13 ديسمبر 2014
التصنيف : منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬505 مشاهدة

مكارم الأخلاق عند مولانا عليّ بن موسى الرضا(ع)

منبر الجمعة-مكارم الأخلاق عند مولانا علي بن موسى الرضا(ع)ـ

(الجمعة 12 / 12 / 2014م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.

تمهيد

رُوي عن أحد أصحاب مولانا عليّ بن موسى الرضا(ع) أنّه قال، واصفاً إيّاه: «ما رأيتُ أبا الحسن الرضا(ع) جفا أحداً بكلمة قطّ، ولا رأيتُه قطع على أحدٍ كلامه حتّى يفرغ منه، وما ردَّ أحداً عن حاجةٍ يقدر عليها، ولا مدَّ رجله بين يدَيْ جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدَيْ جليسٍ قطّ، ولا رأيتُه شتم أحداً من مَواليه ومماليكه قطّ، ولا رأيتُه تَفَلَ، ولا رأيتُه يقهقه في ضحكةٍ قطّ، بل كان ضحكه التبسُّم، وإذا خلا ونصب مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه ومَواليه، حتّى البوّاب السائس…»([1]).

ونحن هنا نستعرض جملةً من الخصال؛ منها ما هو قبيحٌ ومرفوض؛ ومنها ما هو حسنٌ ومطلوب.

1ـ الجفاء بالكلام

والكلام هو صلة الوصل الرئيسة بين الناس لإفهام بعضهم البعض، وطلب الحوائج من أهلها. وإذا كانت العلاقة بين المتخاطبَيْن جيّدةً، وصافيةً من كلّ شائبةٍ ـ كالحَسَد والحِقْد والغَضَب و… ـ، فمن الطبيعيّ أن يكون الحديث حديثَ مودّةٍ، بواسطة الكلام الطيِّب الليِّن. وأمّا إذا توتَّرت تلك العلاقة فسرعان ما يتبدَّل أسلوب الحديث من كلامٍ هادئ لطيف إلى كلامٍ قاسٍ عنيف، يتضمَّن أشكالاً من التهديد والوعيد، والسخرية والتحقير، واللعن والسبّ، و…

هذا النهج مرفوضٌ عند أهل البيت(عم)، وقد صرَّحت الروايات الكثيرة بالنَّهْي عن ذلك، ودعَتْ إلى مداراة الناس. وقد تقدَّم الحديث عن هذه الروايات في حديثنا عن (المداراة)، فلا نعيد.

ولأنّهم أسوةٌ وقدوة، ولا ينهَوْن عن عملٍ إلاّ كانوا أوَّل المنتهين عنه، فإنّنا نشهد التزاماً تامّاً من قبل أهل البيت(عم) بهذا الخُلُق الكريم، ألا وهو مداراة الناس، وترك المجافاة والعداوة معهم. وهذا ما تبيِّنه هذه الرواية عن صفات مولانا الرضا(ع).

2ـ آداب المجالس

وبما أنّ الناس يختلطون مع بعضهم البعض في الطرقات والأعمال والمساجد والمجالس ـ على اختلافها ـ كان لا بُدَّ من التزامٍ صارمٍ بآداب المجالس التي أرادها الإسلام أن تكون حاضرةً في كلّ مجلسٍ؛ لتقي أهله من شرّ الاختلاف والنزاع، وتحفظ كرامة جميع المتواجدين فيه. ومن هذه الآداب:

أـ عدم قطع الكلام

فأثناء حديث الآخرين لا ينبغي للمؤمن التقيّ الورع أن يقطع عليهم حديثهم، بل إنّ الخُلُق الكريم، والأدب الرفيع، هاهنا أن ينتظر حتّى يفرغ المتكلِّم من حديثه، ثمّ يُدلي بما عنده، تأييداً أو نقداً. وهكذا يستنفد وقته في بيان مراده، إلى أن يُتِمّ حديثه، فينتقل حقّ الكلام والحديث إلى ثالثٍ، وهكذا.

ب ـ عدم مدّ الرجلين

ففي المجالس التي يجلس فيها الناس على الأرض يجدر بالمؤمن صاحب الأخلاق الرفيعة أن يُنزِّه نفسه عن أن يسيء إلى الآخرين، ولو من غير قصدٍ، ومن ذلك مدُّ الرجلَيْن في وجه جليسه أو أمامه، الأمر الذي يزعجه ويضايقه، ويقلِّل من هَيْبته واحترامه، حتّى لو كان مجلساً للأصدقاء.

