15 مايو 2015
التصنيف : حوارات، منبر الجمعة
لا تعليقات
5٬517 مشاهدة

المبعث النبويّ والإسراء والمعراج، إعجازٌ ودلالات

2015-05-15-منبر الجمعة-المبعث النبوي والإسراء والمعراج، إعجازٌ ودلالات2  دعاية برنامج محطات ـ المبعث والإسراء2 

(الجمعة 15 / 5 / 2015م)

نبارك للإنسانيّة جمعاء ذكرى مبعث النبيّ الخاتَم محمد(ص)، وذكرى إسرائه من مكّة إلى القُدْس، ثمّ معراجه إلى السماء
ونضعُ بين أيديهم نصّاً لحوارٍ حول هذين الحدثَيْن العظيمَيْن، وهو حوارٌ أجراه الأخ الإعلامي الشيخ حسين قعيق
مع سماحة الشيخ محمد عبّاس دهيني
في حلقة من برنامج (حلقات) على قناة الإيمان الفضائية، بتاريخ: السبت 18 / 4 / 2015م
ويمكنكم مشاهدة الحلقة كاملةً على الرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=6i1d-xHc65k

س1: يقول الإمام عليّ(ع): «أرسله ـ يقصد رسول الله ـ على حين فترةٍ من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزامٍ من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وإياسٍ من ثمرها…»([1]). انطلاقاً من هذا الحديث يمكننا معرفة الحالة التي كانت سائدةً في المجتمع قبل بعثة النبيّ(ص). هل هذا ما كان يدفعه(ص) للصعود إلى جبل النور والاعتزال في غار حراء؟

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

من الواضح والمعروف ما كانت عليه أمّة العرب، بل وسائر الأمم، عند البعثة النبويّة الشريفة، من اضطرابٍ في الفكر، وخللٍ في السلوك.

فمن عبادة الأوثان والنِّيران، والشجر والبقر، إلى عاداتٍ اجتماعيّة في غاية القُبْح، وانتهاك حقوق الإنسان، كوَأْد البنات، والرِّبا، والتبنِّي، واستعباد الناس؛ لأتفه الأسباب.

ويكفينا في تسليط الضوء على حال المجتمعات وتخلُّفها آنذاك أن نتذكَّر أنّ حرباً ضروساً قد قامت بين قبيلتين، واستمرَّت لعقودٍ من الزمن؛ بسبب نتيجةٍ في سباق خَيْلٍ.

في مجتمعٍ كهذا لا بُدَّ للشخص المنفتح على الله، الخالق العالم القادر، أن يلجأ ويتقرَّب إليه، بالمناجاة والذِّكْر؛ ليستعين به على مواجهة كلِّ هذا الواقع المنحرف.

وهذا ما قام به النبيُّ(ص)، حيث كان يخلو بنفسه في غار حراء، في أطراف مكّة، حيث يقوم بذكر الله ومناجاته والابتهال إليه؛ ليجعل له من أمره فَرَجاً ومخرجاً.

لقد كان(ص) يعيش همَّ إخراج الناس ممّا هُمْ فيه من جهلٍ وتخلُّف في الفكر والعقيدة والعمل، وانحطاطٍ خُلُقيّ، ممّا هُمْ فيه من الظلمات يغشى بعضُها بعضاً، إلى نور العلم والحقّ والهُدى والقِيَم والأخلاق.

ومن هنا كان أوّل ما نزل عليه؛ ليبلِّغه للناس، قولَه تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ (العلق: 1 ـ 2). اقرأ أيُّها الإنسان وتفكَّر في صفات الله جيِّداً، تصل إلى العقيدة الصحيحة، والشريعة القويمة، والأخلاق الفاضلة.

إذن الرسالةُ الإسلاميّة الخاتِمة إنّما هي تجلٍّ لرحمة الله عزَّ وجلَّ بخَلْقِه كلِّهم، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). وأكَّد ذلك النبيُّ(ص) بقوله: «إنّما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»([2]).

هذا وقد بعث النبيّ الأكرم محمد(ص) على فترةٍ وانقطاعٍ من الرُّسُل، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (المائدة: 19). نعم لم تنقطع النُّذُر، والحجج؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: 24).

س2: هل اختصّ الله تعالى النبيّ(ص) بالنبوّة لصفاتٍ ومؤهِّلات طبيعيّة خاصّة به، أم أن الله سبحانه وتعالى اختاره لأنه من الطبيعيّ أن يختار أحداً من البشر، غاية الأمر أن الاختيار قد وقع عليه؟

لم تتعلَّق إرادةُ الله ومشيئته في أن يبعث إلى الناس ملائكةً رُسُلاً وأنبياء، وإنَّما أراد أن يكون الأنبياء والرُّسُل من البشر أنفسهم. لكنَّه اصطفى من البشر أفراداً وجماعاتٍ؛ لما يعلمه ـ وهو الخلاّق العليم ـ من طهارتهم وصفائهم وفضلهم.

