معركة (الأحزاب)، دلالاتٌ وإيحاءات
(الجمعة 21 / 8 / 2015م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
تمهيد
يقول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ (الأحزاب: 9).
هذه الآية الكريمة وغيرها ممّا تلاها نزلت بعد معركة (الأحزاب)، أو معركة (الخندق)، التي مرَّت بنا في ذكراها في الرابع من ذي القعدة الحرام.
ولهذه المعركة دلالاتٌ وإيحاءات متنوِّعة في غاية الأهمّيّة، وتستوجب منّا اهتماماً وتدقيقاً وتحقيقاً؛ لأهمّيّتها في تاريخ الإسلام والمسلمين.
أهمّ أحداث المعركة
فقد جمعَتْ قريش بعد هزيمتها في معركتَيْ (بدر) و(أُحُد) معظم القبائل العربيّة المتحالِفة معها، بالإضافة إلى جماعات اليهود في المدينة المنوِّرة وأطرافها، حتَّى الذين كانوا قد عاهدوا النبيّ(ص) أن لا يقاتلوه، وزحفَتْ نحو المدينة المنوَّرة، عازمةً على إنهاء ما يُسمّى (دولة إسلاميّة)، بقيادة النبيّ(ص)؛ لأنّ هذه الدولة قد استطاعت أن تخلق جوّاً من الرُّعْب والفَزَع والخوف في نفوس القبائل العربيّة، بحيث لم يَعُدْ أحدٌ يجرؤ على قتالها والاعتداء عليها وعلى أحلافها، وهذا ما لا ترضى به قريش، وهي التي كانت تريد أن تبقى القوّة الأولى الوحيدة في الجزيرة العربيّة.
وعلى أيّ حالٍ علم النبيّ(ص) بزحف قريش، وبدأ المشاورة على عادته، فأشار سلمان الفارسي(رض) بحفر خندقٍ حول المدينة.
ولم تكن تلك العادة معروفةً عند العَرَب، بل هي من عادات الفرس في حروبهم، ولذلك فرح المسلمون بتلك الفكرة الجديدة، التي قد تقلب موازين القوّة لصالحهم، وراح كلٌّ منهم ينسب سلمان إلى قبيلته وعشيرته، وحسم النبيّ(ص) الأمر بقوله: «سلمان منّا أهل البيت».
وشرع المسلمون في حفر الخندق، ورسول الله(ص) يعمل معهم كواحدٍ منهم، يحمل التراب على ظهره بالرغم من الجوع الذي كانوا عليه، فقد كان(ص) ـ على ما يُقال ـ يشدّ الحجر على بطنه؛ لشدّة الجوع، ومع ذلك كان يساعدهم ليعطي مَنْ يضعف منهم قوّة روحيّة معنويّة تعيد إليه نشاطه وقوّته.
وأتمّوا حفر الخندق في ستّة أيّام، ووصل المشركون، وأحاطوا بالمدينة من جوانبها، وأشرفوا على المدينة حتّى لم يَعُدْ بمقدور الرجل من المسلمين الخروج لقضاء حاجته.
وهنا بدأ المنافقون عملهم الدؤوب في توهين بعضهم بعضاً، وأخذوا يخذِّلون بعضهم، ويحاولون تخذيل المؤمنين. وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ (الأحزاب: 10 ـ 12)، إشارةً إلى ما كان يعدهم به النبيّ(ص) من النصر والفتح، حتّى يصلوا إلى كنوز كِسْرى وقَيْصَر، فإذا بهم يرَوْن أنفسهم غير قادرين على الخروج لقضاء الحاجة.
ولكنّ المؤمنين الواعين ثبتوا على موقفهم وإيمانهم، وعرفوا أنّهم لن يحصلوا على كنوز كِسْرى وقَيْصَر وهم في بيوتهم آمنين، بل لا بُدَّ من الجهاد والقتال والتعرُّض للقتل والأسر وما إلى ذلك؛ فإنّ الحصول على الشيء العظيم يتطلَّب همّةً عاليةً، وجَلَداً كبيراً، وصبراً لا حدود له، ولذا قال تعالى: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ (الأحزاب: 22).
أمير المؤمنين عليّ(ع) صانع الانتصارات
واندفع بعضُ المشركين عبر مكانٍ ضيِّق من الخندق إلى الجانب الآخر، وفيهم عمرو بن عبد ودّ العامري، وكان يُعَدُّ بألف فارس، وأخذ يهزأ بالمسلمين ويقول: إنّكم تزعمون أنّ مَنْ يُقتَل منكم يذهب إلى الجنّة، فتعالَوْا أرسلكم إلى الجنَّة، وكأنّه يقول: أين شجاعتكم؟ أين عنفوانكم؟ أين عزَّتكم؟ هذا ورسولُ الله محمد(ص) ينادي في المسلمين بأعلى صوته: مَنْ لعمروٍ وقد ضمنتُ له على الله الجنّة ـ والنبيّ أهلٌ لمثل هذا الضمان ـ؟ والكلُّ صامتون، ولا من مجيبٍ، سوى أمير المؤمنين عليٍّ(ع)، المغيث في الملمّات، والمُعَدّ لأداء المهمّات، وقف قائلاً: أنا له يا رسول الله، فأجلسه النبيّ(ص)، وتكرَّر المشهد مرّةً ثانية، وثالثة، حتّى قال النبيّ(ص) لأمير المؤمنين(ع): إنّه عمرو، فقال: وأنا عليّ بن أبي طالب.
وهنا لم يجِدْ النبيُّ بُدّاً من الإذن لعليٍّ(ع) بالمبارزة، وخرج يودِّعه وهو يقول: «اللهُمَّ إنّك أخذْتَ منّي عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أُحُد، فاحفَظْ عليَّ اليوم عليّاً. ﴿رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ (الأنبياء: 89). اللهُمَّ إن تهلك هذه العصابة لا تُعبَد، وإنْ شئتَ أن لا تُعبَد لا تُعبَد». كما جعل يقول: «برز الإيمان كلُّه إلى الشِّرْك كلِّه».
وتصاولا وتجاولا وارتفع الغبار حولهما، وإذا بعليٍّ(ع) جاثماً على صدر عمرو بن عبد ودّ، يريد أن يحتزّ رأسه، على ما جَرَتْ به عادات القتال آنذاك، وإذا به(ع) يقوم عن صدره، ويتمشّى قليلاً، ثمّ يعود إليه فيحتزّ رأسه، ويحمله إلى رسول الله(ص)، مستبشراً، فسأله النبيّ(ص) عن سبب ما فعله فقال: لمّا أردْتُ قتله شتم أمّي، وتفل في وجهي، فغضبتُ، فلم أشأ أن أحتزّ رأسه ثأراً لنفسي، فانتظَرْتُ حتّى سكن غضبي فقتلتُه لله، وهكذا استحقَّ أمير المؤمنين ذاك الوسام الذي قلَّده إيّاه رسول الله(ص) بقوله: «ضربة عليٍّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين إلى يوم القيامة».
وقد مثَّل عليٌّ(ع) في تلك المعركة الشرف كلَّ الشرف، فقد سُئل: لِمَ لم تسلبه درعه، وليس في العرب درعٌ مثلها؟ فقال: إنّي استحييتُ أن أكشف سوأته. وهذه قِمّة الأخلاق والشهامة([1]).
وهكذا حسم أمير المؤمنين عليّ(ع) المعركة لصالح المسلمين، وغيَّر واقع الحال من حزنٍ إلى فَرَح، ومن خوفٍ إلى أمن وطمأنينة، ولخَّص ذلك كلَّه قولُه تعالى: ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ (الأحزاب: 25). وقد جاء عن الصحابيّ الجليل عبد الله بن مسعود في تفسير هذه الآية أنّ الله كفاهم القتال بعليٍّ.
القول بتحريف القرآن تهمةٌ باطلة
ولقد آثر بعضُ المسلمين إبعاد الآية عن معناها بحجّة أن هذا التفسير المتقدِّم قد يُوهِم بالقول بتحريف القرآن الكريم بالنقيصة، وهكذا اتُّهم الشيعة بالقول بتحريف القرآن، وأنّهم يقرؤون الآية بهذا النحو: ﴿وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [بعليٍّ]﴾.
