14 أغسطس 2015
التصنيف : مقالات قرآنية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬262 مشاهدة

الجنّ، معلوماتٌ من وحي القرآن الكريم

2015-08-14-منبر الجمعة-الجن، معلومات من وحي القرآن الكريم

(الجمعة 14 / 8 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

في الحديث عن الجنّ ـ وهو حديثٌ شائق ـ تحضرنا جملةٌ من الأسئلة والعناوين:

1ـ هل توجد مخلوقاتٌ تُسمَّى (الجنّ)؟

وبما أنّه توجد سورةٌ في القرآن الكريم باسم (سورة الجنّ) كان لزاماً أن نبدأ بحثنا بها، لنرى ما الذي يمكن أن نستفيده ونستوحيه من هذه السورة المباركة من معلومات حول عالَم الجنّ، وخصائصهم، ومميِّزاتهم.

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الجنّ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللهِ شَطَطاً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً * وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً * وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً * وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً * وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً * وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً * وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً﴾ (الجنّ: 1 ـ 17).

ووجود سورةٍ بهذا الاسم، وما جاء فيها من أخبار، خير دليلٍ على وجود مجموعةٍ من المخلوقات تُدعى (الجنّ).

كما يؤكِّد هذا الوجودَ آياتٌ كريمة أخرى، من قبيل قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ (الإسراء: 88)، حيث يقبح مطالبة وتحدّي غير الموجود، وهذا ما يكشف أنّهم موجودون، كما هم الإنس موجودون أيضاً.

وقولِه أيضاً: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ (الذاريات: 56 ـ 57). وهذا بيانٌ واضح لكونهم من المخلوقات التي أوجدها الله سبحانه وتعالى، كما البشر، وكلَّفهم بعبادته؛ لنيل سعادة الدنيا والآخرة.

وكذا هو حال كلُّ آيةٍ تشير إلى أنّهم خُلقوا، ولهم نشاطٌ فاعلٌ، وسيحاسَبون عليه يوم القيامة: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ (فصِّلت: 25)، ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ (الأحقاف: 18)، ﴿وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ (الصافّات: 158).

2ـ فوائد من (سورة الجنّ)

أـ لم يكن للنبيّ الأكرم محمد(ص) لقاءٌ حسّي بالجنّ، وإنّما تعرَّف على أخبارهم بوحي السماء. وهذا ما يبعِّد إمكانيّة اتِّصال أحدٍ بهم، فإنّ النبيّ(ص) أَوْلى من غيره بهذا اللقاء لو كان ممكناً؛ لأنّه داعيةٌ ومبلِّغ، فإذا لم يلتقِهم هو(ص) فكيف ينبغي لغيره أن يفعل؟ وإذا لم يساعدوه هو(ص) فكيف يجوز أن يكون ذلك لغيره؟!

وأمّا مساعدتُهم للنبيّ سليمان(ع) فهي في مرحلةٍ قد انتهَتْ بموت سليمان(ع).

ب ـ لهم عقلٌ وفطرة، كما هم البشر، تهديهم إلى معرفة الله، وتوحيده، وضرورة الشكر له كما يحبّ ويرضى (العبادة)، تمهيداً ليوم يرجع فيه الجميع إلى الله جلَّ وعلا؛ ليوفِّيهم حسابهم.

ج ـ بعض الإنس كانوا يستعينون ببعض الجنّ، فما زادوهم غير تعبٍ وإرهاق، وأذاقوهم الأذى والضَّرَر الكبير، وشغلوا حياتهم بمراجعة الكُهّان والمشعوذين الذين لا يملكون مفاتيح التواصل مع الجنّ، وإنَّما يكذبون على مراجعيهم.

د ـ الجنّ ينكرون وجود مصادر للعلوم الغيبيّة لديهم، وإنَّما كان ذلك قبل البعثة النبويّة الشريفة، يصَّعَّدون في السماء، ويسترقون السمع، فيلتقطون بعض الكلمات المتناثرة، التي قد تفيد بعضاً من علمٍ، وأمّا بعد مبعثه(ص) فلم يعُدْ لهم سبيلٌ إلى شيءٍ من ذلك، ولا يقدرون على معرفة ما أخفاه الله عن الناس من أحداثٍ ووقائع، خيراً كانت أو شرّاً.

* هل الجنُّ مكلَّفون؟

هـ ـ في الجنّ صالحون وطالحون، فهم مذاهب مختلفة، كما الإنس. وفي الجنّ مسلمون وقاسطون (مائلون عن الحقّ). ويعترف بعض الجنّ بأنّ الإسلام أقرب إلى الرشد والصلاح، وأنّ الاستقامة هي مفتاح السعادة والنعيم الإلهيّ الكبير.