وهذا ما يؤكِّده قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 33).

ورسولُ الله الأكرم محمد(ص) هو من ذرِّيّة خليل الله إبراهيم(ع)، من ولده إسماعيل(ع).

إذن الله سبحانه وتعالى يختار من البشر مَنْ تتوفَّر فيه صفات الحُسْن المعنوي، والجمال الروحي، فيجعله في مصافّ المصطَفَيْن الأخيار.

وهذه الصفات مقدورةٌ لكلِّ الناس، ولكنَّها تحتاج إلى مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء. وأهمُّ عدّةٍ مطلوبة لهذا الجهاد هو معرفة الله. وجميع الأنبياء ـ ومنهم نبيُّنا الأكرم محمد(ص) ـ كانوا يتوسَّلون شتَّى الطرق لبلوغ القِمّة والكمال في هذه المعرفة، فإذا عرفوه وحَّدوه وعبدوه وأطاعوه وكرهوا معصيتَه. فهم ينفرون من المعصية ويفرُّون منها فرار الإنسان السويّ من الأسد، أو المَرَض، أو الجيفة القَذِرة النَّتِنة.

وعليه فالعِصْمة ليست قهريّةً، وإلاّ لما استحقّ عليها ثواباً، وإنَّما هي إراديّةٌ بشكلٍ كامل. وترتكز على صفاتٍ ومؤهِّلات شخصيّة، قد أحاط الله بها علماً قبل ظهورها للناس، فيختار الأنبياء والرُّسُل والأوصياء على أساسها.

ومن تلك الصفات والمؤهِّلات مثلاً: عشق الخير للناس كافّةً، وطلب الإصلاح في العالَمين.

س3: من خلال مقوِّمات الاصطفاء التي جعلها الله في شخص الرسول الكريم(ص)، ألا يمكننا استخلاص مقوِّمات اختيار القادة في مختلف نواحي الحياة، انطلاقاً من ذلك؟

إنّ عقيدتنا بأنّ الله حكيمٌ، يضع الأمور في مواضعها، تُنتج أنّ ما فعله عزَّ وجلَّ في اختياره واصطفائه لبعض البشر على أساس مؤهِّلاتٍ يتمتَّعون بها هو فعلٌ حكيم. وتشير إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124).

وبما أنّ هذا الاختيار حكيمٌ ينبغي أن يُعتَمَد ويُتَّبَع في اختيار البشر لقيادتهم.

فاختيار النبيّ والوصيّ (الإمام)(ع) بيد الله، وليس للناس أن يتدخَّلوا في ذلك. وأمّا اختيار القادة ـ غير المعصومين ـ في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو… فهو بيد الناس. وعليهم أن يختاروا مَنْ تتوفَّر فيه صفات الكمال البشريّ، ولو في بعض مراتبها، كالعلم والمعرفة، والصبر والحكمة، والشجاعة والرحمة، وحبِّ الخير والإصلاح، والزهد والتواضع.

وهكذا نفهم أيضاً ما بيَّنه النبيُّ(ص) في أكثر من مناسبةٍ، وهو يشير إلى ما دعاه لاختيار أمير المؤمنين عليٍّ(ع) للإمامة من بعده، بأمرٍ من الله عزَّ وجلَّ، فكان يقول: «أعلمكم عليّ بن أبي طالب»([3])، «أقضاكم عليّ»([4]).

وهكذا نفهم لماذا كان عليٌّ(ع) يصف نفسه للناس فيقول: «ألا وإنّ إمامَكُم قد اكتفى من دنياه بطِمْرَيْه، ومن طعمه بقُرْصَيْه. ألا وإنَّكُم لا تقدرون على ذلك، ولكنْ أعينوني بوَرَعٍ واجتهاد، وعفّةٍ وسداد»([5]).

وهكذا كان النبيُّ(ص) يعيش قِمّة التواضع لله، وللناس، حتَّى «أتاه رجلٌ، فكلَّمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: «هوِّنْ عليكَ؛ فإنّي لستُ بمَلَكٍ، إنّما أنا ابنُ امرأةٍ تأكل القديد»([6]).

وهكذا «لقي أميرَ المؤمنين(ع) عند مسيره إلى الشام دهاقينُ الأنبار، فترجَّلوا له، واشتدّوا بين يدَيْه، فقال: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلُقٌ منا نعظِّم به أمراءنا، فقال: واللهِ، ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم في دنياكم، وتشقَوْن به في آخرتكم. وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدَّعة معها الأمان من النار»([7]).

