا موتَه، وتلا هذه الآية: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ (الإنسان: 8)، قال: الأسير عيالُ الرجل، ينبغي للرجل إذا زيد في النعمة أن يزيد أُسَراءَه في السَّعَة عليهم…، الحديث»([3]).

ورُوي عن إمامنا أبي عبد الله الصادق(ع) أنَّه قال: قال رسول الله(ص): «إنّ المؤمن يأخذ بأدب الله عزَّ وجلَّ؛ إذا وسَّع عليه اتَّسع؛ وإذا أمسك عليه أمسك»([4]).

هذا، وفي سيرة النبيّ(ص) وأهل بيته الكرام(عم)، وهم الأسوة والقدوة للمسلمين: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾ (الأحزاب: 21)، ما يشير إلى الحدّ الفاصل بين الإسراف والتقتير، وملخَّصه: كلَّما كان الشيء صالحاً للانتفاع به، ولو بعد إصلاحه، فلا ينبغي إلقاؤه. وكلَّما كان الشيء وافياً بالغَرَض فلا داعي لطَلَب ما هو أكثرُ قيمةً منه، وليس له من فائدةٍ أزيد.

ونبدأ مع رسول الله(ص)، حيث كان يخصف شِسْع نعله، أي يصلحها؛ ليلبسها من جديد، ولم يكن ليستبدلها بغيرها ما دام يمكن إصلاحها.

وقد رُوي أنّه انقطع شِسْع نَعْله(ص)، فدفعها إلى عليٍّ(ع) يصلحها، ثم جلس وجلس أصحابه حولَه كأنَّما على رؤوسهم الطير، فقال: «إنَّ منكم مَنْ يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلتُ الناس على تنزيله». فقال أبو بكر: أنا هو، يا رسول الله؟ قال: «لا»، فقال عمر: أنا هو، يا رسول الله؟ فقال: «لا، ولكنَّه خاصفُ النَّعْل…»، الحديث([5]).

وقال الإمام عليّ(ع) يصفه: «ولقد كان(ص) يأكل على الأرض، ويجلس جلسة العبد، ويخصف بيده نَعْله، ويرقع بيده ثوبه، ويركب الحمار العاري، ويُردف خلفَه»([6]). والحمار هي الدابّة غير الفارهة في ذاك الزمان، وأفضل منه الخيل العربيّ، حصاناً أو فرساً؛ أو الإبل، جملاً أو ناقةً. ولكنَّه(ص) كان يفعل ذلك، مع قدرته على ركوب الخيل والإبل؛ تواضعاً واقتصاداً.

ثمّ ها هو عليّ بن أبي طالب(ع)، أمير المؤمنين، يقول: «واللهِ، لقد رَقَعْتُ مِدْرَعتي هذه حتَّى استحييتُ من راقعها. ولقد قال لي قائلٌ: ألا تنبذها؟ فقلتُ: اغرُبْ عَنّي، فعند الصباح يَحْمَد القومُ السُّرى»([7]).

ورُوي عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه قال: «إنّ القَصْد أمرٌ يحبُّه اللهُ عزَّ وجلَّ؛ وإنّ السَّرَف أمرٌ يبغضُه اللهُ، حتَّى طرحَك النواة؛ فإنَّها تصلح للشيء، وحتَّى صبَّك فضل شرابك»([8]).

وقد أكَّد القرآن الكريم والسُّنَّة الشريفة في أكثر من موردٍ على أنّ الله سبحانه وتعالى لا يريد ولا يرضى أنْ يكلَّف إنسانٌ ما لا يُطيق، أو ما لم يؤتَ من الرِّزْق.

ففي بيان ما يجب على الرجل تجاه مطلَّقته أوضح القرآن الكريم أنَّه يجب عليه نفقتها إلى أن تنقضي عدَّتها، بالحيض أو الأشهر أو وَضْع الحَمْل، ولكنَّه ميَّز بين المُوسِر والمُعْسِر، فكلٌّ يُنفِق ممّا آتاه الله، ولا يُضارّ: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاَتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى * لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ (الطلاق: 6 ـ 7).

ومن هنا يتَّضح موقف الإسلام من الكُلْفة الكبيرة للمصروف القائم على شراهة الاستهلاك، وطَلَب الكماليّات من السِّلَع، وهي ترهق مُتَولِّي الإنفاق، سواء كان الأب أو الأمّ أو الأخ أو الزوج أو الوَلَد.

وهنا لا أجد بُدّاً من الإشارة إلى ما ورد في الأخبار والروايات في عاقبة مَنْ كلَّف المُنْفِق عليه ما لا يُطيق.