ويشير القرآن الكريم إلى أنّ في الجنّ والإنس مَنْ اتَّصف بصفة (الشَّيْطنة)، واتَّخذ لنفسه مسلكاً منحرفاً، وقد سمّاهم القرآن الكريم (شياطين الإنس والجنّ)، وعدَّهم العدوّ الحقيقيّ لكلّ الأنبياء، بما يمثِّلونه من الوَعْي والحكمة والصلاح: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ (الأنعام: 112).

وأمّا باقي أفراد الجنّ والإنس، ممَّنْ لم يتسَمَّ بهذا الاسم (شياطين الإنس والجنّ)، فليس لهم عداوةٌ ظاهرة مع الأنبياء وشرائعهم، بل إنّ بعضهم كانوا يقومون بمهمّة التبليغ والإرشاد، فيستمعون إلى القرآن الكريم من فم النبيّ(ص)، ثمّ يعودون إلى قومهم مبشِّرين ومنذرين: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لاَ يُجِبْ دَاعِي اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (الأحقاف: 29 ـ 32).

إذاً هناك جنٌّ منحرفون ضالّون ومُضِلُّون: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنْ الأَسْفَلِينَ﴾ (فصِّلت: 29)، يؤدُّون عملهم على وجه السرعة والخِفّة، فيوسوسون للناس، ثمّ يخنسون ويستخفون: ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ (الناس: 4 ـ 6).

وهذا كلُّه يكشف أنّهم أمّةٌ مكلَّفة، كما هم البشر، ويبيِّن ذلك صريحاً قولُه تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ﴾ (الذاريات: 56 ـ 57).

وهناك آياتٌ عديدة تتحدَّث أنّ من الجنّ مَنْ يدخلون النار، وهذا يكشف عن أنّهم مكلَّفون، وإلاّ فلا معنى للحساب، والثواب والعقاب.

ومن ذلك: قولُه تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنْ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 38).

وقولُه تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ) (الأعراف: 179).

وقولُه تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (السجدة: 13).

وقولُه تعالى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (الصافّات: 158).

و ـ الجنّ يقرّون بالعجز أمام الله، الذي هو خالقهم، ورازقهم، ومدبِّر شؤونهم، كما هو كذلك مع بني آدم. ويؤكِّد خالقيَّتَه لهم قولُه تعالى: ﴿وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنعام: 100).

3ـ ممَّ خُلق الجنّ؟

يصرِّح القرآن الكريم أنّ الجنّ مخلوقاتٌ من نارٍ، حيث يقول: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ (الرحمن: 14 ـ 15)

وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ (الحجر: 26 ـ 27).

ولعلّ هذا يكشف السبب في سرعة حركتهم، ودخولهم إلى كثير من الأماكن المحجوبة، فالنار جسمٌ لطيف، وليست جسماً كثيفاً، كجسم الإنسان. ويؤثِّرون في الأجسام دون أن يمسُّوها، كما هي النار تترك أثرها في الجسم، ولو كان بعيداً عنها، بفعل الحرارة المنبعثة منها. ولعلّ هذا ما يفسِّر كيفيّة وسوسة إبليس لآدم بأن يأكل من الشجرة المحرَّمة، بينما كان إبليس خارج الجنّة، ومطروداً من رحمة الله، بعد امتناعه عن السجود لآدم(ع).

4ـ ما هي طبيعة إبليس؟

إنّ إبليس من الجنّ، ولا علاقة له بجنس الملائكة، ولكنّه؛ بسبب عبادته، كان يعيش وسطهم، ويُقيم بينهم، إلى درجة أنّه أصبح كواحدٍ منهم، فخوطب، كما خوطبوا، بالسجود لآدم، فلمّا رفض ذلك؛ استعلاءً وتكبُّراً وتفاخراً بجنسه الناريّ، أخرجه الله من الجنّة، وطرده من رحمته إلى الأبد؛ بسبب فسقه، واعتبره العدوَّ الحقيقي للإنسان: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ (الكهف: 50).

5ـ هل من فرقٍ بين (الجنّ) و(الجانّ)؟

الحقيقةُ أنّه لا فرق بين (الجنّ) و(الجانّ)، فكلاهما بمعنىً واحدٍ، حيث يقول عزَّ وجلَّ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ﴾ (الرحمن: 39)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ﴾ (الرحمن: 56)، وفي آيةٍ ثالثة: ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ﴾ (الرحمن: 72 ـ 74).

نعم، في قصّة موسى(ع)، حيث ناداه الله في الوادي المقدَّس طُوى، وعرَّفه معجزتَه التي يتحدَّى بها فرعون، ذُكرت كلمة (الجانّ)، حيث جاء في القرآن الكريم: ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾ (النمل: 9 ـ 10)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ﴾ (القصص: 30 ـ 31).

وفي اللغة العربيّة (الجانّ) لها معنيان:

أـ الجنّ.

ب ـ نوعٌ من الحيّات، أَكحلُ العينين، يَضرب إِلى الصُّفرة، لا يُؤْذي.

فأيُّهما المرادُ بهذه الآية؟

يحاول البعض إثبات بلاغةٍ وحكمة قرآنيّة في التعبير بـ (الجانّ) هاهنا، حيث تحوَّلت العصا إلى (جانّ)، وهي الحيّة الصغيرة التي لا تؤذي، وأمّا أمام فرعون فقد تحوَّلت إلى ثعبانٍ مبين ومخيف. والسبب في هذا الاختلاف أنّه في الوادي المقدَّس لم يكن الهَدَف إخافة موسى، بل المراد تعريفه حقيقةَ معجزته، وأمّا أمام فرعون فالمطلوب هو إفزاعُه وإخافته.

ولكنّ ظاهر الآيات الكريمة يشير إلى أنّ موسى فزع من تلك الحيّة فزعاً جعله يهرب، ولا يلتفت خلفَه ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾، إلى أن ناداه الله بأنّك آمِنٌ، فأقبِلْ ولا تخَفْ. فهل فزع من حيّةٍ صغيرة لا تؤذي؟!

وهذا ما يدفعنا إلى القول: إنّه رُبَما يترجَّح؛ بسبب هذه القرينة، أنّ الذي تصوَّره موسى في حركة العصا أنّها جانٌّ (أي جنِّيّ) يتحرَّك، وهو مخيفٌ لمَنْ لا يعرف كيف يتصرَّف معه.

6ـ هل الجنّ يتناسلون؟

هذا ما تؤكِّده آياتٌ عديدة، حيث تقول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً﴾ (الكهف: 50).

ويؤيِّد ذلك ما جاء من حديثٍ عن أنّ للشيطان قبيلاً، يساعدونه في إغواء البشر، ويراقبون حركاتهم، دون أن يتمكَّن البشرُ من رؤيتهم: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 27).

7ـ كَمْ يعيش الجنّ؟

ليس في القرآن الكريم ما يشير إلى عُمْرٍ محدَّد للجنّ.

نعم، ربما أمكن الاستفادةُ من بعض القصص التي تنقل ما أنزله سليمان(ع) بهم من عقوباتٍ، كالحَبْس في قماقم وإلقائها في البحر، أنّهم يعيشون طويلاً جدّاً، وربما طالت أعمارهم إلى يوم القيامة.

ولكنَّ مصادر هذه القصص غير واضحة، ولا يوثَق بها، وهي أقرب إلى الحكايات والأساطير منها إلى الحقائق والوقائع.

نعم، الثابتُ أنّ الله جلَّ وعلا أمهل إبليس، بناءً على طلبه، إلى يوم الوقت المعلوم، فإبليس طلب الإمهال إلى يوم القيامة، فجاءه الجواب الإلهي بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم. ويختلف العلماء في أنّهما يومٌ واحد أو يومان مختلفان: ﴿قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ﴾ (الأعراف: 14 ـ 15)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ (الحجر: 36 ـ 38؛ ص: 79 ـ 81).

8ـ هل للجنّ قدراتٌ خارقة؟

يحدّثنا القرآن الكريم عن قدراتٍ خارقة للجنّ. ففي قصّة سليمان(ع) نشهد قدرةً لعفريتٍ من الجنّ على أن يأتي بعرش بلقيس ـ على عظمته ـ من اليمن إلى فلسطين في غضون ساعاتٍ ﴿قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾: ﴿قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: 38 ـ 40).

وفي آياتٍ أخرى يعرِّفنا الله عزَّ وجلَّ مهمّة الجنّ في عهد سليمان، حيث كانوا عمّالاً بين يدَيْه، يعملون ما تعجز عنه الإنس، وربما كان بعض هذه الأعمال شاقّاً ومتعباً، حتَّى وصفه القرآن بـ (العذاب الأليم)، فقال تبارك وتعالى: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ (سبأ: 12 ـ 14).

وفي آيةٍ ثالثة: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾ (النمل: 17).