ج ـ عدم الاتّكاء

ومن العادات التي تُشاهد في المجالس عادةً الاتّكاء أو الاستلقاء، حتّى أنّ البعض ليفعل ذلك في المسجد، وأثناء الخطبة أو المحاضرة. وقد نشهدها أثناء الدرس. هذا كلُّه مرفوضٌ في منظومة الأخلاق الإسلاميّة.

نحن لا نطلب بأن يكون الأساتذة والطلاّب على شاكلة قاضي البصرة، الذي ذكره أبو عمرو عثمان بن بحر الجاحظ في كتابه الحيوان([2])، ولكنْ لا بُدَّ من حدٍّ أدنى من احترام الخطيب أو المحاضِر أو الأستاذ أو…

3ـ قضاء الحاجة المقدورة

وكلُّنا أصحاب حاجاتٍ إلى بعضنا البعض، فلا غِنى للإنسان عن أخيه الإنسان في قضاء حاجاته، فكيف تسمح نفسُ مؤمنٍ فاضل كريم أن لا يستجيب لمَنْ يطلب منه معونةً ومساعدة على قضاء حاجةٍ مقدورةٍ له.

نعم، إذا لم تكن مقدورةً فقد سقط التكليف، وبان العُذْر، وإنّما الكلام كلُّه إذا كان قادراً على قضائها وترك ذلك؛ خلوداً إلى الراحة؛ أو لعدم المبالاة والإحساس والتفاعل مع مشاكل الآخرين.

4ـ شتم المَوالي والخَدَم

وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى ما كان عليه المجتمع في معاملة العبيد والجواري في تلك العصور من قَسْوةٍ واحتقار وسوء معاملة. فيكون تصرُّف الإمام(ع) في هذا المجال عملاً تغييريّاً نوعيّاً يهدف إلى خلق حالةٍ جديدة من تعاطي الأسياد مع عبيدهم. فهو لا يُبيح لنفسه أن يشتمه ويسبّه، رغم أنّه قد لا يكون مسلماً؛ فإنّ لهذا العبد كرامته الإنسانيّة، وحرمته الخاصّة التي ينبغي الحفاظ عليها.

5ـ رمي الفَضَلات والنفايات

وليس آخرها أن يتفل الإنسان في الشارع أو المجلس أو المسجد أو… والإمام(ع) بفعله هذا يريد أن ينبِّهنا إلى ضرورة المحافظة على النظافة في كلِّ البيئة التي تحيط بنا، فإنّ ذلك من مكارم الأخلاق، ومن مقوِّمات استمرار الحياة الآمنة للناس جميعاً.

6ـ غاية الضحك التبسُّم

وللمؤمن وقارُه الذي ينبغي له أن لا يُفرِّط فيه، وذلك من خلال تجنُّبه لكثيرٍ من الأعمال المنافية للمروءة والوقار، كالقهقهة في الضحك، والصراخ أمام الملأ، و…

7ـ عدم التكبُّر

فإنّه من صفات إبليس، ولا يمكن لمؤمنٍ حقّاً أن تكون فيه خصلةٌ ترتبط بنحوٍ ما بكِبْرٍ أو فَخْرٍ أو زَهْوٍ أو خُيَلاء.

وهكذا كان(ع) يتواضع لله، ويختلط بالطبقات الفقيرة من الناس، ولا سيَّما مَنْ يعيشون معه في البيت، وتحت سقفٍ واحد، ولا يرى لنفسه تمايُزاً عنهم، إلاّ في ما يأتي به من عملٍ صالح لا يأتون به. وهكذا كان(ع) إذا خلا ونصب مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه حتّى البوّاب السائس. وقد روى رجلٌ من رفقاء مولانا الرضا(ع) في سفره من بغداد إلى خراسان فقال: «دعا(ع) يوماً بمائدةٍ له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلتُ: جعلتُ فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة؟ فقال: مَهْ، إنّ الربّ تبارك وتعالى واحدٌ، والأمّ واحدةٌ، والأب واحدٌ، والجزاءُ بالأعمال»([3]).

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا(ع) 1: 197 ـ 198، عن الحاكم أبي جعفر بن نعيم بن شاذان رضي الله عنه، عن أحمد بن إدريس، عن إبراهيم بن هاشم، عن إبراهيم بن العبّاس.

