الصلح بين المتخاصمين، ضرورةٌ اجتماعيّة وعزّة ذاتيّة
(بتاريخ: 26 ـ 5 ـ 2014م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
﴿وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء: 128)(صدق الله العليّ العظيم).
ويختلف الناس فيما بينهم، حول كثيرٍ من القضايا الدينيّة والدنيويّة، ويتمظهر هذا الاختلاف بحوارٍ وجدال، ورُبَما وصل الأمرُ إلى الشِّجار.
والاختلافُ في الرأي حقٌّ مشروع، ولكنَّ استمرارَ هذا الاختلاف هو الممنوعُ؛ لأنَّه مكمنُ الخَطَر على حياة الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة.
ونحن نلاحظ أنَّ لكلٍّ من طرفَيْ أو أطراف الاختلاف مرجعيَّتَه، الثقافيّة والفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. فهل يمكن لهذه المرجعيّة أن تلعب دَوْراً في حلِّ النزاع والخلاف؟
وبعبارةٍ أخرى: هل ينبغي على المتخاصمَيْن أن يتصالحا؟ هذا ما نتعرَّف إليه، ولكنْ بعد أن نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه معاً.
1ـ هل الصلح بين المتخاصمَيْن ضروريٌّ؟
مشاهدينا الكرام، آياتٌ كثيرة تؤكِّد ما جاء في هذا التقرير، من ضرورة الصلح بين المتخاصمَيْن، صُلْحاً يتوافق مع ضوابط الشريعة، وأحكام العدالة، ومبادئ الإنصاف.
فلا صُلْح مع البَغْي، ولو صدر من المسلمين المؤمنين: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الحجرات: 9 ـ 10).
إذاً هو الصُّلْح في الابتداء، صُلْحٌ يراعي حقوق كِلا الطرفَيْن: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، مع بعض التنازلات البسيطة هنا وهناك، أمّا إذا وصل الأمرُ إلى حدِّ البَغْي والاستمرار في العُدْوان والظُّلْم، فلا صُلْح.
وهكذا تتَّضح خلفيّةُ الجواب بأنّه «لا صُلْح مع (إسرائيل)». هذا الكيان المحتلّ الغاصب المعتدي، الذي لا يتورَّع لحظةً عن فسادٍ وطغيان، وبَغْيٍ وعُدوان، فأيُّ صُلْحٍ يكون مع هذه الغُدَّة السرطانيّة.
أيُّها الأحبّة، لن يرتاح المسلمون في فلسطين وجوارها، بل لن ترتاح البشريّةُ جَمْعاء، إلاّ باجتثاث هذه الفئة من المنطقة، وإزالة هذا الفِكْر العُدْوانيّ المنحرِف من الوجود.
وأمّا حين تظهر بوادر الاختلاف ويُتوقَّع النزاع، أو حين يختلف فِعْلاً الزوجُ مع زوجته، أو الولدُ مع أبيه أو أمِّه أو أخيه أو أخته، أو يختلف الصديقُ مع صديقه، بل حتَّى في العلاقة مع العدوِّ الذي يدعوك إلى الصُّلْح، واعداً بالابتعاد عن البَغْي والعُدوان، فالصُّلْح خيرٌ من وقوع الاختلاف، واستمرار الخلاف.
وهذا ما أكَّدَتْه الآيات القرآنيّة الكريمة، والأحاديث الشريفة:
1ـ ﴿فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 182). وهي دعوةٌ لكلِّ قادرٍ على أن يدفع الخلافَ عن ساحة الموصي والموصى لهم، فينصح الموصي بتبديل الوصيّة وتغييرها؛ لئلاّ تكون سبباً في اختلاف الموصى لهم مع الموصي، أو فيما بينهم.
2ـ والآية الكريمة التي افتتحنا بها الحَلْقة: ﴿وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء: 128) دعوةٌ صريحة لكلِّ قادرٍ على أن يدفع الخلاف القادم إلى الكيان الاجتماعيّ المقدَّس، وهو العائلة.
3ـ وفي الحديث النبويّ المشهور، الذي رواه أمير المؤمنين عليٌّ(ع) في وصيَّته لولدَيْه الحسن والحسين(عما): «صلاح ذات البين أفضلُ من عامّة الصلاة والصيام»([1]).