س4: من خلال قراءتنا للروايات التي تتحدَّث عن تفاصيل اللحظات الأولى للبعثة، وما يورده البعض من أخبار عن حالة النبيّ(ص) بعد أن نزل الوحي عليه للمرّة الأولى، من حيث الاضطراب والرُّعب الذي اعتراه، إلى جانب عودته إلى زوجته خديجة(رض)، وهو جاهلٌ بما يحدث معه…([8]). هل تنسجم هذه الصور مع مفهومنا للنبيّ المعصوم؟ وهل يعقل أن يبعث الله محمداً(ص) رسولاً ويتركه في هذه الحال من التخبُّط؟

تلك قصصٌ غريبة، وبعيدة عن الواقع تماماً. وحجّتُنا في ذلك عدّةُ أمور:

أـ لغة الخطاب الأوّل ليست لغة التهديد والوعيد، وإنَّما هي لغة اللُّطف والعَطْف، لغةٌ ملؤها الحُبّ والرعاية: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1 ـ 5)، فلماذا الخوف والارتباك؟

ب ـ إنّ النبيّ(ص) لا يلجأ إلى أحدٍ لطمأنته، فهو لم يرتَدْ كُتّاباً، ولم يذهب إلى معلِّم، من قبلُ، فكيف بعد أن تكفَّل الله بتعليمه؟! وهذا ما يؤكِّده قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت: 48).

ج ـ لو أنّ النبيّ(ص) كان قد راجع ورقة بن نوفل أو غيره في أمر صحّة الرسالة لاحتجّ عليه المشركون بأنّه هو نفسه لم يكن ليصدِّق ما سمع من الوحي، فكيف يدعوهم إلى تصديقه؟!

وأمّا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ (المدثر: 1)، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ (المزمل: 1)، فالظاهر أنّ المراد به ـ كما كان يقول أستاذنا المرجع فضل الله(ر) ـ المعنى الكنائي لهاتين الكلمتين([9])، في ما يمثِّله التدثُّر والتزمُّل من حالة راحةٍ ودَعَة واسترخاء. فكأنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول للنبيّ(ص): انقضى وقت الراحة، وولّى زمن الاسترخاء. انهَضْ لتحمُّل أعباء المسؤولية في الدعوة إلى الله، وبيان العقيدة، وتبليغ الأحكام، والمواجهة لأعداء الدين الحنيف.

وأمُّ المؤمنين خديجة(عا) امرأةٌ صالحة، وتعرف صِدْق زوجها، بل يعرف ذلك كلُّ الناس في مكّة، فقد كانوا يلقِّبونه بـ «الصادق الأمين». ومن هنا أسرعت(عا) للإيمان برسالته؛ لمعرفتها بشخصيّة النبيّ(ص) وصدقه وأمانته. ولا يُتصوَّر في حقِّها(عا) أن تَدْعوه لسؤال هذا أو ذاك من الناس.

س5: من الملفت للنظر أنّ أوّل آيةٍ نزلت على رسول الله(ص) هي كلمة ﴿اقْرَأْ﴾. ما هي دلالة هذه الكلمة؛ كونها أوّل كلمة من كلام الله سبحانه وتعالى نزلت على رسوله للبشريّة؟

لقد خوطِب بـ ﴿اقْرَأْ﴾، فماذا يقرأ؟ وهل كان يمتلك كتاباً بين يدَيْه آنذاك؟

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾: فباستيحاء هذه الصفة الإلهيّة وهي الخَالقيّة ينطلق(ص) في قراءةٍ شاملة للكون كلِّه. إذن هي دعوةٌ إلى التفكُّر في أحوال الخلائق، ليتعرَّف على عظمة الله، وبديع صنعه، وكمال نعمته.

ثمّ خوطب مجدَّداً: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. فالله هو العالم بكلِّ شيءٍ، والمعلِّم والهادي إلى ما ينفع الناس وما يضرّهم. إذن هي القراءة في كتاب التشريع الصادر من الله جلَّ جلاله.

اقرَأْ لتعرف أنّه القادر على كلِّ شيءٍ، وأنّه يرفع درجاتٍ مَنْ يشاء، وقد أهلك عاداً وثمود وفرعون وقارون ونمرود، فما أبقى. إذن لا تخَفْ فإنَّك أنت الأعلى.

اقرَأْ لتتزوَّد روحيّاً، وتعيش الاتِّكال على الله وحدَه، وتطلب العون منه دون غيره.

فكِّرْ، استمِعْ، اتْلُ ما أوحي إليك من ربِّك؛ ليعلم الناس كافّةً أنّ الدين ليس مجرّد طقوس، بل هو مشروع دولةٍ وحكم وحياةٍ عامّة، فلا بُدَّ من إعداد العُدّة والعَدَد الكافيين للمواجهة القريبة.

س6: انطلاقاً من كلمة ﴿اقْرَأْ﴾ سننتقل معكم ضيفَيَّ الكريمين، ومع المشاهدين، لنقرأ تفاصيل وأبعاد قصّة الإسراء والمعراج؛ لمصادفة حدوث كلٍّ منهما في نفس التاريخ، مع اختلاف سنة الحدوث. باختصارٍ ما هي رحلة الإسراء والمعراج؟

يحدِّثنا القرآن الكريم عن هذه الرحلة الأرضيّة ـ السماويّة بجملةٍ مختَصَرة، ولكنّها ذات دلالاتٍ عظيمة.

﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ (الإسراء: 1).

والإسراء هو السَّيْر في الليل، إذن هي رحلةٌ ليلية، لعبد الله ـ ومقام العبوديّة أرفع مقامٍ عند الله، ولهذا عبَّر به عن نبيِّه الأكرم محمد(ص) في أكثر من آيةٍ ـ، من المسجد الحرام، وهو مكّة، وليس المراد المسجد حيث الكعبة المشرَّفة، إلى المسجد الأقصى، أي الأبعد عن مكّة، فكأنْ لا مسجد آخر في ما بعد تلك المنطقة آنذاك.

وهذا المسجد هو بيت المقدس، كما في رواياتٍ كثيرة، وليس شيئاً آخر.

وميزة هذا المسجد أنّ الله بارك حوله، وكأنّها إشارةٌ إلى وظيفة المساجد في المجتمع، فليست البركة في أحجارها وأعمدتها، وإنَّما في ما تحدثه من تغيُّراتٍ وتحوُّلات في المجتمع، ينقلب معها مجتمعاً مباركاً كريماً نزيهاً.

والهدف من هذه الرحلة أن يريه الله بعض آياته في هذا الكون.

إذن هي رحلةٌ معرفيّة، رحلةٌ تربويّة.

وهكذا تنتهي رحلة الإسراء، وهي السَّيْر الأفقي في الليل من بلدٍ إلى آخر، لتبدأ رحلة المعراج، وهو سيرٌ عاموديّ في السماوات السبع، بطريقةٍ إعجازيّة خارجةٍ عن المألوف في الحركة، وفي فترةٍ قصيرة جدّاً. ﴿ولَقَدْ رَأَى [في هذه الرحلة بعضاً] مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (النجم: 18).

وعليه فهي أيضاً رحلةٌ معرفيّة، تتكفَّل الروايات بذكر كثيرٍ من أحداثها، وإنْ كان هناك شكٌّ في بعض تلك الأحداث.

وبما أنّ رحلة المعراج تضمَّنت ـ بحَسَب ما نقلته كتب الحديث ـ بياناً لبعض العقائد والتشريعات فإنَّه يمكننا أن نعتبر هذه الرحلة قضيّةً تاريخيّة وعقائديّة وتشريعيّة.

إذن هما رحلتان: أرضيّة؛ وسماويّة؛ من أجل زيادة معرفة النبيّ(ص) بأسرار هذا الكون الفسيح، ولتبثّ في نفسه المقدَّسة، وقلبه الشريف، الاطمئنان والسكينة.

س7: قد يأتي بعض المشكِّكين للقول: إنّ هذه القصة إنَّما هي أشبه بقصّة خيالية، من الصعب تصديقها. ورُبَما يرى البعض استحالة ذلك، كيف يمكننا إقناعهم بصحّة هذه الحادثة؟ وكيف استطاع النبيّ(ص) أساساً إقناع قومه بصحّة حدوث هذه الرحلة؟

كلُّ المعجزات هي من خارج دائرة المألوف، بل رُبَما كان بعضُ الناس يتوهَّمون أنَّها غير معقولة، وأنّه لا واقعيّة لها، بل هي سِحْرٌ. فقد خاطب بنو إسرائيل موسى، ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 132).

وفي آيةٍ أخرى يحدِّثنا اللهُ عمّا جرى لكليمه موسى(ع)، فيقول: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (النمل: 12 ـ 13).

وكذلك عانى من هذه التُّهمة روح الله عيسى(ع): ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الصفّ: 6).

وصولاً إلى النبيّ الأكرم محمد(ص)، حيث ينبِّئنا الله عمّا لقيه من تُهَمٍ في هذا المجال، فيقول: ﴿اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ (القمر: 1 ـ 3).

وفي آيةٍ أخرى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (يونس: 2).

وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص: 4).

إذن ليس المهمّ أن يكون الحَدَث مألوفاً، بل المطلوب أن يكون مستدَلاًّ، أي من حقِّك أن تسأل: ما هو الدليل على وقوعها؟

1ـ لقد حدَّث النبيّ(ص) أصحابَه، والمشركين، بما رأى في رحلتَيْه: الأرضيّة؛ والسماويّة([10])، وهو الذي لم يزُرْ بيت المقدس من قبلُ، فعَلِم الذين زاروه أنَّه قد ذهب إليه فِعْلاً.

2ـ القرآن الكريم يحدِّثنا عن وقوع هاتين الرحلتين، ونحن ـ كمسلمين ـ نعتقد صدق القرآن، وأنّه لا يأتيه الباطل من بين يدَيْه ولا من خلفه، فهو تنزيلٌ من الله العليم الخبير.

نعم، القرآن لا يذكر تفاصيل هاتين الرحلتين، وإنَّما تتعرَّض لذلك بعض الروايات، التي ينبغي دراستُها ومحاكمتها بمنهجيّةٍ علميّة واضحة؛ للوصول إلى الحقائق الثابتة.

ونحن نعترف أنّ بعض الروايات التي تتحدَّث عن تفاصيل الرحلة مبتلاةٌ بضعف السند، وبعض الخلل في المضمون، فقد لا نلتزم بكلِّ تلك التفاصيل، ولكنّ أصل القضية والحادثة ثابتٌ بلا شكٍّ ولا رَيْب.

س8: إذا أردنا الغوص في مدلولات هذه الحادثة يلفتنا اختيار المسجد الأقصى، كمكان أُسْري إليه النبيّ(ص)، ومنه كان معراجه. ما هي دلالة هذا الاختيار؟

أشرنا في ما سبق إلى أنّ المسجد الأقصى كان أبعد بيتٍ لله عن مكّة المكرَّمة، فكأنَّه لا مسجد بعده، والمسير الليليّ إليه يحقِّق رؤية أكبر قدرٍ ممكن من آيات الله، وهي الهدف والغاية لهذه الرحلة. تماماً كما أُري إبراهيم الخليل(ع) ﴿مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ﴾ (الأنعام: 75).

ولا ننسى أنّ المسجد الأقصى وما حوله من بلاد الشام ومصر شكَّل مهد أغلب الأنبياء السابقين، ولا سيَّما الذين ذُكروا في القرآن الكريم. ويُقال: إنّه «جُمع للنبيّ(ص) في بيت المقدس مَنْ شاء الله من الأنبياء، وتحدَّث إليهم جميعاً»([11]). ولم تبيِّن لنا الآيات أو الروايات طبيعة هذا الحديث، ولكنَّه ـ بناءً على صحّة هذا القول ـ سيكون حديثاً مفيداً. يعني هو أشبه بمؤتمرٍ نبويّ رساليّ كونيّ، يحضره جميع الأنبياء، ولكلٍّ تجربتُه الخاصّة. وهكذا توضع كلُّ هذه التجارب بين يدَيْ النبيّ الخاتم محمد(ص).

وقد لا نستطيع تشخيص الحكمة الكاملة والكامنة خلف هذه الرحلة. واللهُ هو العالم.

س9: يروِّج الكثيرون، ممَّنْ يرَوُون قصّة المعراج، لمشاهد مرعبة اطَّلع عليها النبيّ(ص)، عن تعذيب وعقاب للمذنبين بأساليب غايةٍ في القسوة([12]). ألا يمكن لهذه المشاهد أن تؤدِّي إلى ردَّة فعلٍ سلبيّة تجاه الله سبحانه وتعالى؟ وقد يأتي البعض ليقول: وهل هناك اليوم ـ أي قبل قيام الساعة ـ جنّةٌ أو نار؟

قلنا: إنّنا قد لا نوافق على بعض المشاهد التي تنقل في حديثٍ هنا أو هناك؛ لعدم الدليل الصحيح على صدور ذلك من المعصوم(ع)، الذي لا ينطق عن الهَوَى؛ ولعدم انسجام تلك المشاهد مع بعض العقائد أو التشريعات اليقينيّة.

كما في نزول الماء من ساق العرش الأيمن، وتلقّي النبيّ(ص) له باليمين، ومن أجل ذلك صار أوّلُ الوضوء اليمنى([13]). وهذا يتنافى مع عقيدتنا بأنّ عرش الرحمن هو سلطتُه وقدرتُه، وليس هناك عرشٌ مجسَّم، له ساقٌ أو يمين أو شمال.

وكما في تشريع الصلوات الخَمْسين، ثمّ تخفيفها بطلبٍ من النبيّ(ص)، بعد أن أشار عليه موسى بذلك؛ لأنّ أمّته لن تطيقها، حتَّى وصلَتْ إلى الفرائض الخمس لا غير([14])، ففاتتنا مصالحُ الصلوات الباقية!!! مع العلم أنّ النصّ القرآني تكفَّل تحديد أوقات الفرائض بما لا يدعُ مجالاً للشكّ في أنّها خمس فرائض لا أكثر.

وأمّا كون المشاهد ـ مشاهد أهل النار والعذاب ـ مرعبةً، وتنعكس سلباً على العلاقة بالله سبحانه وتعالى، فإنّنا نؤكِّد على مطلوبيّة الخوف، والرَّهْبة، والخَشْية، والتَّقوى، والحَذَر، من الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 175)، ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (البقرة: 40)، ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ (الأحزاب: 37)، ﴿لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ (الزمر: 16)، ﴿فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: 63)، ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 9)، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (البقرة: 235)، ﴿وَيُحَذِّرُكُمْ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ (آل عمران: 30).

