الموروث الإسلاميّ في غريب القرآن والحديث، قراءةٌ في كتاب «المجموع المغيث» لأبي موسى المَدِينِيّ
(بتاريخ: 14 ـ 12 ـ 2004م)
تمهيد
لمّا كان الحديث ذا أهمّيّةٍ كُبرى في حياة المسلِمِين؛ باعتباره المصدر الثاني للتشريع الإسلاميّ بعد القرآن الكريم، كان لا بدّ من تهيئة كلّ المقدِّمات المُساعِدة على فهمه بشكلٍ صحيحٍ، ومن تلك المقدِّمات بيانُ المعنى المقصود والمُراد من بعض الألفاظ الغريبة الوارِدة فيه.
ومن هُنا انبرى جملةٌ من العلماء لهذا العمل، [وعلى رأسهم ـ كما قيل ـ أبو عبيدة معمرُ بن المثنّى التميميّ، فجمع من ألفاظ غريب الحديث والأثر كتاباً صغيراً ذا أوراقٍ معدوداتٍ.
ثمّ جمع أبو الحسن النَّضْرُ بن شُمَيْل المازنيّ بعده كتاباً سمّاه «غريب الحديث»، أكبر من كتاب أبي عبيدة، وشرح فيه وبسط على صِغَر حجمه ولطفه.
ثمّ جمع عبدُ الملك بن قُرَيْب الأصمعيّ ـ وكان في عصر أبي عبيدة وتأخَّر عنه ـ كتاباً أحسن فيه الصنع وأجاد.
وجمع محمّدُ بن المستنير، المعروف بـ «قطرب»، وغيرُه من أئمة اللغة والفقه أحاديثَ تكلَّموا على لغتها ومعناها في أوراقٍ ذواتِ عددٍ، ولم يكد أحدهم ينفرد عن غيره بكثير حديثٍ لم يذكره الآخر.
واستمرّت الحال إلى زمن أبي عبيد القاسمِ بن سلاّم، وذلك بعد المائتين، فجمع كتابه المشهور «غريب الحديث والآثار»، وأفنى فيه عمره، حتّى لقد قال في ما يُروى عنه: «إنّي جمعتُ كتابي هذا في أربعين سنة، وهو كان خلاصة عمري».
وبقي كتابُه في أيدي الناس يرجعون إليه، ويعتمدون في غريب الحديث عليه، إلى عصر أبي محمّد عبدِ الله بن مسلم بن قُتَيْبة الدينوريّ، فصنَّف كتابه المشهور «غريب الحديث والآثار»، حذا فيه حذو أبي عبيد، ولم يودعه شيئاً من الأحاديث المودَعة في كتاب أبي عبيد إلاّ ما دعَتْ إليه حاجةٌ من زيادةٍ وبيانٍ أو استدراكٍ أو اعتراضٍ.
وقد كان في زمانه الإمامُ إبراهيمُ بن إسحاق الحربيّ(285هـ)، وجمع كتابه المشهور بـ «غريب الحديث»، جمع فيه وبسط القول وشرح، واستقصى الأحاديث بطُرُق أسانيدها، وأطاله بذكر متونها وألفاظها، وإنْ لم يكن فيها إلاّ كلمةٌ واحدةٌ غريبةٌ، فطال بذلك كتابُه، وبسبب طوله تُرِك وهُجِر، وإنْ كان كثيرَ الفوائد جمَّ المنافع، فإنّ الرجل كان إماماً حافظاً متقِناً عارِفاً بالفقه والحديث واللغة والأدب.
ثمّ صنّف الناسُ ـ غيرُ مَنْ ذكرنا ـ في هذا الفنّ تصانيف كثيرةً، منهم: شَمِر بن حَمْدَوَيْه؛ وأبو العبّاس أحمد بن يحيى اللغويّ، المعروف بثعلب؛ وأبو العبّاس محمّد بن يزيد الثُّماليّ، المعروف بالمبَرِّد؛ وأبو بكر محمّد بن القاسم الأنباريّ؛ وأحمد بن الحسن الكِنْديّ؛ وأبو عمر محمّد بن عبد الواحد الزاهِد، صاحب ثعلب؛ وغير هؤلاء من أئمّة اللغة والنحو والفقه والحديث.
ولم يخلُ زمانٌ وعصرٌ ممَّنْ جمع في هذا الفن شيئاً، وانفرد فيه بتأليفٍ، واستبدّ فيه بتصنيفٍ.