4ـ وها هو أميرُ المؤمنين عليٌّ(ع)، في عَهْده لواليه على (مِصْر) مالك الأشتر(ر)، يقول: «ولا تدفعنَّ صلحاً دعاكَ إليه عدوُّكَ، ولله فيه رضا؛ فإنَّ في الصلح دَعَةٌ لجنودك، وراحةٌ من هُمومك، وأَمْناً لبلادك. ولكنْ الحَذَرُ كلُّ الحَذَر من عدوِّك بعد صُلْحِه، فإنَّ العدوَّ رُبَما قارب ليتغفَّل»([2]).
5ـ وفي المرويّ عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه قال: «صدقةٌ يحبُّها الله: إصلاحٌ بين الناس إذا تفاسدوا، وتقاربٌ بينهم إذا تباعدوا»([3]).
6ـ وفي المرويّ عن صادق آل محمد(ع)، في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 224)، أنّه قال: «إذا دُعيتَ لصُلْحٍ بين اثنين فلا تقُلْ عليَّ يمينٌ أنْ لا أفعل»([4]).
وهكذا، أيُّها الأحبّة، صُنِّف الصُّلْح سَيِّدَ الأحكام، في دلالةٍ على ما له من أثرٍ إيجابيّ في المجتمع، حيث يخرج كلٌّ من الطرفَيْن راضياً عمّا آلَتْ إليه الأمور، وينتهي النزاع مع الصُّلْح نهائيّاً، ومن غيرِ رجعةٍ.
وإذا عَرَفْنا أهمّيّة الصُّلْح وضرورته فمن المُلِحِّ أن نتعرَّف على آليّات الصُّلْح بين المتخاصمَيْن، ولكنْ قبل ذلكنستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه.
2ـ ما هي آليّات الصُّلْح بين المتخاصمَيْن؟
مشاهدينا الكرام، تختلف المشكلات وتتنوَّع، ولكلِّ مشكلةٍ حلُّها، ولكلِّ نزاعٍ آليّةٌ خاصّة به تُنْهيه، وتَصِلُ بالمتخاصمَيْن إلى بَرِّ الوِفاق.
ولكنَّ المسلَّم أنَّه في كلّ نزاعٍ أو خلاف لا بدّ من تنازلاتٍ يقدِّمها كلا الطرفَيْن؛ حتَّى يصلا إلى حَلٍّ يُرضيهما، ويُنهي اختلافهما.
ولكنْ كما تقدَّمت منّا الإشارةُ فإنّه لا يجوز التنازل المخالف لضوابط الشريعة، وإنَّما يحقّ للمرء أنْ يتنازل عن بعض حقوقه الشخصيّة؛ دَفْعاً للضَّرَر، ورَفْعاً للخلاف المُسْتَحْكِم.
وتجدر الإشارة إلى أنَّه لا يكون صُلْح إلاّ بنيّةٍ خالصة في طلب مرضاة الله، وقلبٍ صافٍ، قد فارق كلَّ حِقْدٍ وغِلٍّ وكَراهية، تجاه المؤمن أو المسلم، أو الإنسان عموماً.
يحقُّ للمَرْء أنْ يصرَّ على أخذ حقِّه كاملاً غير منقوص، ولكنْ بعيداً عن مجتمع العدالة المُطْلَقة، المجتمع الذي يحكمه خليفةٌ ووليٌّ لله، حاكمٌ عادِلٌ، لا يألو جُهْداً في إحقاق حقٍّ وإزهاق باطلٍ، ولا يفتُِر عن نصرة مظلومٍ ومعاقبة ظالمٍ، بعيداً عن ذاك المجتمع ما أكثر ما يعجز المرءُ عن استيفاء حقِّه!
وما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك كلُّه، فالعقلُ يحكم هاهنا بأنْ يسعى الإنسانُ لحلٍّ وَسَط، يحفظ له جزءاً كبيراً من حقوقه، ويتنازل في المقابل عن شيءٍ منها. ولا سيَّما إذا لَحَظْنا أنّ النزاع والخلاف قد يحوِّل كلا المتخاصمَيْن إلى صاحب باطلٍ وعُدْوان، وإنْ اختلفَتْ نسبتُه بين هذا الطَّرَف وذاك. فما يتنازل عنه أحدُهما سيكون في مقابل ما قام به من انتهاكٍ واعتداء على الطَّرَف الآخر.
أيُّها الأحبّة، بالحوار المسؤول، المستند إلى وَعْيٍ وحِكْمة، والمتَّكئ على صَبْرٍ وتفهُّم للظروف والملابسات، والرامي إلى حلٍّ وثيق في إطار الشريعة والعدالة، يمكن إنهاءُ أيِّ نزاعٍ أو اختلاف.