فقد رُوي عن الصحابيّ عبد الله بن مسعود أنَّه قال: قال رسول الله(ص): «ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يَسْلَم لذي دينٍ دينه، إلاّ مَنْ يفرّ من شاهقٍ إلى شاهق، ومن جُحْر إلى جُحْر، كالثعلب بأشباله. قالوا: ومتى ذلك الزمان؟ قال: إذا لم تُنَلْ المعيشة إلاّ بمعاصي الله، فعند ذلك حلَّتْ العُزوبة. قالوا: يا رسول الله، أمرتَنا بالتزويج! قال: بلى، ولكنْ إذا كان ذلك الزمان فهلاك الرجل على يدَيْ أبَوَيْه، فإنْ لم يكن له أبوان فعلى يدَيْ زوجته ووَلَده، فإنْ لم تكن له زوجةٌ ولا وَلَد فعلى يدَيْ قرابته وجيرانه. قالوا: وكيف ذلك، يا رسول الله؟ قال: يُعيِّرونه بضيق المعيشة، ويكلِّفونه ما لا يُطيق، حتَّى يوردوه موارد الهَلَكة»([9]).

ورُوي عن النبيّ(ص) أنَّه قال: «أيُّما امرأةٍ أدخَلَتْ على زوجها في أمر النَّفَقة، وكلَّفته ما لا يُطيق، لا يقبل الله منها صِرْفاً ولا عَدْلاً، إلاّ أنْ تتوب، وترجع، وتطلب منه طاقتَه»([10]).

ورُوي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه قال له أحدُ أصحابه: إنّ صاحبتي هَلَكَتْ، وكانت لي موافقةً، وقد هممتُ أنْ أتزوَّج، فقال له: «انظُرْ أين تضعُ نفسَك، ومَنْ تشركه في مالك، وتُطلعه على دينك وسِرِّك، فإنْ كنتَ لا بُدّ فاعِلاً فبِكْراً تُنْسَب إلى الخَيْر، وإلى حُسْن الخُلُق. واعلَمْ أنَّهُنَّ كما قال:

ألا إنّ النساءَ خُلِقْنَ شَتّى

 

فمنهُنَّ الغَنيمةُ والغَرامُ

ومنهُنَّ الحَلالُ إذا تجلّى

 

لصاحبِه ومنهُنَّ الظَّلامُ

فمَنْ يظفَرْ بصالحِهِنَّ يَسْعَدْ

 

ومَنْ يُغْبَنْ فليس لهُ انتقامُ

وهُنَّ ثلاثٌ: فامرأةٌ ولودٌ ودود، تُعين زوجَها على دهره لدنياه وآخرته، ولا تُعين الدهرَ عليه؛ وامرأةٌ عقيمة، لا ذات جمال، ولا خُلُق، ولا تُعين زوجها على خَيْر؛ وامرأةٌ صَخَّابة ولاّجة [وفي بعض النسخ: ولاّحة] همّازة، تستقلّ الكثير، ولا تقبل اليسير»([11]).

والصخّابة (بالصاد المهملة ثم الخاء المعجمة): كثيرة الصياح والكلام. والولاّجة: ضبطها بعض المحدِّثين بالحاء المهملة، وفسَّرها بالحَمّالة زوجَها ما لا يُطيق؛ وضبطها بعضٌ بالجيم قال: أي كثيرة الدخول في الأمور التي لا ينبغي لها الدخول فيها. والهمّازة: العيّابة الطعّانة([12]).

هذا وفي ما ينقله التاريخ من تجهيز رسول الله(ص) لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء(عا) عند زواجها، وما نجده من أخبارٍ عن أثاث بيتها المتواضع، لخيرُ دليلٍ على استحباب الاقتصاد في المعيشة، والتبسُّط في اقتناء السِّلَع والأشياء.

* كيف يستطيع ربُّ الأسرة تلبية الحاجات المُلِحَّة للعائلة في ظلِّ إنتاجيّةٍ محدودة؟

أوّلاً: يجب على ربّ الأسرة (الزوج) أن يصرف على زوجته، حتَّى ولو كانت غنيّةً، فيجب عليه أن يؤمِّن لها متطلَّباتها المعيشيّة كافّةً، ولو قصَّر في ذلك بقي ذلك دَيْناً في ذمّته.

وأمّا الصَّرْف على الوَلَد فهو واجبٌ على الأب إذا كان الولد فقيراً لا يملك المال لتأمين حاجته، وأمّا لو كان غنيّاً فإنَّه لا يجب على الأب أن يُنْفق عليه، وإنَّما يتركه يصرف من ماله الخاصّ.