واستمرّت الحال إلى عهد الإمام أبي سليمان أحمد بن محمّد بن أحمد الخطّابيّ البستيّ، وكان بعد الثلاثمائة والستّين وقبلها(388هـ)، فألّف كتابه المشهور بـ «غريب الحديث»، وسلك فيه نهج أبي عُبيد (يعني القاسم بن سلاّم) وابن قُتيبة، واقتفى هَدْيَهما.
فلمّا كان زمن أبي عُبيد أحمد بن محمّد الهَرَويّ(401هـ) ـ صاحب الإمام أبي منصور الأزهريّ اللغويّ ـ، وكان في زمن الخطّابي وبعده وفي طبقته، صنَّف كتابه المشهور «السائر في الجمع بين غريبَيْ القرآن العزيز والحديث الشريف»، ورتّبه مقفّىً على حروف المعجم على وضعٍ لم يُسبَق في غريب القرآن والحديث إليه، فاستخرج الكلمات اللغويّة الغريبة من أماكنها، وأثبتها في حروفها، وذكر معانيها.
وقد جمع فيه من غريب الحديث ما في كتاب أبي عُبيد (يعني القاسم بن سلاّم) وابن قُتيبة وغيرهما ممَّنْ تقدَّمه عصرُه من مصنِّفي الغريب، مع ما أضاف إليه ممّا تتبَّعَه من كلماتٍ لم تكن في واحدٍ من الكتب المصنَّفة قبله، فجاء كتابه جامعاً في الحُسْن بين الإحاطة والوضْع.
وجاء عهدُ الإمام أبي القاسم محمودِ بن عمر الزمخشريّ الخوارزميّ(583هـ)، فصنَّف كتابه المشهور في غريب الحديث، وسمّاه «الفائق»[2]، ورتّبه على وضعٍ اختاره مقفّىً على حروف المعجم، ولكنْ في العثور على طلب الحديث منه كُلفةٌ ومشقّةٌ، وإنْ كانت دون غيره من متقدِّم الكُتُب.
فلمّا كان زمن الحافظ أبي موسى محمّد بن أبي بكر بن أبي عيسى المَدينيّ الأصفهانيّ، وكان إماماً في عصره، حافِظاً متقِناً، تُشَدّ إليه الرحالُ، وتُناط به من الطَلَبة الآمالُ، صنّف كتاباً سمّاه «المجموع المُغيث في غريبَيْ القرآن والحديث». وقد جمع فيه، من غريب القرآن والحديث، ما فات الهَرَويّ في كتابه. وهو يناسبه قدراً وفائدةً، ويماثله حجماً وعائِدةً. وسلك في وضعه مسلكه، وذهب فيه مذهبه، ورتَّبه كما رتَّبه، ولم يذكُر في كتابه، ممّا ذكره الهَرَويّ، إلاّ كلمةً اضطُرّ إلى ذكرها؛ إما لخلل فيها؛ أو زيادة في شرحها؛ أو وجهٍ آخر في معناها.
وكان في زمانه الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ ابن الجَوزِيّ البغداديّ، وكان متفنِّناً في علومه، متنوِّعاً في معارفه، فاضلاً، لكنْ كان يغلب عليه الوعظ، وقد صنَّف كتاباً في غريب الحديث خاصّةً، ونهج فيه طريق الهَرَويّ في كتابه.
ثمّ جاء مجدُ الدين أبو السعادات ابنُ الأثير(606هـ)، فجمع ما فيهما (أي في كتابَيْ الهَرَويّ والمَدينيّ) من غريب الحديث مجرَّداً من غريب القرآن، وأضاف كلّ كلمةٍ إلى أختها في بابها؛ تسهيلاً لكُلفة الطلب، وأضاف ما عثر عليه ووجده من الغرائب إلى ما في كتابَيْهما، في حروفها، مع نظائرها وأمثالها.
وقد سلك طريقة الكتابَيْن في الترتيب الذي اشتملا عليه، والوضع الذي حوَيَاه من التقفية على حروف المعجم، بالتزام الحرف الأوّل والثاني من كلّ كلمةٍ، وإتباعِهما بالحرف الثالث منهما على سياق الحروف، وقد سمّاه «النهاية في غريب الحديث والأثر»][3].
ولن نُطيل الكلام أكثر من هذا في ذكر مَنْ ألَّف في هذا الفنّ؛ إذ ليس المرادُ في هذه الدراسة بيانَ تاريخ نشوء هذا الفنّ وتطوّره.