ولكنّ هذا الأمر كان من مختصَّات سليمان، الذي طلب من الله أن يهَبَه مُلْكاً عظيماً لا مثيل له، فاستجاب الله له، وسخَّر له الريح والجنّ: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ (ص: 35 ـ 40).

وقد تقدَّمت الإشارة إلى أنّ نبيَّنا الأكرم محمداً(ص) لم يتواصل بشكلٍ مباشر مع الجنّ، ما يعني أنَّه لن يكون لغيره ذلك. إذن لا قدرة على التواصل معهم لأيّ أحدٍ من الناس. وما جرى في عهد سليمان(ع) فهو خاصٌّ به. هذا كلُّه في التواصل الدائم والمستقرّ، وفي ما ينفع الناس، ويخدم مصالحهم.

9ـ هل يضرّون أو ينفعون؟

لقد تقدَّم في سورة الجنّ الحديث عن أنّ بعض الناس قد استعانوا ببعض الجنّ، فزادوهم رَهَقاً ونَصَباً: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً﴾ (الجنّ: 6).

وتجدر الإشارة إلى دلالة التعبير بـ ﴿كَانَ رِجَالٌ﴾، أي في الزمن الماضي، وليس معلوماً استمرار هذا الأمر إلى يومنا هذا.

وربما يفيدنا هذا في تحديد جهة الاستعانة، وهي الاطّلاع على بعض المعلومات التي يحصل عليها الجنّ من استراق السَّمْع، وأمّا بعد المبعث النبويّ الشريف فقد مُنع الجنّ من التنصُّت واستراق السَّمْع، وبالتالي لا معنى للاستعانة بهم. وليس من مجالٍ للاستعانة بهم في غير هذا المجال، كالمساعدة على القيام ببعض الأمور، أو إحضار بعض الأشياء، أو إيذاء بعض الناس، أو…

10ـ ما هو حكم محاولة الاستعانة بالجنّ؟

ولكنْ يعتقد البعض أنّه بإمكانه طلب المساعدة من الجنّ، ويتوسَّل لذلك بطرقٍ شتَّى. وقد ثبت فشلُها، وعدمُ جدوائيّتها.

كما دلَّت الآيات القرآنيّة الكريمة على أنّ استعانةَ الإنس بالجنّ، كما استعانة الجنّ بالإنس، ظلمٌ كبير، يستحقّ عليه فاعلُه النار، خالداً فيها: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ (الأنعام: 128 ـ 130).

وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ﴾ (سبأ: 41).

11ـ هل يعلم الجنّ الغَيْب؟

لقد تحدَّى القرآن الكريم الجنّ أن ينفذوا من عالَمهم هذا إلى ما وراءه، فقال: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾ (الرحمن: 33 ـ 34).

وقد كانوا قبل نزول القرآن الكريم يصَّعَّدون في السماء، ويسترقون السَّمْع، ويحصلون على بعض المعلومات الغيبيّة، في ما يتعلَّق بمصير بعض الأفراد والأقوام، أو رزقهم، أو…: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ (الصافّات: 6 ـ 10).

﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ﴾ (الحجر: 16 ـ 18)

﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً﴾ (الجنّ: 9)

وقد ختم اللهُ جلَّ وعلا سورة الجنّ بما هو صريحٌ في أنّ الله قد استأثر بعلم الغَيْب لنفسه، ولا يطلع عليه أحداً من خَلْقه، كائناً مَنْ كان. ويُستثنى من ذلك فئةٌ واحدة، وهم الرُّسُل، سواءٌ كانوا ملائكةً أو أنبياء، فإنّه يُطْلعهم على ما يتعلَّق بمضمون رسالتهم؛ ليتحقَّق الهدفُ الكامل من تلك الرسالات. قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾ (الجنّ: 26 ـ 28).

وقد تقدَّم في قصّة موت سليمان أنّ الجنّ بقيت تعتقد حياتَه فترةً من الزَّمَن، وبقُوا في عملهم المضني والدؤوب مدّةً طويلة، إلى أن سقط إلى الأرض بعد أن انكسَرَتْ عصاه التي كان يتَّكئ عليها، فعلموا حينئذٍ أنّه قد مات منذ زمنٍ، وانكشف لهم جهلُهم بعلم الغَيْب: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ (سبأ: 14).

12ـ ما هو طعام الجنّ؟

وفي ختام هذا البحث المفصَّل تجدر الإشارة إلى أنّه ورد في بعض الروايات أنّ الجنّ يأكلون العظم والرَّوْث([1]).

ولكنْ لا يمكن الوثوق بمضمون هذه الروايات.

13ـ هل في الجنّ قومٌ ظاهرون؟

ينسب البعض أقواماً من الناس إلى الجنّ، كالأكراد. ويعتمدون في ذلك على روايات تتضمَّن أخباراً كهذه([2]).

غير أنّ هذه الروايات جميعَها ضعيفةُ السند، ومخالفةٌ لما جاء في القرآن الكريم من تكريم بني آدم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، وأنّ التفاضل بين الناس بالتقوى والعمل الصالح: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).

وهكذا يتبيَّن أن ليس في المجتمعات البشريّة والإنسانيّة قومٌ ينتسبون إلى الجنّ، سواء كانوا أكراداً أم غيرهم من القوميّات والشعوب. وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) فقد روى الطوسي في (تهذيب الأحكام 1: 354)، عن الحسين بن عبيد الله الغضائري، عن أحمد بن محمد بن يحيى العطّار، عن أبيه، عن محمد بن عليّ بن محبوب، عن عليّ بن خالد، عن أحمد بن عبدوس، عن الحسن بن عليّ بن فضّال، عن المفضَّل بن صالح، عن ليث المرادي، عن أبي عبد الله(ع) قال: سألتُه عن استنجاء الرجل بالعظم أو البعر أو العود؟ قال: «أمّا العظم والروث فطعام الجنّ، وذلك مما اشترطوا على رسول الله(ص)»، فقال: لا يصلح بشيءٍ من ذلك.

وإسناد هذه الرواية ضعيفٌ جدّاً؛ فإنّ فيه المفضَّل بن صالح، وهو كذّابٌ وضّاع.

([2]) وهذه الروايات هي:

ما رواه الكليني في (الكافي 5: 158)، عن محمد بن يحيى وغيره، عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن الحكم، عمَّنْ حدَّثه، عن أبي الربيع الشامي قال: سألتُ أبا عبد الله(ع) فقلت: إن عندنا قوماً من الأكراد، وإنهم لا يزالون يجيئون بالبيع، فنخالطهم ونبايعهم؟ فقال: يا أبا الربيع، لا تخالطوهم؛ فإن الأكراد حيٌّ من أحياء الجنّ كشف الله عنهم الغطاء، فلا تخالطوهم.

ورواه الصدوق في (علل الشرائع 2: 527)، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد…، مثله.

ورواه الطوسي في (تهذيب الأحكام 7: 11)، بإسناده إلى أحمد بن محمد بن عيسى [وهي طرق ثلاث، يصحّ منها طريقان]…، مثله.

وهذه الرواية ضعيفة السند؛ فإنّ فيها مَنْ لم يُسَمَّ؛ ولعدم ثبوت وثاقة أبي الربيع الشامي.

وروى الصدوق في (علل الشرائع 2: 527)، عن محمد بن الحسن، عن الحسن بن متيل، عن محمد بن الحسين، عن جعفر بن بشير، عن حفص، عمَّنْ حدَّثه، عن أبي الربيع الشامي قال: سألتُ أبا عبد الله(ع)، فقلتُ: إنّ عندنا قوماً من الأكراد، وإنّهم لا يزالون يجيئونا بالبيع، فنخالطهم ونبايعهم، فقال: يا أبا الربيع، لا تخالطهم؛ فإنّ الأكراد من الجنّ كشف الله عنهم الغطاء، فلا تخالطهم.

وهذه الرواية أيضاً ضعيفة السند؛ فإنّ فيها مَنْ لم يُسَمَّ؛ ولعدم ثبوت وثاقة أبي الربيع الشامي.

ما رواه الكليني في (الكافي 5: 352)، عن عليّ بن إبراهيم، عن إسماعيل بن محمد المكّي، عن عليّ بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن الحسين بن خالد، عمَّنْ ذكره، عن أبي الربيع الشامي قال: قال لي أبو عبد الله(ع): لا تشترِ من السودان أحداً، فإنْ كان لا بُدَّ فمن النوبة؛ فإنهم من الذين قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ (المائدة: 14)، أما إنهم سيذكرون ذلك الحظّ، وسيخرج مع القائم(ع) منّا عصابةٌ منهم. ولا تنكحوا من الأكراد أحداً؛ فإنهم جنسٌ من الجنّ كشف عنهم الغطاء.

وهذه الرواية أيضاً ضعيفة السند؛ فإنّ فيها مَنْ لم يُسَمَّ؛ ولعدم ثبوت وثاقة أبي الربيع الشامي على الأقلّ.



أكتب تعليقك