وهذا الكلام مجافٍ للحقيقة، فليس في أيّ بيتٍ شيعيّ مصحفٌ تُذكَر فيه هذه الآية بهذا النحو، ومَنْ يدَّعي خلاف ذلك فليأتِنا بذاك المصحف.
يزعمون أنّنا نقول بتحريف القرآن، ونحن نقول: إنّ عقيدتنا في القرآن الكريم هو أنّ القرآن هو القرآن، وهو الموجود بين الدفَّتين، لا زيادة فيه ولا نقصان.
نعم، هناك قلّةٌ قليلة من علماء الشيعة، كما علماء السنّة، مَنْ قال بالتحريف بالنقيصة، وليس بالزيادة. ولكنّ علماء المسلمين فنَّدوا دعواهم تلك، وأقاموا على بطلانها عشرات الأدلّة، فهل يُعقَل بعد ذلك كلِّه أن ننسب إلى الشيعة أو إلى السنّة أنّهم يقولون بتحريف القرآن.
وأهمّ ما يمكن عرضُه في هذا المجال من الدليل على بطلان القول بالتحريف، سواءٌ بالزيادة أو بالنقيصة، أنّ القول بتحريف القرآن بالزيادة، بمعنى أنّ بعضهم قد دسَّ في ما هو بين الدفَّتين اليوم ما لم يُنزله الله على رسوله، وإنّما هو مختَرَعٌ مبتَدَع، وقد خفي علينا هذا الزائد بعينه، أنّ هذا القول يستلزم القول بسقوط الإعجاز القرآني، حيث تحدّى الله الإنس والجنّ أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقد عجزوا عن ذلك، ما يكشف أنّه من عند الله، وليس من صنع بشرٍ، فإذا استطاع أحدُهم أن يدسّ فيه ما ليس من عند الله، وخفي علينا هذا الزائد؛ لمماثلته لكلام الله، فهذا يعني فشل هذا التحدّي، وبالتالي سقوط الإعجاز القرآني، وهذا ما لا يقبله ولا يقول به مسلمٌ.
وإذا ثبت أنّ جميع ما بين الدفّتين هو من عند الله فإنّ فيه قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)، فكيف يصيبه شيءٌ من النقص والحذف وقد تعهَّد الله بحفظه؟!
إذاً هي شائعات، ودعاوى باطلة، فمرّةً يتهموننا بالقول بتحريف القرآن؛ وأخرى يدَّعون أنّنا نأخذ أحكام ديننا من مصحف فاطمة(عا) أو كتاب عليّ(ع)، فما هو مصحف فاطمة(عا)؟ وما هو كتاب عليٍّ(ع)؟
حقيقة مصحف فاطمة(عا) وكتاب عليٍّ(ع)
أمّا مصحف فاطمة(عا) فهو ورقاتٌ جمعَتْ فيها أحاديث رسول الله(ص) التي حدَّثها بها، فاجتمع لديها من حديثه كمٌّ هائل، شكَّل مصحفها المعروف باسم «مصحف فاطمة»، يتوارثه الأئمّة(عم) من ذرّيّتها، حتّى وصل في عصرنا هذا إلى إمامنا ومنقذنا الحجّة بن الحسن المهديّ المنتظر(عج).
وأمّا كتاب عليٍّ(ع)، أو (الجامعة)، فهو الكتاب الذي جمع فيه عليٌّ ما بثَّه إيّاه رسول الله(ص) من علمٍ كثير، فكان صحيفةً طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله(ص) وإملائه، فيها كلّ حلالٍ وحرام وكلّ شيءٍ يحتاج الناس إليه، حتّى الأرش في الخدش. وقد توارثه أئمّة أهل البيت(عم)، كابراً عن كابر، وكانوا يرجعون إليه في بعض إجاباتهم عن أسئلة المؤمنين، وهو اليوم عند مولانا صاحب العصر والزمان(عج). وليت لنا سبيلاً للوصول إليه.
نسأل الله العليَّ القدير الهداية لجميع المؤمنين والمسلمين، والتوفيق للتي هي أقوم. وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) استفدنا ما ذكرناه من أحداث هذه المعركة من مصادر شتّى. كما يمكن مراجعة: اليوسفي (محمد هادي)، موسوعة التاريخ الإسلامي 2: 465، مجمع الفكر الإسلامي، ط1، 1420هـ.