وفي هذه الدراسة الموجَزة سنقوم ـ إنْ شاء الله تعالى ـ ببيان أمرَيْن:
الأمر الأوّل: نبذة من حياة المؤلِّف.
الأمر الثاني: منهجه في تأليف كتابه «المجموع المُغيث في غريبَيْ القرآن والحديث».
وقد اعتمدنا في دراستنا لهذا الكتاب على نسخة مركز البحث العلميّ وإحياء التراث الإسلاميّ، دار المَدَنيّ، جدّة، الطبعة الأولى، 1406هـ ـ 1986م، تحقيق عبد الكريم العزباويّ.
1ـ حياة المؤلِّف
أـ نسبه وولادته ووفاته
هو أبو موسى، محمّد بن أبي بكر عُمر بن أبي عيسى أحمد بن عمر بن محمّد بن أحمد بن أبي عيسى المَدينيّ، الأصبهانيّ، الموسويّ، الشافعيّ[4]، محدِّثٌ، حافِظٌ، لُغَويٌّ، أخباريٌّ، نسّابةٌ[5].
وُلد بأصبهان في ذي القعدة سنة 501هـ[6]، زار بغداد وهمذان[7]، وحجّ مرّتَيْن: سنة 524هـ؛ وسنة 542هـ[8]، وتوفّي بأصبهان في 9 جمادى الأولى 581هـ[9]، وكان يومئذٍ حافِظ المشرِق.
ب ـ دراسته
حرص عليه أبوه، وسمَّعه حضوراً، ثمّ سماعاً، كثيراً من أصحاب أبي نعيم الحافظ، وطبقتهم[10].
وعمل أبو موسى لنفسه معجماً روى فيه عن أكثر من ثلاثمائة شيخ[11].
وقد قال الحافظُ عبدُ القادر الرُّهاويّ، وهو أحدُ تلامذةِ أبي موسى: «حصَّل أبو موسى من المسموعات بأصبهان ما لم يحصل لأحد في زمانه، وانضمّ إلى ذلك الحفظ والإتقان»[12].
ومن أبرز مشايخه: أبو القاسم الطَّلْحِيّ(457هـ ـ 535هـ)، الملقَّب بـ «قوام السنّة»، وبـ «جُوزِيّ»[13]؛ أبو سعد محمّد بن محمّد بن محمّد المطرِّز ـ حضوراً وإجازةً ـ؛ وأبو منصور محمّد بن عبدالله بن مَنْدَوَيْه[14].
وقيل: إنّ من شيوخه أبو الفضل المَقدِسِيّ(448هـ ـ 507هـ)، ويُعرَف بابن القيسرانيّ الشيبانيّ[15].
ونحن نشكّ في كونه شيخاً لأبي موسى؛ فإنّه قد تُوفّي وعمرُ أبي موسى ستُّ سنوات، فما هو العلم الذي تلقّاه على يديه؟!
وقيل أيضاً: إنّ من شيوخه ابن مَنْده الأصبهانيّ، العبديّ(434هـ ـ 511هـ).
ومن التأمُّل في تاريخ وفاته يمكننا الشكُّ قويّاً في كونه شيخاً لأبي موسى.
ج ـ تدريسه وتلامذته
تصدّى أبو موسى للتدريس فترةً طويلةً من الزمن، وقد تلمَّذ على يدَيْه فيها جملةٌ من كبار العلماء فيما بعد.
ومن هؤلاء: أبو سعد السمعانيّ(506هـ ـ 562هـ)[16]؛ أبو بكر الحازميّ(548هـ ـ 584هـ)[17]؛ عبد الغني المقدسيّ(541هـ ـ 600هـ)[18]؛ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرُّهاويّ؛ ومحمّد بن مكيّ الأصبهانيّ؛ وأبو نجيح محمّد بن معاوية؛ والناصح عبد الرحمن ابن الحنبليّ.
وقد روى عنه بالإجازة عبد الله بن بركات الخشوعيّ، وطائفةٌ.
ولو سَلِمَتْ أصبهان من سيف التَّتَار في سنة اثنتين وثلاثين وستّمائة لعاش أصحاب أبي موسى إلى حدود نيّفٍ وستّين وستّمائة[19].