ولكنْ رُبَما لم يكن لكِلا طرفَيْ النزاع مثلُ هذه القُدْرة على حوارٍ مسؤول، فما العمل؟
أيُّها الأحبّة، لقد أرشَدَنا القرآن الكريم إلى وسيلةٍ من وسائل الصلح بين المتخاصمَيْن، ولا سيَّما إذا كانا الزوجَ والزوجة، فأَمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى بأنْ يتمّ اختيار حَكَمٍ من أهل النُّهى والحِكْمة والخِبْرة والتجربة في الحياة عن كلِّ طَرَف، فيجتمع الحَكَمان ويتداولان في آليّة الصُّلْح المناسبة، وتُعْرَض على الزوْجَيْن أو أيِّ متخاصمَيْن، فإنْ كانا يريدان الصُّلْح حقّاً فإنَّه لا بُدَّ أنْ تنتهي هذه العمليّة إلى ما يصبوان إليه.
﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقْ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ (النساء: 35).
وفي حثٍّ منه على التصدّي لمُهِمّة إصلاح ذات البين، وتولّي مسؤوليّة الحَكَم الممثِّل لأحد طرفَيْ النزاع، خفَّف الإسلام عنه بعض القيود.
كلُّنا يعرف أنّ الخَبَر إمّا كاذبٌ أو صادق؛ فإنْ طابق الواقع فهو الصِّدْق؛ وإنْ خالف الواقع فهو الكِذْب. والصِّدْق حسنٌ محبوب حلال، والكِذْب قبيحٌ مبغوض حرام.
ولكنْ تخفيفاً على متولّي مُهَمّة إصلاح ذات البَيْن، وحيث تقتضي مثلُ هذه العمليّة كلاماً يهدِّئ رَوْعَ كِلا الطرفَيْن، ويُزيل الغضب، ويُلطِّف المشاعر، فقد أباح الإسلام للمُصْلِح أن ينقل كلاماً غير مطابِقٍ للواقع، وأخرجه من عنوان الكِذْب المُحَرَّم.
فقد رُوي عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه قال: «المُصْلحُ ليس بكاذبٍ»([5]).
إذاً الصلح ضرورةٌ، وله آليّاتٌ متعدِّدة، وينبغي أنْ نختار منها ما يتوافق مع الهَدَف المرجوّ، والغاية المتوخّاة، ألا وهي إصلاح ذات البين، مع الحفاظ على أحكام الشريعة، ومبادئ الإنصاف والعدالة.
وثَمَّةَ سؤالٌ يطرح نفسه بإلحاحٍ: أَوَليس الصُّلْح مذلّةً وانكساراً؟ فكيف نُقدِم عليه؟! ونبقى مع الإجابة عن هذا التساؤل، ولكنْ بعد أن نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى ما جاء في هذا التقرير، فلنتابِعْه سويّاً.
3ـ هل في الصلح مذلّةٌ وانكسار؟
مشاهدينا الكرام، ليس الكلامُ في تنازل الخاطئ من الطرفَيْن، أو في تراجع المعتدي عن عُدوانه، فهذا واجبٌ شرعيٌّ وقانونيّ وأخلاقيّ، ولا يَسَعُه سوى الإقدام عليه. وتحكمه قاعدة: (الاعتراف بالخطأ فضيلةٌ)، والأفضل منه حَتْماً أن يتراجع عن ذلك الخطأ، ويصحِّحَه.
وقد جاء في التقريرأنَّ الصُّلْح ليس انكساراً أو ذُلاًّ؛ لأنَّه استرجاعٌ للحقوق، أو تنازلٌ بالاختيار والإرادة الكاملة.
وقد تقدَّم أنّ الصلح إنَّما يتضمَّن تنازلاً ما، ما يعني أنّه لم يتمَّ استرجاعُ الحقوق كاملةً.
ولكنَّ هذا التنازل إنَّما يحصل بعد اقتناع صاحبه بأنّ المصلحةَ والخيرَ للنَّفْس والمجتمع يكمن في هذا الفعل. فيُقدِم عليه بطَوْعه؛ لما يُدْركه من أثرٍ إيجابيّ له، على مستوى اللحظة، حيث ينهي الخلاف والنزاع، وفي مدى القادم من الأيّام، حيث ينكشف الظالم، ويظهر المعتدي، وتنجلي الحقيقةُ للناس كافّة.