([2]) قال الجاحظ في كتاب الحيوان 3: 343 ـ 346 (تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، ط2، 1385هـ ـ 1965م، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر): كان لنا بالبصرة قاضٍ يُقال له: عبدُ الله بنُ سوَّار، لم يَرَ الناسُ حاكماً قطّ، ولا زِمِّيتاً، ولا رَكيناً، ولا وقوراً حليماً، ضبط من نفسه، ومَلَك من حركته، مثلَ الذي ضبَط وملَك. كان يصلّي الغداةَ في منزله، وهو قريب الدار من مسجده، فيأتي مجلسَه فيحتبي، ولا يتَّكِئ، فلا يزال منتصباً، ولا يتحرَّك له عضوٌ، ولا يلتفت، ولا يحلُّ حُبْوَته، ولا يحوِّل رِجْلاً عن رجل، ولا يعتمد على أحد شِقَّيه، حتّى كأنّه بناءٌ مبنيٌّ، أو صخرةٌ منصوبة، فلا يزال كذلك حتّى يقوم إلى صلاة الظهر، ثمّ يعود إلى مجلسه، فلا يزال كذلك حتّى يقوم إلى العصر، ثمّ يرجع لمجلسه، فلا يزال كذلك حتّى يقوم لصلاة المغرب، ثمّ رُبَما عاد إلى محلِّه، بل كثيراً ما كان يكون ذلك إذا بقي عليه من قراءة العهود والشروط والوثائق، ثمّ يصلّي العشاء الأخيرة وينصرف…

فالحقُّ يقال: لم يقُمْ في طول تلك المدّة والولاية مرّةً واحدة إلى الوضوء، ولا احتاج إليه، ولا شَرِبَ ماءً ولا غيرَه من الشّراب، كذلك كان شأنُه في طوال الأيام وفي قصارها، وفي صيفها وفي شتائها، وكان مع ذلك لا يحرِّك يدَه، ولا يُشيرُ برأسه، وليس إلاّ أن يتكلم ثمّ يوجز، ويبلغ بالكلام اليسير المعاني الكثيرة…

فبينا هو كذلك ذاتَ يوم، وأصحابه حواليه، وفي السِّماطين بين يديه، إذْ سقط على أنفه ذُبَابٌ، فأطال المَكْث، ثمّ تحوّل إلى مُؤْقِ عينه، فرام الصبر في سقوطه على المُؤْق، وعلى عضّه ونفاذ خرطومه، كما رام من الصبر على سقوطه على أنفه، من غير أن يحرّك أرنَبَته، أو يغضِّنَ وجهَه، أو يذبّ بإصبعه، فلمّا طال ذلك عليه من الذباب، وشغَله وأوجعَه وأحرَقَه، وقصد إلى مكانٍ لا يحتمل التغافُل، أَطْبَقَ جفنَه الأعلى على جفنه الأسفل، فلم ينهض، فدعاه ذلك إلى أن والى بين الإطباق والفتح، فتنحّى ريثما سكن جفنُه، ثمّ عاد إلى مُؤْقِه بأشدَّ من مرّته الأولى، فغَمَس خرطومه في مكانٍ كان قد أوهاه قبل ذلك، فكان احتمالُه له أضعف، وعجزُه عن الصبر في الثانية أقوى، فحرَّك أجفانَه، وزاد في شدَّة الحركة وفي فتح العَيْن، وفي تتابُع الفتح والإطباق، فتنحّى عنه بقَدْر ما سكَنَتْ حركَتُه، ثمّ عاد إلى موضعه، فما زال يلحّ عليه حتّى استفرغ صبْرَه، وبلغ مجهوده، فلم يجِدْ بُدّاً من أن يذبّ عن عينَيْه بيده، ففعل، وعيونُ القوم إليه ترمقه، وكأنَّهم لا يَرَوْنه، فتنحّى عنه بقَدْر ما ردّ يده، وسكَنَتْ حركتُه، ثمّ عاد إلى موضعه، ثمّ ألجأه إلى أن ذبّ عن وجهه بطَرَف كُمِّه، ثمّ ألجأه إلى أن تابَعَ بين ذلك، وعلم أنّ فِعْلَه كلَّه بعين مَنْ حضره من أمنائه وجلسائه.

فلمّا نظروا إليه قال: أشهد أنّ الذُّبابَ ألَحُّ من الخنفساء، وأزهى من الغراب، وأستغفر الله، فما أكثر مَنْ أعجبَتْه نفسُه فأراد الله عزَّ وجلَّ أن يعرِّفَه من ضعفه ما كان عنه مستوراً، وقد علمت أنّي عند الناس مِنْ أزْمَت الناس، فقد غلَبَني وفَضَحَني أضعفُ خَلْقه، ثمّ تلا قولَه تعالى: ﴿وَإنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقذُوهُ مِنهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ﴾.

وكان بيِّنَ اللِّسان، قليلَ فضول الكلام، وكان مَهيباً في أصحابه، وكان أحدَ مَنْ لم يُطْعَنْ عليه في نفسه، ولا في تعريض أصحابه للمَنَالة.

([3]) رواه الكليني في الكافي 8: 230، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن الصلت، عن رجلٍ من أهل بلخ….



أكتب تعليقك