د ـ صفاته وأخلاقه (من أقوال العلماء فيه)
قال الذهبيُّ في ترجمته: «أبو موسى المَدينيّ: الإمام العلاّمة، الحافظ الكبير، الثقة، شيخ المحدثين»[20]، «وكان أبو مسعود كوتاه(553هـ) يقول: أبو موسى كنزٌ مَخفِيٌّ»[21]، و«سمعتُ شيخنا العلاّمة أبا العباس بن عبد الحليم يُثني على حفظ أبي موسى، ويُقدِّمه على الحافظ ابن عساكر؛ باعتبار تصانيفه ونفعها»[22].
وقال أيضاً، يصفُ أبا موسى: «كان مع براعته في الحفظ والرجال صاحب ورعٍ وعبادةٍ وجلالةٍ وتقىً»[23].
ويقول تلميذُه الحافظُ عبد القادر الرُّهاويّ: «وله التصانيف التي أربى فيها على المتقدّمين مع الثقة، والعِفّة. كان له شيءٌ يسيرٌ يتربَّح به، ويُنفِق منه، ولا يقبل من أحدٍ شيئاً قطّ. أوصى إليه غيرُ واحدٍ بمالٍ فردَّه، فكان يُقال له: فرِّقْه على مَنْ ترى، فيمتنِع. وكان فيه من التواضع بحيث أنّه يُقرِئ الصغير والكبير، ويُرشِد المبتدِئ. رأيتُه يحفّظ الصبيان القرآن في الألواح. وكان يمنع مَنْ يمشي معه، فعلتُ ذلك مرّةً فزجرني، وتردَّدتُ إليه نحواً من سنةٍ ونصف فما رأيتُ منه، ولا سمعتُ عنه، سقطةً تُعاب عليه»[24].
هـ ـ مؤلَّفاته
صنّف أبو موسى فأَكْثَرَ. وقد شهد له بذلك جُملةٌ من العلماء[25]. وكانت تصانيفه في موضوعاتٍ مختلِفةٍ.
[ومن مصنَّفاته:
1ـ «تتمّة معرفة الصحابة»: وقد ذيَّل به على ابن مَنْده، وهو الكتاب الذي كوَّن منها عزُّ الدين ابن الأثير كتابه «أُسْد الغابة في معرفة الصحابة».
2ـ «تتمّة الغريبَيْن»، أو «المجموع المُغيث في غريبَيْ القرآن والحديث»: وهو أحد الكتابَيْن اللَّذَيْن كوَّن منهما مجدُ الدين ابن الأثير كتابه «النهاية في غريب الحديث والأثر».
3ـ «ذيلٌ على كتاب أنساب المحدّثين»، لشيخه ابن القيسرانيّ المقدسيّ: ذكر فيه مَنْ أهمله شيخه، أو قصَّر فيه.
ومن تصانيفه أيضاً:
4ـ «عوالي التابعين»: وهو يُنبِئ بتقدُّمه في معرفة العالي والنازِل.
5ـ «الطِّوالات»: في الواهن والموضوع من الحديث.
6ـ «الحفظ والنسيان».
7ـ «القنوت».
8ـ «نزهة الحُفّاظ».
9ـ «الوظائف».
10ـ «اللطائف من دقائق المعارِف في علوم الحُفّاظ الأعارف».
11ـ «مَنْ اسمُه صالِح».
12ـ «مَنْ اسمُه عَطاء».
13ـ «السُّباعِيَّات»: في الفروع (في الحديث).
14ـ «الذخيرة والعُدّة في مناقب أبي عبد الله بن مَنْده».
15ـ «دستور المذكّرين».
16ـ «تضييع العمر والأيّام في اصطناع المعروف إلى اللئام».
17ـ «الترغيب والترهيب».
18ـ «الأسماء المشتركة بين النساء والرجال».
19ـ «الهفوات».
20ـ «الأمالي الكبير».
21ـ «الشرح المكمَّل في نسب الحسن المهمَل»][26].
2ـ منهج المؤلِّف في كتابه
أـ اسم الكتاب والثناء عليه
يقول أبو موسى في مقدِّمة كتابه: «والذي دعاني إلى ذلك (أي إلى تأليف الكتاب) الرغبةُ في الثواب الموعود للمفيد في دعاء الطالِب المستفيد، وسمَّيْتُه: «المجموع المُغيث في غريبَيْ القرآن والحديث».
