حرب صِفِّين وفتنة التحكيم، دروسٌ لمواجهة الفِتَن (الحلقة الثانية)
(الجمعة 27 / 11 / 2015م)
حوارٌ أعدّته الأخت حوراء قَوْصان، وأجْراه الأخ الشيخ حسين قعيق، في برنامج (محطّات) على قناة الإيمان الفضائيّة، بتاريخ: 27 / 10 / 2014م.
6ـ كيف للإمام(ع) أن يختار ممثِّلاً على هيئة أبي موسى الأشعري، ولا سيّما أن الأشعري قد خذل الإمام؟
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
بعد أن استقرّ الرأي على قبول التحاكم إلى القرآن أعلن أهل الشام أنّهم قد رضوا بعمرو بن العاص ممثِّلاً عنهم.
ولا أعتقد أنّه قد جرى استفتاءٌ بينهم ليختاروا، وإنّما هو اختيار معاوية؛ لما يعرفه فيه من مكرٍ ودهاء([1]).
وأمّا في معسكر أمير المؤمنين(ع) فقد عاد أصحابُه إلى عادتهم في التعنُّت والمجادلة وعدم الطاعة للقائد المعصوم، فقال الأشعث بن قيس والقرّاء ـ الذين صاروا خوارج فيما بعد ـ: فإنا قد رضينا واخترنا أبا موسى الأشعري. فقال لهم عليٌّ: إنّي لا أرضى بأبي موسى، ولا أرى أن أُوَلِّيه، فقال الأشعث وزيد بن حصين ومسعر بن فدكي، في عصابةٍ من القراء: إنّا لا نرضى إلاّ به، فإنّه قد حذَّرنا ما وقعنا فيه، قال عليٌّ: فإنّه ليس لي برضا، وقد فارقني وخذَّل الناس عنّي ثم هرب، حتّى أمَّنته بعد أشهر، ولكنْ هذا ابنُ عباس أُوَلِّيه ذلك. قالوا: والله ما نبالي، أكنتَ أنت أو ابن عبّاس، ولا نريد إلاّ رجلاً هو منك ومن معاوية سواءٌ، وليس إلى واحدٍ منكما بأدنى من الآخر، قال عليٌّ: فإنّي أجعل الأشتر، قال نصر: قال عمرو: فحدَّثني أبو جناب قال: قال الأشعث: وهل سعَّر الأرض علينا غير الأشتر، وهل نحن إلاّ في حكم الأشتر، قال له عليٌّ: وما حكمه؟ قال: حكمه أن يضرب بعضنا بعضاً بالسيوف، حتّى يكون ما أردتَ وما أراد([2]).
وعليه فإنّ اختيار عليٍّ كان عبدَ الله بن عبّاس أو مالكَ الأشتر، ولكنَّ بعض أصحابه ـ وهم الذين سينقلبون عليه في نهاية الأمر، ويطلقون شعار: «لا حكم إلاّ لله» ـ رفضوا هذَيْن الرجلَيْن وأصرُّوا على أن يكون الحَكَم عبد الله بن قيس أبا موسى الأشعري. ونعود من جديدٍ إلى مسألة الاضطرار؛ خوفاً من الفتنة والاقتتال الداخلي.
7ـ لماذا لم نتعلَّم حتّى اليوم من التاريخ، ولا زلنا نسقط أمام ذات الخدع حتّى يومنا هذا؟ وما هي المواصفات التي يجب أن تتوافر في ممثِّلي الأمّة، ولا سيّما في المواقف الحسّاسة؟
الكثيرون من الناس قد اتَّعظوا، ووعَوْا ما حصل، وتنبَّهوا لما قد يحصل اليوم أو غداً، فرفضوا كلَّ حاكمٍ ظالم، وثاروا على كلِّ طاغٍ ومعتدٍ؛ ولكنّ فئاتٍ أخرى تقاطعَتْ مصالحُها الدنيويّة والفئويّة مع حُكّام الجَوْر وسلاطين الباطل لم تشأ أن تقطع علاقتها بهؤلاء، وأمَّنَتْ لهم من حيث تريد أو لا تريد شرعيّةً في الحكم والسلطة، عبر انتخابٍ أو استفتاء أو بيعة أو ما إلى ذلك من وسائل.