هذا مع الإشارة إلى أنَّ وجوب النفقة هو تكليف الأب الغنيّ، القادر على الإنفاق، أمّا إذا كان فقيراً فلا يجب عليه شيء، ولا يبقى للوَلَد في ذمّته شيء.

نعم، لا يُشترط غِنى الزوج في وجوب الإنفاق على زوجته، فحتَّى لو كان فقيراً غير قادرٍ على تأمين نفقتها تتحوَّل هذه النفقة إلى دَيْنٍ في ذمّته.

ومن هذا المبدأ نستطيع القول: إنَّ ربَّ الأسرة إذا كان له دخلٌ لا يكفي لتأمين متطلَّبات الحياة العصريّة، بضروريّاتها وكماليّاتها، فهو فقيرٌ بالنسبة إلى الكماليّات، وبالتالي لا يجب عليه تأمينُها.

ـ ما هي الحاجات الضروريّة؟ وما هي الحاجات الكماليّة؟

قد لا نستطيع تعيين مصداقٍ ثابت للضروريّ والكماليّ؛ لأنّه قد يختلف من شخصٍ لآخر. ولكنْ الثابت واليقينيّ أنّ الطعام، والشراب، والمسكن، والملبس اللائق، والدراسة ولو في المدرسة أو الجامعة الرسميّة، هي من الضروريّات، التي ينبغي تأمينها.

وأمّا مستلزمات هذا العصر، والمعروف الشائع فيه، كالحاسوب، والتلفون الذكيّ، والبيت الواسع، والخادمة، والسيارة الحديثة الفارهة، والأثاث الفاخر، والدراسة في الجامعات الخاصّة، وصولاً إلى الزواج الثاني والثالث والرابع، وهو عاجزٌ عن الإنفاق على الزوجة الأولى، وغير ذلك كثير، هذه كلُّها من الكماليّات التي ينبغي التعامل معها على هذا الأساس.

ـ كيف نجنِّب مجتمعاتنا التحوُّل إلى مجتمعات استهلاكيّة؟

أـ من خلال التشجيع والحثّ على الاقتصاد في المصروف. وقد تقدَّم منّا حديثٌ مفصَّل حول أهمّيّة الاقتصاد وضرورته، عَقْلاً وشَرْعاً.

ب ـ من خلال تربية الأولاد (الذين سيصبحون آباءً وأمّهات، أي أزواجاً وزوجات) على ضرورة الاكتفاء بالحاجات الضروريّة، والاستغناء عن الكماليّات، لا بالمطلَق، ولكنْ نقتني منها ما يرفع الحاجة الفعليّة (تلفون واحد، حاسوب واحد،…).

ج ـ من خلال ترشيد اقتناء السِّلَع الكماليّة، أي غير الضروريّة وغير الأساسيّة. فمثلاً: قد يقتني تلفوناً ذكيّاً، ولكنْ لا حاجة على الإطلاق لتبديله بالموديل الجديد فور توفُّره في الأسواق، وربما يتسابقون للحصول عليه ولو لم يتوفَّر بعدُ بشكلٍ طبيعيّ في السوق، وطبعاً قيمتُه في هذه الفترة أكثر من القيمة الحقيقيّة له.

وهكذا في السيارات، وألواح التصفُّح، وأثاث المنزل، والحاسوب، و…

فإنْ أصرَّت الزوجة أو الأولاد على طلب الكماليّات بشكلٍ غير صحيح، من الناحية التربويّة والأخلاقيّة والشرعيّة، فلتكُنْ لربِّ الأسرة الجرأة الكاملة في أنْ يضعهم أمام الحقيقة: (لا يجب عليَّ تأمين هذه الأمور، اصْرِفوا على أنفسكم).

كثيرةٌ هي الأمور التي لا يمكن للإنسان أنْ يُدركها حقَّ إدراكها قبل أن يجرِّبها، فدَعْه يجرِّب ما معنى تبذير المال في مثل هذه الأمور. حين يعرف معنى التَّعَب والجُهْد في تحصيل المال، ثُمَّ يشعر بخسارته في تلك الأمور، سيُدرك أهمّيّة الاقتصاد، والادِّخار لأوقات الحاجة الحقيقيّة، و…

* لماذا باتت الكماليّات أكثر من ضرورةٍ في حياتنا؟

تقدَّم أنّ الإنسان مجبولٌ مفطور على حُبِّ متاع الحياة الدنيا، والاستزادة منه، ويتمّ ذلك بالإكثار من الشراء والاستهلاك، من قِبَل جميع أفراد الأسرة، كالزوج، والزوجة، والأولاد.

يُضاف إلى ذلك ما تبثّه وسائل الإعلام (بما فيها وسائل التواصل الاجتماعيّ وغيرها)، والدعايات التسويقيّة الهادفة والناجحة، من تشويق إلى السِّلَع. وكلُّ ذلك سيساهم حَتْماً في تحوُّل مجتمعاتنا إلى مجتمعاتٍ استهلاكيّة.

والأساس في نجاح مثل هذه الدعايات غياب التوجيه الصالح. فالفرد والمجتمع ليسا محصَّنين تجاه مثل هذه الإغراءات، وسُرعان ما يسقطون في فخّ الدعاية والترويج الإعلانيّ. والعذرُ موجودٌ على الدَّوام.

وهنا أرى لِزاماً عليّ أن أشير إلى ما تركه عمل المرأة من تأثيرٍ سلبيّ على المجتمع. ومن ذلك تحويله إلى مجتمعٍ استهلاكيّ، يطلب الكماليّات.

عملُ المرأة من حيث المبدأ لا إشكال فيه، فهي صِنْو الرجل، وشريكته في الحياة، وذات عقلٍ كامل، وهِمّةٍ عالية، وقدرةٍ على النجاح والتألُّق في أكثر من مجالٍ.

ولكنْ هذا إذا نظرنا إليها كفردٍ، فلا محذور في عملها، إذا كانت تأمن على نفسها من الوقوع في الحرام.

ولكنْ إذا نظرنا إلى عملها من الناحية الاجتماعيّة والاقتصاديّة العامّة، أي بلحاظ مصلحة المجتمع ككُلٍّ، فلا أتصوَّر أنّ عملها سيكون ذا أثرٍ إيجابيّ بالشَّكْل الذي يُصَوِّره لنا دعاةُ العمل، وخروج المرأة إلى جميع الساحات، و…

تعمل المرأة، ورُبَما سيُطالبون يوماً ما بـ (كوتا نسائيّة) في الوظائف، هذا يعني ارتفاع معدَّل البطالة عند الرجال؛ لأنّه لا توجد فرص عملٍ كافيةٌ للجميع، ومع ذلك الرجل ملزَمٌ بالإنفاق على الزوجة والأولاد، وأمّا راتبُ المرأة فيذهب في شراء الثياب، والعطور، والزينة، والذَّهَب، وسيارة خاصّة، وخادمة، وحضانة للأولاد، وهذه ممّا يُستغنى عنه كُلِّياً أو جُزْئيّاً إذا كانت المرأةُ غيرَ عاملة.

تعمل المرأة، وترضى بالراتب البسيط، فمَنْ من أرباب العَمَل سيدفع راتباً عالياً لرجلٍ كي يعمل عنده؟! إلاّ إذا احتاج إلى عملٍ لا تقدر عليه المرأة. ومع ذلك يبقى هذا الأمر كالسيف فوق رأسه.

ولا أريد أنْ أتوسَّع في ذكر سَلْبِيَّات عمل المرأة، مع التأكيد على أنَّ عَمَلَها في بعض المجالات ضروريٌّ، بل واجبٌ أحياناً.

تعمل المرأة وتقبض راتبها، قليلاً أو كثيراً، فتصرفه في حاجاتها الخاصّة، وأغلبُها من الكماليّات، وإذا بقي منه شيءٌ تصدَّت لشراء الكماليّات التي يطلبها أولادها، فيعتادون على اقتناء مثل هذه الأشياء، بل رُبَما أخذ الوَلَد في المقارنة بين تصرُّف أمِّه وتصرُّف أبيه، غافلاً عمّا يتحمَّله الأب من مصروفٍ كبير على العائلة أجمع.

ـ ما هي وسائل العلاج؟

هما طريقان ناجعان جدّاً: استنطاق العَقْل؛ والتزام الشَّرْع.

1ـ استنطاق العقل: بقليلٍ من التفكير المتأنّي، والتدبُّر الحكيم، يتَّضح أنَّ معظم هذه الكماليّات إنَّما تُطلَب للاستعلاء والتفاخر، وليست مورد حاجةٍ ماسّة، بل يمكن الاستغناء عنها بكلِّ يُسْرٍ، وبلا حَرَج.

فإذا أُضيف إلى ذلك أنّ هذه السُّمْعة الرفيعة، التي حصَّلها من خلال اقتناء هذه الأشياء، قد تزول في أيِّ لحظة؛ بسبب العجز عن أداء الدَّيْن المتراكِم، فيُفتضح الحال، وتظهر حقيقة اقتناء هذه الأشياء، حينها سيتخلّى العاقلُ الحكيم عن طَلَب هذه الكماليّات؛ لصالح نفسه وأسرته. وسيعمل بالمَثَل الشعبيّ الذهبيّ القائل: «على قَدِّ بْساطَك مُدَّ رِجْلَيْك». وسيستحضر دائماً القولَ الحكيم: «نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل». وهكذا في كلِّ المتطلَّبات؛ فهي لتأمين استمراريّة العيش، وليست هَدَفاً بحدِّ ذاتها.

2ـ التزام الشَّرْع: فها هو كتاب الله يدعو إلى التواضع، ويعِدُ عليه الجنَّة: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص: 83).

وها هو القرآن الكريم يمنع من الصدقة والإنفاق في سبيل الله إذا أثَّر سَلْباً على معيشة الإنسان، وحاجاته الضروريّة، فكيف سيكون موقفه من الكماليّات؟!: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ [أي الوَسَط، فلا تنفق كلّ ما عندك، ولو كان هذا الإنفاق في سبيل الله] كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة: 219).

﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: 195).

وأخيراً، لا نستبعِدُ أن يكون هذا الإغراق في طَلَب الكماليّات، ما يستلزِم انشغالَ كلِّ أفراد الأسرة في العَمَل والإنتاج؛ لتأمينها، بعيداً عن التواجد في ساحات العِلْم والإبْداع والتفوُّق والاختراع، خُطَّةً سياسيّة خبيثة، تهدف لجعل الجميع يعملون ويعملون، ويصرفون ما يُنتجون، فلا تفوُّق وإبداع، ولا مدَّخرات ورساميل يمكن أنْ تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد الوطنيّ. وتبقى الساحة خاليةً لحيتان المال الكبار، ليتحكَّموا بمصائر الناس في أَمْنِهم واقتصادِهم وسياستِهم.

الهوامش

([1]) رواه الكليني في الكافي 4: 55، ح5، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن المثنّى، عن أبي عبد الله(ع).

([2]) رواه الكليني في الكافي 4: 11، ح1، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، وأحمد بن محمد جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن مالك بن عطيّة، عن أبي حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسين(ع).

([3]) رواه الكليني في الكافي 4: 11، ح3، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاّد، عن أبي الحسن(ع).

([4]) رواه الكليني في الكافي 4: 12، ح12، عن عليّ بن محمد بن بندار، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد بن عيسى، عن أبي محمد الأنصاري، عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد الله(ع).

([5]) رواه الطوسي في الأمالي: 254، قال: أخبرنا أبو عمر [عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مهدي] قال: حدَّثنا أحمد [أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة] قال: حدَّثنا يعقوب بن يوسف بن زياد قال: حدَّثنا أحمد بن حمّاد الهمداني قال: حدَّثنا فطر بن خليفة وبريد بن معاوية العجلي، عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن أبي سعيد الخِدْري قال: خرج إلينا رسول الله(ص)، وقد انقطع شِسْع نَعْله…، الحديث.

([6]) نهج البلاغة 2: 59.

([7]) نهج البلاغة 2: 61.

([8]) رواه الكليني في الكافي 4: 52، ح2، عن عليّ بن إبراهيم، عن صالح بن السِّندي، عن جعفر بن بشير، عن داوود الرقّي، عن أبي عبد الله(ع).

ورواه الصدوق في الخصال: 10، ح36، قال: حدَّثنا أبي رضي الله عنه قال: حدَّثنا سعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن جعفر بن بشير البجلي، عن داوود الرقّي، عن أبي عبد الله(ع).

ورواه الصدوق في ثواب الأعمال: 186، قال: حدَّثني محمد بن عليّ ماجيلويه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن داوود الرقّي، عن أبي عبد الله(ع).

([9]) رواه أحمد بن محمد بن فهد الحلّي في كتاب التحصين: 13، معلَّقاً.

([10]) رواه الطبرسي في مكارم الأخلاق: 202، معلَّقاً مرفوعاً.

([11]) رواه الكليني في الكافي 5: 323، ح3، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد وأحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن إبراهيم الكَرْخي، عن أبي عبد الله(ع).

ورواه الصدوق في معاني الأخبار: 317، ح1، قال: حدَّثنا محمد بن موسى بن المتوكِّل ـ رحمه الله ـ قال: حدَّثنا عبد الله بن جعفر الحِمْيري، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم الكَرْخي، عن أبي عبد الله(ع).

ورواه الطوسي في تهذيب الأحكام 7: 401 ـ 402، بسنده عن عليّ بن الحسن بن فضّال،عن عمرو بن عثمان، عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم الكَرْخي، عن أبي عبد الله(ع).

([12]) الحدائق الناضرة 23: 23 ـ 24.



أكتب تعليقك