وهذا الكتاب هو تتمّةٌ لكتاب «الغريبَيْن»، الذي ألّفه أبو عبيد الهَرَويّ؛ فقد قال أبو موسى المدينيّ نفسُه، وهو يُبيَّن ما قام به في هذا الكتاب، والدافِعَ الذي دفعه إلى تأليفه: «لمّا طالعتُ كتاب «الغريبَيْن» لأبي عُبيد الهَرَويّ (رحمه الله)، ورأيتُ تقريبه الفائدة لمطالِعه، واحتياج طلاب فوائد القرآن والحديث إلى مودَعِه، استحسنتُه جِدّاً، وأحمدتُه سعياً وكدّاً، غيرَ أنّي وجدتُ كلماتٍ كثيرةً شذَّت عن كتابه؛ إذ لا يُحاط بجميع ما تُكُلِّم به من غريب الكَلِم، فلم أزل أتتبَّع ما فاته، وأكتب ما غفل عنه، إلى أن وقعتُ على كَرّاسةٍ غيرِ كبيرةٍ، جمعها بعضُ عُلماء خراسان بعد الخمسين والأربعمائة، لم يُسَمَّ فيها مصنِّفُها، قد شحَنَها بما شذَّ عن كتاب أبي عُبيد، ممّا أورده العُزَيْزيّ في كتاب «غريب القرآن»، وأضاف إليه معاني أسماء الله سبحانه وتعالى، وذكر في أثنائه كلماتٍ غيرَ كثيرةٍ من غرائب الألفاظ، فأَضفْتُ تلك الألفاظ إلى كتابي، ورُبَما أُشير إلى قوله في أثناء ما يمرّ من ذلك؛ لأنّي لم أستجِز تضييعَ حقِّه، وإخمالَ ذكره وسعيه وجمعه»[27].
وقد أثنى على كتاب أبي موسى جُملةٌ من العلماء:
فقد قال ابنُ الأثير(606هـ)، مشيراً إلى كتاب «المجموع المُغيث في غريبَيْ القرآن والحديث»: «قد صنَّف (أي أبو موسى) كتاباً جمع فيه ما فات الهَرَويّ من غريب القرآن والحديث، يناسبه قدراً وفائدةً، ويماثله حجماً وعائدةً، وسلك في وضعه مسلكه، وذهب فيه مذهبه، ورتَّبه كما رتَّبه»[28].
ويقول في موضعٍ آخر: «وأمّا أبو موسى الأصفهانيّ فإنّه لم يذكر في كتابه ممّا ذكره الهَرَويّ إلاّ كلمةً اضطُرّ إلى ذكرها؛ إما لخللٍ فيها، أو زيادةٍ في شرحها، أو وجهٍ آخر في معناها، ومع ذلك فإنّ كتابه يُضاهي كتاب الهَرَويّ؛ لأنّ وضعَ كتابه استدراكُ ما فات الهرويّ. ولمّا وقفتُ على كتابه، الذي جعله مكمِّلاً لكتاب الهَرَويّ ومتمِّماً، وجدتُه في غاية من الحُسْن والكمال»[29].
وقال ابن خلِّكان(681هـ) يصف كتاب أبي موسى: «وهو كتابٌ نافِعٌ»[30].
وقال الذهبيّ(748هـ): وكتاب «تتمّة الغريبين» (ويعني «المجموع المُغيث في غريبَيْ القرآن والحديث») يدلّ على براعته (أي براعة أبي موسى) في لسان العرب»[31].
ب ـ منهج الكتاب
يقول أبو موسى، شارِحاً منهجه في تأليف كتابه «المجموع المُغيث في غريبَيْ القرآن والحديث»: «وخرَّجتُ كتابي على ترتيب كتاب أبي عبيد، سواءً بسواءٍ، وسلكت طريقه حذو النعل بالنعل في إخراج الكَلِم في الباب الذي يليق بظاهِر لفظها، وإن كان اشتقاقها مخالِفاً لها. واعلمْ أنّه يبقى بعد كتابي أشياءُ لم تقع لي، ولا وقعتُ عليها؛ لأنّ كلام العرب لا ينحصر، فكيف وفي أماليَّ ومصنَّفاتي أشياءُ شرحتُها لم أنقلها إلى هذا الكتاب؛ كَسَلاً واتِّكالاً على ذكره مرّةً»[32].