نعود إلى ما ذُكر في بداية الحوار من السبب غير المباشر لمعركة صِفِّين، فإنّ ممثِّلي الأمّة الشرعيّين معروفون، ولا يصلح للخلافة والإمامة سواهم، وهم الذين هدى الله، وأمرنا بالاقتداء بهُداهم، فأيُّ حديثٍ عن حكمٍ لغيرهم هو حديثٌ في باطلٍ وضلال، و لن يحصد منه المسلمون سوى المزيد من السقوط والخُسْران والفتنة.
أمّا في عصرنا الحاضر، عصر غَيْبة إمام زماننا المهديّ المنتَظَر(عج)، فالأمر إلى العلماء ذوي البصائر، العلماء العُدُول الذين يخافون الله جلَّ وعلا، ولا يخشَوْن سواه، العلماء الذين لا يطالبون بامتيازاتٍ، ولا يرضَوْن بها، العلماء الذين يَقْتَدُون برسول الله الأكرم محمد(ص) وأهل بيته(عم)، قَوْلاً وعَمَلاً، العلماء الذين لا يساومون أحداً مهما علا شأنُه على دين الله. هؤلاء هم مَنْ يصلح اليوم لتمثيل الأمّة، والأمر إليها؛ أن تُوصِل هؤلاء إلى السلطة والحكم فتنجو وتسعد، وأن تبتعد عنهم فتضلَّ وتشقى وتهلك.
المطلوب من ممثِّل الأمّة أن يكون بهذه الصفات، والمطلوب من أفراد الأمّة أن يكونوا المطيعين للحاكم الشرعي والقائد البصير؛ كي تنتظم أمورهم، وتستقيم أحوالهم. المطلوب أن يبقى الإمام إماماً، والقائد قائداً، لا أن يتحوَّل القائد إلى مَقُود، والإمام إلى مأموم، فتلك مصيبةٌ ابتُلي بها عليٌّ(ع) في أصحابه، حتّى تضجَّر منهم في نهاية المطاف، وكان يقول: «ولقد أصبحَتْ الأمم تخاف ظلمَ رُعاتها، وأصبحْتُ أخاف ظلم رَعِيَّتي…. أيُّها الشاهدةُ أبدانهم، الغائبةُ عقولهم، المختلفةُ أهواؤهم، المبتلى بهم أمراؤهم، صاحبُكم [ويقصد نفسه(ع)] يطيع الله وأنتم تعصونه، وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه. لودَدْتُ واللهِ أنّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ منّي عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم»([3]).
8ـ عبَّر الإمام عن كيفية نشوء الفتن بقوله: «إنّما بدء وقوع الفتن أهواءٌ تُتَّبَع، وأحكامٌ تُبتَدَع، يُخالف فيها كتاب الله، ويتولّى عليها رجالٌ رجالاً على غير دين الله»([4]). إذا عرضنا واقعنا على هذا الحديث فإلى أيّ مدىً ينطبق علينا كلام الإمام(ع)؟ وهل يعتلي اليوم دفّة قيادة أمر الأمّة رجالٌ على غير دين الله، أم أن العلماء لا زالوا يتحكَّمون بزمام أمورها؟
بعد كلِّ الذي حصل منذ وفاة رسول الله(ص) إلى يومنا هذا لا يمكن أن نقول: إنّ أمر الخلافة والإمامة قد استقام لأهله يوماً.
وقد لعب بالحكم والسلطة مَنْ حَرَفَه عن مساره بعيداً جدّاً، وهيهات أن يعود إلى جادَّته بيُسْرٍ وسهولة.