وهذا، أيُّها الأحبّة، هو ما حصل مع أمير المؤمنين(ع) في الصُّلْح مع معاوية، حيث لم تكن وسيلةٌ لكَشْف فسادِ معاوية ومَكْره وخِداعه إلاّ من خلال الرضا بتحكيم القرآن الكريم. وهل يخاف القرآنُ من نفسه؟ هل يخشى القرآنُ الناطق أنْ يحيف عليه القرآنُ الصامت؟ ولكنَّه الشخصُ الذي أُكرِه أميرُ المؤمنين(ع) على بَعْثِه حَكَماً هو الذي خُدِع وزاغ وانحرف، فضلَّ وأضلَّ.
وقد تكرَّرت هذه التَّجْرِبةُ في هِدْنة إمامنا الحسن بن عليٍّ المجتبى(ع) مع معاوية. فالجيشُ الإسلاميّ قد تعب من القتال، ورَكَن إلى الدنيا، وكاد يُسلِم إمامَه وخليفتَه الشرعيّ، فما الحَلّ؟
هِدْنةٌ مؤقَّتة، يستعيد فيها المؤمنون راحتَهم وعافيتَهم، ويُقيَّد فيها معاويةُ بقيودٍ شرعيّة وأخلاقيّة طالما تفلَّت منها.
وقفُ الحَرْب، وقفُ سبِّ أمير المؤمنين عليّ(ع)، وقفُ ملاحقة مُحِبِّيه ومُواليه وشيعته(ع)، إيصالُ الحقِّ إلى كلّ ذي حقٍّ منهم، تكون الخلافة الفعليّة من بعد معاوية للإمام الحسن(ع)، فإنْ لم يكُنْ حيّاً فللإمام الحسين(ع)، كلُّها شروطٌ لمصلحة الإسلام والمسلمين.
ومع ذلك لم يُبايِعْ الإمامُ الحسنُ(ع) معاوية، وإنَّما هي بنودٌ وشروط في مقابل أنْ تَضَعَ الحربُ أوزارَها بين الطرفَيْن.
ويؤيِّد ذلك ما ذكره ابنُ أبي الحديد في شرح نهج البلاغة فقال: «وروى أبو الحسن المدائني قال: خرج على معاوية قومٌ من الخوارج بعد دخوله الكوفة، وصُلْح الحسن(ع) له، فأرسل معاوية إلى الحسن(ع) يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج، فقال الحسن: سبحان الله! تركتُ قتالك وهو لي حلالٌ؛ لصلاحِ الأمّة وأُلْفَتهم، أَفَتَراني أُقاتلُ معك؟!»([6]).
وهذا قِمّةُ الحِكْمة في العَمَل السياسيّ. وسرعان ما شعر معاويةُ بأنّه خَسِر حُرّيّةَ الحَرَكة، وأحسَّ بأنَّه وقع في فَخِّ الحِكْمة الحَسَنِيّة، فأعلن تنصُّله من ذاك الصُّلْح والاتِّفاق: «إنِّي، واللهِ، ما قاتلتُكم لتُصَلُّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتُزَكّوا، إنَّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتُكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني اللهُ ذلك وأنتم له كارهون. ألا وإنِّي كنتُ منَّيْتُ الحسنَ وأعطَيْتُه أشياء، وجميعُها تَحْتَ قدمَيَّ، لا أفي بشيءٍ منها له»([7]).
أيُّها الأحبّة، نسأل الله أن يوفِّقنا لإصلاح ذات البَيْن، بما يُرْضِيه، ويُقيم العَدْل والقِسْط، إنَّه سميعٌ مجيب.
والسلام عليكم ـ مشاهدينا الكرام ـ ورحمة الله وبركاته.
الهوامش
([1]) نهج البلاغة 3: 76.
([2]) نهج البلاغة 3: 105 ـ 106.
([3]) رواه الكليني في الكافي 2: 209، ح1، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان عن حماد بن أبي طلحة، عن حبيب الأحول، عن أبي عبد الله(ع).
([4]) رواه الكليني في الكافي 2: 210، ح6، عن عليّ [بن إبراهيم]، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عليّ بن إسماعيل، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله(ع).
([5]) رواه الكليني في الكافي 2: 209 ـ 210، ح5، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله(ع).
ورواه أيضاً في الكافي 2: 210، ح7، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب، عن معاوية ابن وهب أو معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله(ع) ـ في حديثٍ ـ: إنّ المصلح ليس بكذّابٍ [إنما هو الصلح، ليس بكذبٍ].
([6]) شرح ابن أبي الحديد 16: 14 ـ 15.
([7]) المفيد، الإرشاد 2: 14.