إذاً فقد اتَّبع أبو موسى في تأليف كتابه منهجَ أبي عُبيد الهَرَويّ في تأليف كتاب «الغريبَيْن». فلمعرفة منهج أبي موسى في كتابه لا بدّ من التعرُّف على منهج أبي عبيد في كتابه. فما هو منهج أبي عُبَيد؟
يقول أبو عبيد في مقدّمة «الغريبَيْن»، واصِفاً منهجه في كتابه: «وهو موضوعٌ على نَسَق الحروف المعجَمة، نبدأ بالهمزة، فنفيض بها على سائر الحروف، حرفاً حرفاً، ونعمل لكلّ حرفٍ باباً، ونفتح كلَّ بابٍ بالحرف الذي يكون أوّله الهمزة، ثمّ الباء، ثمّ التاء، إلى آخر الحروف، إلاّ أن لا نجده، فنتعدّاه إلى ما نجده على الترتيب فيه، ثمّ نأخذ في كتاب الباء على هذا العمل، إلى أن ننتهي بالحروف كلّها إلى آخرها، ليصير المفتِّش عن الحرف إلى إصابته من الكتاب بأهون سعيٍ، وأخفّ طلبٍ.
وشرطي فيه الاختصارُ إلاّ إذا اختلّ الكلامُ دونَه، وتركُ الاستظهار بالشواهد الكثيرة إلاّ إذا لم يُستَغنَ عنها، وليس لي فيه إلاّ الترتيبُ والنقلُ من كتب الأثبات الثِّقات؛ طلباً للتخفيف، وحذفاً للتطويل، وحصراً للفائدة، وتوطئةً للسبيل. فمَنْ حفظه كان كمَنْ حصَّل تلك الكتب عن آخرها»[33].
وقد عمدنا في هذه الدراسة إلى جمع ما اتَّصف به منهجُ أبي موسى في كتابه، وهي على الشكل التالي:
1ـ وضع الكلمة في المكان المناسِب لظاهِر لفظها
إنّه في تناوله لمعنى الكلمة الغريبة، في الآية أو الحديث، يضعها في المكان المناسب لظاهِر لفظها.
فهو، في بعض الأحيان يراعي ظاهر اللفظ، لا الاشتقاق اللغويّ للكلمة؛ وما ذلك إلاّ اتِّباعاً منه لأبي عبيد الهَرَويّ، حيث يقول: «وخرَّجتُ كتابي على ترتيب كتاب أبي عبيد، سواءً بسواءٍ، وسلكتُ طريقه حذو النعل بالنعل في إخراج الكَلِم في الباب الذي يليق بظاهِر لفظها، وإنْ كان اشتقاقها مخالِفاً لها»[34].
ولكنَّه يُنبِّه على ذلك؛ حتّى لا يَظنَّ القارئُ أنّه مخطئٌ، فنجده يقول في مادّة «أبرد»[35]: وفي الحديث: «إنّ البطيخ يقلع الإِبرِدة». الإِبرِدة، بكسر الهمزة والراء، علّةٌ معروفةٌ من غلبة البرد والرطوبة، تُفتِّر عن الجُماع، وهمزتُها زائدةٌ، وإنّما أوردناها هُنا حملاً على ظاهر لفظها.
ويقول في مادّة «خوو»[36]: في صفة أبي بكر: «لو كنت متَّخذاً خليلاً لاتّخذتُ أبا بكرٍِ خليلاً، ولكن خُوّة الإسلام»…، وهي لغةٌ في الأُخُوّة، وليس موضِعَها، وإنّما ذكرناها لأجل لفظها.
ويقول في مادّة «بون»[37]: وفي حديث خالد: «فإذا ألقى الشام بَوانِيَه»…. والبواني: المستقرّ الذي يقع عليه، والواحدةُ بانية. ومن حقّ هذه الكلمة أن تجيء في باب الباء والنون والياء، وإنّما ذكرناها هاهنا حملاً على ظاهرها، فإنّها لم ترِد حيث وردت إلاّ مجموعةً.
ويقول في مادّة «آض»[38]: من حقّها أن تكون في باب الهمزة مع الياء، ولكنّها لم ترِد حيث جاءت إلاّ فعلاً، فاتَّبَعْنا لفظَها.
ويقول في مادّة «أيم»[39]: «أَيْمُ الله» قَسَمٌ. ذكره صاحب «الغريبَيْن» في باب الياء، وهذا الموضعُ أليَقُ بظاهِرِه.
ونلاحظُ هنا كيفَ أنّه خالَفَ أبا عُبيد الهَرَويّ في اختياره الموضعَ الأليقَ بظاهِر الكلمة، وإنْ كان قد سلك مسلَكَه في وضعها ـ أحياناً ـ وِفْقَ ظاهرها، لا اشتقاقها اللغويّ.