نعم، هي الأهواء والشهوات والآراء تكثر، فتنتشر بين الناس، ويستهويها الكثيرون من أصحاب المصالح والمطامع، ويتمسَّكون بها، ويُلبسونها لباساً دينيّاً ـ في أغلب الأحيان ـ ليُغْروا بها ضعاف النفوس، وذوي الثقافة الدينيّة المحدودة. وهكذا يبدأ السقوط، السقوط في فخّ البِدْعة، تليها الفتنة؛ فإنْ سكت العلماءُ الواعون ـ وهم موجودون في كلّ زمان، وفي كلّ مكان، ولا تخلو الأرض منهم ـ عن البِدْعة كانوا من الملعونين، حيث رُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال: «إذا ظهرت البِدَع في أمَّتي فليُظْهر العالِمُ علمَه، فمَنْ لم يفعل فعليه لعنة الله»([5])؛ وإنْ واجهوا ذلك، وحدَّثوا الناس بما يعرفونه، اختلف الناس، وانشقَّت الصفوف، وصولاً إلى الفتنة الكبرى.
الطريق الوحيد للنجاة أن يعود الناس إلى رُشدهم وأحكام دينهم الحنيف، فليس كلّ مَنْ غلب سلطاناً، والإمامةُ لأهلها، و﴿اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾(الأنعام: 124). فلو يعود الناس إلى الالتفاف حول الحاكم الشرعي والقائد البصير، ويُسْلِمون إليه أمورهم، لوفَّروا على أنفسهم كلَّ هذا التَعَب والنَّصَب.
9ـ يقول الإمام(ع): «كُنْ في الفتنة كابن اللَّبون، لا ظهرٌ فيُرْكَب، ولا ضَرْعٌ فيُحْلَب». من هو ابن اللَّبون؟ وهل يمكن القول: إنّ في الكلام دعوةً لالتزام الحياد في زمن الفتن؟
ابنُ اللَّبون هو وَلَدُ الناقة الذي استكمل السنة الثانية، ودخل في السنة الثالثة. وفي مثل هذا العمر لا يكون قد بلغ من القوّة الجسميّة ما يمكِّن الإنسان من الركوب عليه، وبما أنّه ذَكَرٌ فليس له من الأعضاء (وهو الضَّرْع) ما يمكِّنه من دَرِّ اللبن. وبالتالي فإنّه لا يمكن لأحدٍ أن يستفيد منه. أما الإبل البالغة فإنّ الجميع يستفيد منها، ركوباً أو طعاماً.
وما هدف إليه الإمام(ع) بقوله هذا: «كُنْ في الفتنة كابن اللَّبون، لا ظهرٌ فيُرْكَب، ولا ضَرْعٌ فيُحْلَب»([6]) هو أنّ على المؤمن العاقل من الناس أن لا يكون في الفتنة ـ أي فتنة الباطل، ولا تُسمّى الحربُ فتنةً إلاّ إذا كانت بين باطلَيْن ـ من الضعف والاستكانة بالمحلِّ الذي يجعل كلا الفريقَيْن يستفيدون منه، وليكُنْ كابن اللَّبون، لا يمكن لأحدٍ أن يَفيد منه شيئاً.
وأمّا إذا كانت الحرب بين الحقّ والباطل فلا بُدَّ من تأييد الحقّ ومساندته، ولا يجوز الحيادُ حينئذٍ، فإنَّه خِذلانٌ للحقّ، وإنْ لم يتعنْوَن بعنوان (نصرة الباطل). وقد رُوي عن أمير المؤمنين(ع) أنّه قال في الذين اعتزلوا القتال معه: «خَذَلوا الحقَّ، ولم ينصروا الباطل»([7]).
10ـ في هذه الأيام، ونحن نعيش فترةً حسّاسة ومضطربة، اختلط فيها الحقّ بالباطل، كيف يمكننا التزام حديث الإمام(ع)؟
الحقُّ بيِّنٌ واضح، والباطل بيِّنٌ واضح، ولا يمتزجان أبداً. والمهمّ أن نحدِّد الآليّة الصحيحة لتمييز الحقّ من الباطل.
الحقّ في القول والفعل والموقف والمبدأ هو ما وافق كتاب الله، وسنّة رسوله، وسنّة الأئمّة الأطهار من بعده. والباطل في ذلك كلّه هو العكس من ذلك، أي ما خالف كتاب الله، وسنّة رسوله، وسنّة الأئمّة الأطهار من بعده.
هل أمكن أو يمكن لمسلمٍ يؤمن بالله وكتابه ورسله واليوم الآخر أن يساوي بين رسول الله وأبي سفيان؟! أو بين عليٍّ ومعاوية؟! أو بين الحسن ومعاوية؟! أو بين الحسين ويزيد؟!
لقد كان الحقُّ واضحاً في ذلك كلِّه، ولا يزال.
الحقُّ واضحٌ في الموقف السلبيّ من الاستكبار والاحتلال والطغاة كائناً مَنْ كانوا، والباطل واضحٌ أيضاً في الوقوف إلى جانب هؤلاء ودعمهم، وشدِّ أزرهم في مواجهة المستضعفين والمحرومين.
إذاً لا يمكن لأحدٍ أن يقول: لقد التبسَتْ عليَّ الأمور، وتشاكَلَتْ عليّ المواقف.
بالتأمُّل والتفكُّر والتدبُّر في كتاب الله، ومواقف النبيّ وأهل بيته(عم)، وسؤال أهل الخِبْرة في هذا المجال، يمكن للمؤمن أن يعرف الحقَّ وأهلَه، كما أنّه يعرف الباطلَ وأهله.
لذلك لا مجال للحياد أبداً، ولا فرصة للمؤمن أن يكون بلا لَوْن، والمهمّ أن يكون بلَوْن الحقّ، لا لَوْن الباطل.
وأمّا في الفِتَن، كما في الصراع بين أهل الباطل على باطلهم، فالمؤمن مدعُوٌّ أن يكون حَذِراً فَطِناً، لا يسمح لأيٍّ من الطرفَيْن باستغلاله. فقد يعجزون عن الاستفادة منه في كلمة تأييدٍ أو دعم، ولكنّهم يلجؤون إلى الاستفادة من سكوته، وهنا يتعيَّن عليه الكلام وبيان أنّ كلا الطَرَفَيْن على باطلٍ، حتّى لو جرَّ عليه ذلك بعضَ المشاكل.
11ـ عن عليّ(ع): «أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ، وَلَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ، لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ، ولم يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عليكُم. لكِنَّكُم تهتُم متاه بني إسرائيلَ. ولعمري ليُضعَّفَنَّ لكُمُ التِّيهُ مِن بعدي أضعافاً، بِما خلَّفتُمُ الحقَّ وراء ظُهُورِكُم، وقطعتُمُ الأدنى، ووصلتُمُ الأبعدَ…»([8]). إلى أيِّ مدىً تقع علينا اللائمة في ما يجري من صراع اليوم على أرضنا، ولا سيّما في معركتنا مع العدو الصهيوني والاستكبار العالمي، ناهيك عن الفتن المذهبية والطائفية؟
هذا الحديث يشير بوضوحٍ إلى ما ذكرناه من خطورة ما جرى من الانحراف عن أهل البيت(عم) بعد وفاة رسول الله(ص)، وتبعات ذلك إلى يومنا هذا.
لقد خلَّفوا الحقَّ وراء ظهورهم، وقطعوا الأدنى، ووصلوا الأبعد.
عليٌّ مع الحقّ، والحقُّ مع عليٍّ، يدور معه حيث دار، إلى يوم القيامة([9])، وقد أقصَوْه عن الحياة العامّة للمسلمين طيلة 25 سنة.
لقد أبعدوا الأقرب إلى النبيّ(ص)، ووارث علمه، وموضع سرِّه.
وقرَّبوا الأبعد، وهم آلُ أبي سفيان، الشجرةُ الملعونة في القرآن، تاركين وصيّة النبيّ(ص) في التعامل معهم، حيث رُوي عنه(ص) أنّه قال: «إذا رأيتُمْ معاوية على منبري فاقتلوه»([10]).
وليس هدفُنا من هذا الحديث نبش التاريخ، ونَكْء الجِراح، وإنّما نحن مدعوُّون اليوم إلى أن نتَّعظ ممّا جرى في التاريخ، لئلاّ نرتكب نفس الخطأ مجدَّداً.
في الموقف من الاستكبار والطغيان والاحتلال لا مجال للمساومة، أو المفاصلة. فالعدوّ الصهيوني عدوُّ الأمّة جمعاء، بل هو عدوّ الإنسانيّة، لقد عاثوا في أوروبا فساداً، فأرادوا الخلاص منهم، فقذفوهم إلى فلسطين.
لذلك عدوّ الأمّة مشخَّصٌ ومعروف، وعلينا أن نواجهه صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص؛ لاستئصاله من الوجود، وهذا هو الهَدَف الأخير للمواجهة، ولا راحة قبل أن يتحقَّق هذا الهَدَف.
وأمّا بالنسبة للاختلافات بين المسلمين فإنّ على جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم أن يتذكَّروا أمر الله لهم بالتعاون على البرّ والتقوى، وإصلاح ذات البَيْن، ولا ينبغي للاختلاف الفكريّ أن يتحوَّل إلى خلافٍ واقتتال.
لذلك فالجميع مدعوٌّ للعمل على رَأْب الصَّدْع ما أمكن، وترسيخ أُسُس الوحدة الإسلاميّة، والوقوف صفّاً واحداً في وجه أيِّ فئةٍ باغية تُصِرُّ على الفتنة والفُرْقة.
12ـ عن الإمام(ع) أيضاً أنه قال: «اعرِفْ الحقّ تعرف أهله، واعرِفْ الباطل تعرف أهله». وهناك مقولةٌ مفادها «الحقّ لا يُعرف بالرجال، الرجال تُعرَف بالحقّ». وكأنّ واقعنا يتعامل مع القضيّة بصورةٍ معاكسة! فكيف يمكننا في ظلّ هذه الحالة التي نعيشها من تعظيم الشخصيّات والرموز الدينيّة والسياسية أن نعرف الحقّ؛ لنصل إلى أهله، والكلّ يبرز أوراقه التي يدَّعي أنها أوراق الحقّ؟
لقد أصبح واضحاً ممّا تقدَّم أنّ للحقِّ علاماتٍ يُعرَف بها، كما للباطل علاماتُه أيضاً.
ولذلك لا يخفى حقٌّ أو باطل. المهمّ أن نسعى جادّين للتعرُّف إلى الحقّ والباطل.
وينبغي أن لا نترك المجال لعصبيّةٍ عائليّة أو قوميّة أو دينيّة، مذهبيّة أو طائفيّة، أن تجعلنا نقف مع الظالم في وجه المظلوم؛ لأنّ الظالم من عائلتنا أو قومنا أو ديننا.
الظالم لا دين له إلاّ الظلم، والفاسد لا دين له إلاّ الفساد، وعلينا أن نتعامل معه على هذا الأساس.
أمّا تعظيم الشخصيّات الدينيّة والسياسيّة وجعلها المعيار في معرفة الحقّ والباطل فهو آفّةٌ اجتماعية خطيرة، وقد استشرَتْ في أمّتنا، وهي مكمنُ ضعف هذه الأمّة وتخلُّفها.
لن يصلح حالنا إلاّ إذا توافقنا على مبدأ واحدٍ لا نحيد عنه جميعاً، وهو وصيّةُ أمير المؤمنين(ع) لولدَيْه الحسن والحسين(عما)، وهو على فراش الموت: «كونا للظالم خَصْماً، وللمظلوم عَوْناً»([11]).
معاً لمواجهة الظالم أيّاً كان هذا الظالم، من قومنا أو من غيرهم، من طائفتنا أو من غيرها، ومعاً لنصرة المظلوم، أيّاً كان هذا المظلوم.
بهذا المبدأ نستطيع أن نشكِّل مجتمعاً إنسانيّاً وإسلاميّاً متماسكاً، تحكمه ضوابط واضحة، لا يُظلَم فيه ضعيفٌ؛ لضعفه، ولا ينجو فيه ظالمٌ بظلمه.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) نصر بن مزاحم في وقعة صِفِّين: 500، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال: «لمّا أراد الناس عليّاً على أن يضع حَكَمَيْن قال لهم عليٌّ(ع): إنّ معاوية لم يكن ليضع لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره من عمرو بن العاص، وإنّه لا يصلح للقرشي إلاّ مثله، فعليكم بعبد الله بن عباس فارْمُوه به، فإنّ عمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلَّها عبد الله، ولا يحلّ عقدة إلاّ عقدها، ولا يبرم أمراً إلاّ نقضه، ولا ينقض أمراً إلاّ أبرمه».
([2]) وقعة صِفِّين: 499 ـ 500.
([3]) نهج البلاغة 1: 187 ـ 188.
([5]) رواه الكليني في الكافي 1: 54، عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن محمد بن جمهور العَمِي، مرفوعاً.
([9]) رواه الصدوق في الأمالي: 149 ـ 150، عن أبيه، عن عبد الله بن الحسن المؤدّب، عن أحمد بن عليّ الأصبهاني، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن جعفر بن الحسن، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن محمد بن عليّ السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله(ص): «عليٌّ مع الحقّ، والحقّ معه، لا يفترقان حتّى يَرِدَا عليَّ الحوض».
ورواه الخزّاز القمّي في كفاية الأثر: 20 ـ 21، عن أبي الفرج المعافى بن زكريا البغدادي، عن أبي سلمان أحمد بن أبي هراسة، عن إبراهيم بن إسحاق النهاوندي، عن عبد الله بن حمّاد الأنصاري، عن إسماعيل ابن أبي أويس، عن أبيه، عن عبد الحميد الأعرج، عن عطا قال: دخلنا على عبد الله بن عباس وهو عليلٌ بالطائف في العلّة التي توفّي فيها ونحن رهطٌ ثلاثون رجلاً من شيوخ الطائف، وقد ضعف، فسلَّمنا عليه، وجلسنا، فقال لي: يا عطا، مَنْ القوم؟ قلتُ: يا سيدي، هم شيوخ هذا البلد، منهم: عبد الله بن سلمة بن حضرمي الطائفي وعمارة بن أبي الأجلح وثابت بن مالك، فما زلت أعدّ له واحداً بعد واحد، ثم تقدَّموا إليه فقالوا: يا ابن عمّ رسول الله، إنك رأيت رسول الله(ص)، وسمعْتَ منه ما سمعْتَ، فأخبِرْنا عن اختلاف هذه الأمّة؛ فقومٌ قد قدَّموا عليّاً على غيره؛ وقومٌ جعلوه بعد ثلاثة، قال: فتنفَّس ابنُ عباس وقال: سمعتُ رسول الله(ص) يقول: «عليٌّ مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، وهو الإمام والخليفة من بعدي، فمَنْ تمسَّك به فاز ونجا، ومن تخلف عنه ضلَّ وغوى…».
([10]) رواه محمد بن سليمان الكوفي في مناقب الإمام أمير المؤمنين(ع) 2: 300، عن عليّ بن رجاء بن صالح القرشي، عن جندل بن والق التغلبي، عن محمد بن بشر العبدي، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله(ص) أنّه قال: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاضربوا رأسه». قال شهاب: أحسبه قال: بالسيف.
وقال الحسن البصري: فلم يفعلوا ولم ينجحوا. (ابن جرير الطبري، المسترشد: 534).