إذن الخوف مطلوبٌ، ولكنْ أيُّ خوفٍ؟ خوف الإصلاح، لا خوف السقوط والانهيار؛ الخوف الذي يقترن بالرجاء والأمل برحمةِ الله وعفوه ومغفرته: ﴿يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾.

ولا ننسى أن بعض المشاهد التي تعرَّضت لها أحاديث المعراج تبعث على الأَمَل، والطَّمَع برحمة الله، كالذي يُروى من «أنّ النبيّ(ص) سمع مَلَكاً يؤذِّن ويقول: حيَّ على الصلاة، فقال تعالى: صدق عبدي، ودعا إلى فريضتي، فمَنْ مشى إليها، راغباً فيها محتسباً، كانت له كفّارةً لما مضى من ذنوبه، فقال: حيَّ على الفلاح، فقال الله: هي الصلاح والنجاح والفلاح…الخبر»([15]).

ويروى أيضاً في حديث المعراج بيانُ رفع الآصار، حيث قال الله تعالى: «وإنّ الرجل من أمَّتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو مائة سنة، ثمّ يتوب ويندم طرفة عينٍ، فأغفر له ذلك كلَّه…الخبر»([16]).

س10: ما هي الفائدة العمليّة التي نحصِّلها من دراسة حادثتَيْ المبعث النبويّ والإسراء والمعراج؟ وكيف يمكن توظيف مناسبات إحيائها في خدمة قضية الوحدة الإسلامية، والانفتاح على الإنسانيّة عامّة؟

بما أنّ هاتين الحادثتين لم تقعا عَبَثاً ولَغْواً، وإنّما كانتا لحكمةٍ وهدفٍ سام، فلا بُدَّ بعد التفكُّر والتعرُّف على أهدافهما من الاستفادة منها قدر الإمكان.

1ـ يُروى عن النبيّ(ص) أنّه قال: «إنّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق»([17]). فهذا هو الهدف الأسمى للبعثة النبويّة المحمديّة الشريفة. إذن كلّما سعينا للتحلّي بمكارم الأخلاق نكون قد حصلنا على الفائدة العمليّة المرتجاة لتلك الحادثة.

2ـ أيضاً النبيّ(ص) تحمَّل في سبيل القيام بمسؤولية الدعوة والتبليغ على أكمل وجهٍ الكثيرَ من الأذى، الجسدي والنفسي، حتّى رُوي عنه أنّه قال: «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيتُ»([18]). فلكي نحصل على الفائدة العمليّة من هذه الحادثة لا بُدَّ أن نوطِّن أنفسنا على تحمُّل كافّة المشقّات والصعوبات، والأذى والضَّرر الذي قد يصيبنا، ونحن نتابع مسيرة هذا النبيّ العظيم، في نشر العقيدة الصحيحة، والشريعة السمحاء.

3ـ وأيضاً تضمَّنت كلتا الحادثتين سَيْراً تفكُّريّاً ومعرفيّاً للنبيّ(ص). ومن الضروريّ أن نستفيد من هاتين الحادثتين في إحياء هذه النزعة التفكُّريّة والمعرفيّة في نفوس أبناء هذه الأمّة، ولا سيَّما أتباع هذا النبيّ العظيم؛ فإنّها سبيلٌ عريضة إلى الرقيّ والتحضُّر والنصر.

4ـ ولا ننسى خطابَ الله جلَّ جلالُه لنبيِّه الأعظم محمد(ص): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وليس للمسلمين فحَسْب. إذن ينبغي أن نقتدي بهذا النبيّ الرحيم والعطوف والرؤوف والحريص على أمّته، بل العالمين جميعاً، فنكون الرحماء في ما بيننا، ونسعى لنشر ثقافة المحبّة والرأفة والرحمة، بعيداً عن الخصومة والشِّقاق والفتنة.

5ـ ونستوحي من لقاء النبيّ الأكرم(ص) بجميع الأنبياء السابقين في بيت المقدس، وصلاته بهم، وحدة الأديان السماويّة كافّة، وهذا ما أكَّدته الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: 19)، وقوله تعالى: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (البقرة: 285)، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة: 135 ـ 137).

إذن فلنلْتَقِ على الكلمة السواء، والقواسم المشتركة، وهي كثيرةٌ؛ استجابةً لأمر الله تبارك وتعالى، حيث يقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) نهج البلاغة 1: 156 ـ 157.

([2]) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 15: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): إنما بعثت لأتمِّم صالح الأخلاق. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ورواه البزّار، إلا أنه قال: لأتمِّم مكارم الأخلاق. ورجاله كذلك، غير محمد بن رزق الله الكلوداني وهو ثقةٌ.

([3]) رواه الكليني في الكافي 7: 423 ـ 424، عن عليّ بن محمد، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن أبي عيسى يوسف بن محمد قرابة لسويد بن سعيد الأمراني، عن سويد بن سعيد، عن عبد الرحمن بن أحمد الفارسي، عن محمد بن إبراهيم بن أبي ليلى، عن الهيثم بن جميل، عن زهير، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن حمزة السلولي، عن عمر بن الخطاب، مرفوعاً.

([4]) رواه القاضي النعمان في دعائم الإسلام 1: 92، معلَّقاً عن أبي عبد الله الصادق(ع)، مرفوعاً.

([5]) نهج البلاغة 3: 70، من كتاب له(ع) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِي إلى وليمة قومٍ من أهلها، فمضى إليها.

([6]) رواه ابن ماجه في السنن 2: 1101، عن إسماعيل بن أسد، عن جعفر بن عون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود، مرفوعاً.

([7]) نهج البلاغة 4: 10 ـ 11.

([8]) جاء في سيرة ابن إسحاق 2: 101 ـ 103: فقال رسول الله(ص): لجاءني وأنا نائم، فقال: اقرأ، فقلتُ: وما أقرأ؟ فغتَّني حتّى ظننتُ أنه الموت، ثم كشطه عنّي، فقال: اقرأ، فقلتُ: وما أقرأ؟ فعاد لي بمثل ذلك، ثم قال: اقرأ، فقلتُ: وما أقرأ؟ وما أقولها إلاّ تنجِّياً أن يعود لي بمثل الذي صنع بي، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ثم انتهى، فانصرف عنّي، وهببت من نومي، وكأنَّما صور في قلبي كتاب، ولم يكن في خلق الله عزَّ وجلَّ أحدٌ أبغض إليَّ من شاعرٍ أو مجنون، كنت لا أطيق أنظر إليهما، فقلت: إنّ الأبعد ـ يعني نفسه(ص) ـ لشاعرٌ أو مجنون، ثم قلتُ: لا تحدِّث قريش عنّي بهذا أبداً، لأعمدنَّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنَّ نفسي منه، فلأقتلنَّها، فلأستريحنَّ، فخرجتُ لا أريد غير ذلك، فبينا أنا عامدٌ لذلك سمعت منادياً ينادي من السماء، يقول: يا محمد، أنتَ رسول الله، وأنا جبريل، فرفعتُ رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجلٍ صافّ قدمَيْه في أفق السماء، يقول: يا محمد، أنتَ رسول الله، وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، وشغلني عن ذلك، وعما أريد، فوقفتُ ما أقدر على أن أتقدَّم، ولا أتأخَّر، ولا أصرف وجهي في ناحية من السماء إلاّ رأيته فيها، فما زلت واقفاً ما أتقدَّم ولا أتأخَّر حتَّى بعثَتْ خديجة رسلها في طلبي، حتَّى بلغوا مكّة ورجعوا، فلم أزَلْ كذلك حتَّى كاد النهار يتحوَّل، ثمّ انصرف عنّي، وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتّى أتيتُ خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنتَ؟ فوالله لقد بعثتُ رسلي في طلبك حتَّى بلغوا مكة ورجعوا، فقلتُ لها: إنّ الأبعد لشاعرٌ أو مجنون، فقالت: أعيذك بالله يا أبا القاسم من ذلك، ما كان الله عزَّ وجلَّ ليفعل بك ذلك، مع ما أعلم من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك، وما ذاك يا بن عمّ؟! لعلَّك رأيت شيئاً أو سمعته، فأخبرتُها الخبر، فقالت: أبشِرْ يا بن عمّ، واثبت له، فوالذي تحلف به إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمّة، ثم قامت فجمعت ثيابها عليها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمِّها، وكان قد قرأ الكتب، وكان قد تنصَّر وسمع من التوراة والإنجيل، فأخبرَتْه الخبر، وقصَّتْ عليه ما قصَّ عليها رسول الله(ص) أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنتِ صدقتني يا خديجة إنه لنبيُّ هذه الأمّة، وإنّه ليأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى(ع)، فقولي له: فليثبت. ورجعَتْ إلى رسول الله(ص) فأخبرته ما قال لها ورقة، فسهَّل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهمّ بما جاءه. فلما قضى رسول الله(ص) جواره صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة، فقال: يا ابن أخ، أخبرني بالذي رأيتَ وسمعتَ، فقصّ عليه رسول الله(ص) خبره، فقال ورقة: والذي نفس ورقة بيده إنه ليأتيك الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى(ع)، وإنَّك لنبيُّ هذه الأمّة، ولتوذينَّ ولتكذَّبنَّ ولتقاتلنَّ ولتنصرنَّ، ولئن أنا أدركتُ ذلك لأنصرنَّك نصراً يعلمه الله، ثم أدنى إليه رأسه فقبَّل يافوخه، ثم انصرف رسول الله(ص) إلى منزله، وقد زاده الله عزَّ وجلَّ من قول ورقة ثباتاً وخفَّف عنه بعض ما كان فيه من الهمّ.

وفي مسند أحمد بن حنبل 6: 233؛ وصحيح البخاري 1: 3 ـ 4، 6: 88 ـ 89، وصحيح مسلم 1: 97 ـ 98: حتى فجأه الحقّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال رسول الله(ص): فقلتُ: ما أنا بقارئٍ، قال: فأخذني فغطَّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطَّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطَّني الثالثة حتّى بلغ منّي الجهد، ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، حتّى بلغ ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. قال: فرجع بها ترجف بوادره، حتَّى دخل على خديجة، فقال: زمِّلوني زمِّلوني، فزمَّلوه حتّى ذهب عنه الرَّوْع، فقال: يا خديجة، وأخبرها الخبر….

([9]) راجع: تفسير من وحي القرآن 23: 179، 202 ـ 203.

([10]) راجع: مسند أحمد بن حنبل 1: 374، 3: 377 ـ 378؛ والأمالي (للصدوق): 533 ـ 534.

([11]) رواه عليّ بن إبراهيم في التفسير 2: 3 ـ 4، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(ع)، مرفوعاً.

([12]) ربما يكون ذلك إشارةً إلى هذه المقاطع من حديث المعراج:

1ـ في حديث المعراج قال(ص): رأيتُ امرأةً يُحرَق وجهُها ويداها، وهي تأكل أمعاءها، وأنها كانت قوّادةً.

2ـ في حديث المعراج قال(ص): أما المعلَّقة بلسانها فإنها كانت تؤذي زوجها.

3ـ في حديث المعراج قال النبيّ(ص): ثمّ مضيتُ، فإذا أنا بأقوامٍ لهم مشافر كمشافر الإبل، تقرض اللحم من جنوبهم، وتلقى في أفواههم، فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون…الخبر.

4ـ في حديث المعراج قال رسول الله(ص): ثمّ مضيتُ، فإذا أنا بنسوانٍ معلَّقات بثديهنَّ، فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء اللواتي يُورِثْنَ أموال أزواجهنَّ أولاد غيرهم.

5ـ في حديث المعراج قال(ص): فإذا أنا بأقوامٍ تُقذَف النار في أفواههم، وتخرج من أدبارهم، فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً…إلخ.

6ـ في حديث المعراج قال(ص): ثمّ مضيتُ، فإذا أنا بأقوامٍ تُرضَخ رؤوسُهم بالصخر، فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الذين ينامون عن صلاة العشاء.

7ـ في حديث المعراج قال(ص): ثمّ مضيتُ، فإذا أنا بأقوامٍ يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من عظم بطنه، فقلتُ: مَنْ هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ﴾ (البقرة: 275).

والمقاطع الخمسة الأخيرة رواها عليّ بن إبراهيم في التفسير 2: 3 ـ 7، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(ع)، مرفوعاً ـ في حديثٍ طويل ـ.

([13]) رواه الصدوق في علل الشرائع 2: 312 ـ 315، عن أبيه ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن محمد بن أبي عمير ومحمد بن سنان، عن الصباح السدي وسدير الصيرفي ومحمد بن النعمان مؤمن الطاق وعمر بن أذينة، عن أبي عبد الله عليه السلام؛ وعن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفّار وسعد بن عبد الله، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطّاب ويعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى، عن عبد الله بن جبلة، عن الصباح المزني وسدير الصيرفي ومحمد بن النعمان الأحول وعمر بن أذينة، عن أبي عبد الله عليه السلام، مرفوعاً.

([14]) رواه عليّ بن إبراهيم في التفسير 2: 3 ـ 12، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(ع)، مرفوعاً.

([15]) رواه عليّ بن إبراهيم في التفسير 2: 3 ـ 12، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله(ع)، مرفوعاً.

([16]) رواه الطبرسي في الاحتجاج 1: 314 ـ 330، معلَّقاً عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه(عم)، عن الحسين بن عليّ(عما)، عن أمير المؤمنين عليّ(ع)، مرفوعاً.

([17]) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 15: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): إنما بعثت لأتمِّم صالح الأخلاق. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ورواه البزّار، إلا أنه قال: لأتمِّم مكارم الأخلاق. ورجاله كذلك، غير محمد بن رزق الله الكلوداني وهو ثقةٌ.

([18]) رواه محمد بن همام الإسكافي في التمحيص: 4، معلَّقاً مرفوعاً.



أكتب تعليقك