ولعلّ السبب في ما فعله هو أنّ بعض طلبة الحديث يلتبس عليهم موضع اللفظ الأصليّ؛ لأنّهم لا يكادون يفرّقون بين الأصليّ والزائد؛ لقلّة خبرتهم واطّلاعهم على الاشتقاقات في كلام العرب[40].
2ـ وضعُ كلِّ كلمةٍ في الآية أو الحديث في موضعها من الترتيب الهجائِيّ
إذا اشتمل الحديث أو الآية على أكثر من كلمةٍ غريبةٍ فإنّه يضع كلّ كلمة غريبةٍ فيه في موضعها من الترتيب الهجائيّ؛ ولذا يأتي الحديث مفرَّقاً بين موادَّ مختلفةٍ.
فقد لوحِظ أنّه ذكر المَثَل «عسى الغُوَيْر أَبْؤُساً» مرّتين: مرةً في «بأس»[41]؛ ومرّةً أخرى في «غور»[42].
وهو بهذا يخالِف منهج الزمَخْشَرِيّ في كتابه «الفائق في غريب الحديث»، حيث كان يضع الحديث المشتمل على أكثر من كلمةٍ غريبةٍ بأكمله في موضعٍ واحِدٍ فقط، يعني في الترتيب الهجائيّ لكلمةٍ واحدةٍ منه، ولكنّه لا يَغفَل عن بيان جميع الكلمات الغريبة في الحديث. والعيبُ في ذلك المنهج ـ أي منهج الزَّمَخْشَرِيّ ـ أنّه يجعل الطالبَ الباحثَ عن معنى كلمةٍ ما مضطرّاً للبحث عنها في مواضع كُلِّ الكلمات الغريبة الواردة في هذا الحديث؛ لأنّه لو طلبها في موقعها فقط فقد لا يجدها؛ وذلك باعتبار أنّ المصنِّف قد ذكرها في موردٍ آخر، واكتفى به عن ذكرها في موقعها من الترتيب الهجائيّ[43].
3ـ اكتفاؤه بذكر كلمةٍ أو كلمتين فقط من الآية أو الحديث
إنّه في ذكره للآيات والأحاديث الوارد فيها اللفظ الغريب يأخذ منها شيئاً يسيراً، فقد يكتفي بذكر كلمةٍ أو كلمتَيْن فقط من الآية أو الحديث.
ففي مادّة «أثل»[44] يقول: قال الله تعالى: ﴿وَأَثْلٍ﴾ (سبأ: 16).
وفي مادّة «بكى»[45] يقول: ﴿وبُكِيّاً﴾ (مريم: 58).
وفي مادّة «دوخل»[46] يقول: وفي حديث بعضهم: «دوخلّة».
وفي مادّة «بلم»[47] يقول: في حديث الدجّال: «بَيْلَمَانِيّ».
وغيرُ هذه الموادّ كثيرٌ[48].
وهو بهذا يجري على ما جرى عليه أبو عبيد الهَرَويّ[49]. وقد التزم أبو عبيد وأبو موسى بهذا المنهج في كتابَيْهما؛ ولعلّه لِما أشار إليه ابن الأثير في «النهاية»، حيث يقول: «كان الغرضُ والمقصدُ من هذا التصنيف (أي كتاب «الغريبَيْن في القرآن والحديث»، لأبي عبيد) معرفةَ الكلمةِ الغريبةِ لغةً وإعراباً ومعنىً، لا معرفةَ متونِ الأحاديث والآثار، وطرقِ أسانيدها، وأسماءِ رُواتِها، فإنّ ذلك عِلْمٌ مُستَقِلٌّ بنفسه، مشهورٌ بين أهله»[50].
4ـ اعتماده على ما جاء في كتب الحديث، أو ما أملاه عليه بعض شيوخه
في ذكره للأحاديث يعتمد على ما جاء في كتب الحديث، أو ما أملاه عليه بعض شيوخه.
ففي مادّة «بعد»[51] يقول: وفي حديث أبي جهل: «هل أبعد من رجلٍ قتلتموه». كذا في «سُنَن أبي داوود»، والصحيحُ «أعمد»، بالميم.
وفي مادّة «بلس»[52] يقول: في حديث المتكبِّرين: «أنّهم في سجنٍ في النار، يُقال له: بُولِس». كذا أملاه الإمام أبو القاسم (ولعلّه يريد به أبو القاسم الطلحيّ أستاذه) ـ بضمّ الباء، ويجوز كسر لامه وفتحها ـ.
وأحياناً يعمد هو إلى سؤال مشايخه عن الصحيح في ما يَشُكُّ فيه، ولا يعرفُ وجهَه. ففي مادّة «أنى»[53] نراه يقول: قال بعضُ نَحْوِيِّي زماننا: إنيه: لفظٌ يستعمل في الإنكار على وجهَيْن…. إلى أن يقول: وقد سألتُ أبا الفضل بن ناصر ببغداد في السَّفرة الثانية عن هذا اللفظ، وحكيتُ له قولَ هذا النحويّ، فلم يرتَضِه، وقال: إنّما هو أَلِجُلَيْبِيبٍ ابْنَه، تعني ابنتي، فأسقط منه الياء، ووقف عليه بالهاء، وأَخرج إليّ من مسند الإمام أحمد بن حنبل، بخطّ أبي الحسن بن الفُرات، هكذا مُعجَماً مقيَّداً في مواضِعَ، وقال: إنّما خطُّ ابن الفراتِ حُجّةٌ، وقد كتبه عن القطيعيّ، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، وهم أعلمُ بالرواية.
5ـ اعتمادُه في بيان المعنى اللغويّ للكلمة على ما ذكره اللغويّون في كتبهم
يأخذ المعنى اللغويّ للكلمات ممّا قاله اللُّغَوِيُّون فيها، وهو يحاول أن يرجع في كتابه إلى معظم هؤلاء اللغويّين، فتراه يذكر منهم: ابن الأعرابيّ، كما في المادّتَيْن «برر، بلا»[54]؛ وابن فارس، كما في الموادّ «برض، برح، بون، بهش، دوف»[55]؛ والفراء، كما في المادّة «بصق»[56]؛ والخليل، كما في المادّتَيْن «بصق، برح»[57]؛ وسيبويه، كما في المادّة «إن»[58]؛ والأخفش والكسائيّ والنحّاس، كما في المادّة «أي»[59]؛ وأبو عمرو، كما في الموادّ «بلل، تلل، بجا»[60]؛ وأبو نصر، كما في المادّتَيْن «بون، توق»[61]؛ وسَلَمة، كما في المادّة «بون»[62]؛ واللَّيْث، كما في المادّتَيْن «بهم، بوأ»[63]؛ والأَزْهَرِيّ، كما في الموادّ «تلان، دجر، دوذ»[64].
ويترك تسمية المنقولِ عنه في بعض الأحيان، كما في المادّة «أي»[65]، حيث يقول: «ذكر بعضُ النحويّين»؛ وفي المادّة «أنى»[66]، حيث يقول: «قال بعضُ نَحْوِيِّي زماننا».
6ـ اعتمادُه في ضبط حروف الكلمة على ما ذكره علماء العربيّة في كتبهم
يرجع في ضبط حركات حروف بعض ألفاظ الحديث المختَلَف في ضبط حركات حروفها إلى علماء العربيّة، ذوي الباع الطويلِ في هذا المجال. فنراه يقول في المادّة «ألل»[67]: في حديث عائشة: «…تربت يداك وأَلَّتْ…»، إلى أن يقول: وقد أورده عبد الغافِر [وفي نسخةٍ عبد الغفّار] (وهو عبد الغافِر بن إسماعيل الفارسيّ(529هـ): من علماء العربيّة والتاريخ والحديث، له كتاب «المُفهِم لشرح غريب مسلم»، و«مجمع الغرائب في غريب الحديث»)[68].
7ـ تناولُه لآراء وشرح وتفسير جملةٍ من العلماء والمفسِّرين
يتعرَّض في أثناء كلامه لآراء وشرح وتفسير جملةٍ من العلماء والمفسِّرين.
ومن هؤلاء: أبو حاتم، كما في المادّة «تنر»[69]؛ والطحاويّ، كما في المادّة «أرس»[70]؛ والخرقيّ، كما في المادّة «جذع»[71]؛ وأبو الفتح الهمذانيّ، كما في المادّة «تنر»[72]؛ وصاحب الديوان، كما في المادّة «بول»[73]؛ وابن واقِد، كما في المادّة «إن»[74]؛ وابن السرّاج، كما في المادّة «أوب»[75]؛ والتبريزيّ، كما في المادّة «أول»[76]؛ والقُتَيْبيّ، كما في المادّة «أوى»[77]؛ والأُمَوِيّ، كما في المادّة «تلان»[78]؛ ومجاهِد، كما في المادّة «برط»[79].
8ـ الإشارةُ إلى القراءات القرآنيّة
يشير في بعض الأحيان إلى القراءات القرآنيّة في لفظةