الرضا والغضب الفاطميّ تَبَعٌ للرضا والغضب الإلهيّ
زعم بعضُ المعمَّمين أن أعظم وأعلى مقامٍ حازَتْه مولاتُنا سيّدةُ نساء العالمين فاطمة الزهراء(عا) هو قولُ رسول الله(ص): «يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها».
وتابع يشرح هذا القول: «يعني الله جبّار السماوات والأرض، ملك الدنيا والآخرة، [ومَنْ له الأسماء الحسنى والصفات العليا]، هناك امرأةٌ، هو خَلَقها، وصلَتْ إلى مقام: إذا رضيَتْ يرضى، وإذا غضبَتْ يغضب…».
وهنا لا يَسَعُنا إلا أن نبيِّن خطأ هذا المقال، واشتباه قائله:
١ـ إن الله ليس له حالٌ تتبدَّل وتتغيَّر، فيكون راضياً تارةً وغاضباً أخرى، وهذا ما أكَّده مولانا الإمام محمد بن عليّ الباقر(ع)، في مقابل مذاهب أخرى لا ترى بذلك بأساً، فقد سُئل(ع) عن تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَحْلُلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى﴾ (طه: ٨١)، ما ذلك الغضب؟ فأجاب(ع): «هو العقاب، إنه مَنْ زعم أن الله عزَّ وجلَّ زال من شيءٍ إلى شيءٍ فقد وصَفَه صفة مخلوقٍ، ، إن الله عزَّ وجلَّ لا يستفزّه شيءٌ، ولا يغيِّره»([1])؛
وقد أكَّد ذلك أيضاً إمامُنا جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي «سُئل عن الله، هل له رضا وسخط؟ فقال: نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، ولكنّ غضب الله عقابه، ورضاه ثوابه»([2]).
هذه عقيدةُ أهل البيت(عم) وعقيدةُ أتباعهم، لا يحيدون عنها، وكيف لا يكونون كذلك وقد شنَّع الأئمّةُ المعصومون(عم) على صاحب كلّ عقيدةٍ مغايرة، وتبرّأوا منهم، حتّى قال إمامُنا الصادق(ع): «فمَنْ زعم أن الله في شيءٍ، أو على شيءٍ، أو يحول من شيءٍ إلى شيءٍ، أو يخلو منه شيءٌ، أو يشغل به شيءٌ، فقد وصفه بصفة المخلوقين، واللهُ خالقُ كلّ شيءٍ، لا يُقاس بالقياس، ولا يٌشبَّه بالناس، لا يخلو منه مكانٌ، ولا يشغل به مكانٌ، قريبٌ في بُعْده، بعيدٌ في قُرْبه، ذلك اللهُ ربُّنا لا إله غيره، فمَنْ أراد الله وأحبَّه ووصفه بهذه الصفة فهو من الموحِّدين، ومَنْ أحبّه ووصفه بغير هذه الصفة فالله منه بريءٌ، ونحن منه بُرآء»([3])؟!
إذن، وفق العقيدة الصحيحة، عقيدة محمدٍ وآل محمد(ص)، اللهُ ليس له حالٌ تتبدَّل وتتغيَّر، وعليه، رضاه هو ثوابُه، وغضبُه هو عقابُه، وبالتالي يكون معنى الحديث النبويّ: إن الله يثيب مَنْ ترضى عنه الزهراء(عا)؛ ويعاقب مَنْ تغضب منه الزهراء(عا)؛
يعني مَنْ رضيَتْ عنه فهو من أهل الأجر والثواب، ومَنْ غضبَتْ منه فهو من أهل الشقاء والعقاب.
٢ـ لو سلَّمنا جَدَلاً بصحّة القول الآخر ـ وهو غيرُ صحيحٍ قطعاً ـ فكيف يكون معنى الحديث؟
هل يصحّ أن يكون المعنى ما ذكره ذاك المعمَّم، بأن الله يرضى إذا رضيَتْ الزهراء(عا)، ويغضب إذا غضبَتْ، فكأنّه قبل رضاها وغضبها لا موقف مستقلاًّ لله، وإنّما هو ينتظر موقف الصدِّيقة الطاهرة؛ فإذا رضيَتْ رضي؛ وإذا غضبَتْ غضب؟!
وبعبارةٍ أخرى: رضاها وغضبُها مولِّدٌ لرضاه وغضبه، ولا وجود للرضا والغضب عند الله قبل رضاها وغضبها…
حاشا لله أن يكون تابعاً لأحدٍ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
إذن، ما هو المعنى الصحيح، ولو على هذا المبنى والمذهب الفاسد؟
المعنى اللائق بجمال الله وجلاله وشأنه ومقامه هو: أن يكون رضا الزهراء(عا) كاشفاً عن رضا الله، وغضبُها كاشفاً عن غضبه؛
أي إن الله يرضى أوّلاً، أو يغضب أوّلاً، ولكنْ أنّى لنا أن نعرف هل هو راضٍ أو غاضبٌ؟ ننظر إلى موقف الزهراء البتول فاطمة(عا)؛ فإنْ كانت راضيةً فاللهُ راضٍ، وإنْ كانت غاضبةً فاللهُ غاضبٌ، لأنه ليست لها مواقفُ ذاتيّةٌ وشخصيّةٌ بعيداً عن موقف الله، فهي لا تحيد في مواقفها عمّا يقرِّره المولى الجليل، الحكيم العليم، السميع البصير… إلى آخر صفاته وأسمائه.
إذن
وفق المذهب الصحيح، مذهب محمدٍ وآل محمدٍ(ص)، ليس لله حالٌ تتبدَّل وتتغيَّر، فهو العالم بكلّ شيءٍ منذ الأَزَل، فلا يغيِّره شيءٌ، ولا يفاجئه شيءٌ، فلا يرضى أو يغضب كالمخلوقين، وإنّما رضاه ثوابُه، وغضبُه عقابُه؛ فمَنْ رضيَتْ عنه الزهراء(عا) ـ التي لا ترضى إلاّ وفق معايير الإسلام ـ كان من المأجورين المُثابين، من أهل الفلاح والنجاح؛ ومَنْ غضبَتْ منه الزهراء(عا) ـ وهي لا تغضب إلاّ لله، ووفق معايير الإسلام أيضاً ـ كان من المأزورين المُعاقبين، من أهل الشقاء والخسران…
وفي هذا المقام تشترك مولاتُنا الزهراء(عا) مع كثيرٍ من عباد الله الصالحين، كالأنبياء والأولياء المعصومين(عم).
ووفق المذهب غير الصحيح ـ الذي يرتضي تغيُّر حال الله ـ يكون رضا فاطمة(عا) كاشفاً عن رضا الله، وغضبُها كاشفاً عن غضبه، فاللهُ يرضى ويغضب ابتداءً، واستقلالاً، ولا يَتْبَع في ذلك أحداً، وإنما يَتْبَعه في رضاه وغضبه الملائكةُ والأنبياءُ والأولياءُ المعصومون(عم)، فيرضَوْن عمَّنْ رضي عنه، ويغضبون ممَّنْ غضب منه، ويريد النبيُّ(ص) أن يقول: إن للزهراء(عا) مثلَ هذا المقام الذي ناله المصطَفَوْن الأخيار.
وليس صحيحاً على الإطلاق أن يكون معنى الحديث أن رضا الله وغضبَه يتولَّدان ويوجدان من رضا الزهراء(عا) وغضبها، بحيث يكون رضا الله وغضبُه كالتابع للرضا والغضب الفاطميّ، جلَّ الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.
اللهمّ عرِّفنا نفسك؛ فإنك إنْ لم تعرِّفنا نفسك لم نعرف نبيَّك،
اللهمّ عرِّفنا رسولك؛ فإنك إنْ لم تعرِّفنا رسولك لم نعرف حجَّتك،
اللهمّ عرِّفنا حجَّتك؛ فإنك إنْ لم تعرِّفنا حُجَّتك ضلَلْنا عن ديننا.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) الصدوق، التوحيد: ١٦٨، عن أبيه(ر)، عن أحمد بن إدريس، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن محمد عيسى اليقطيني، عن المشرقي، عن حمزة بن الربيع، عمَّنْ ذكره، عن أبي جعفر(ع)…، الحديث.
([2]) الصدوق، الأمالي: ٣٥٣، عن أحمد بن الحسن القطّان، عن الحسن بن عليّ السكري، عن محمد بن زكريّا الجوهري، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه قال: سألتُ الصادق جعفر بن محمد(ع)…، الحديث.
([3]) المجلسي، بحار الأنوار ٣٦: ٤٠٣، نقلاً عن كتاب الكفاية: عليّ بن الحسين، عن هارون بن موسى، عن محمد بن همام، عن الحميري، عن عمر بن عليّ العبدي، عن داوود بن كثير الرقّي، عن يونس بن ظبيان، عن الصادق جعفر بن محمد(ع).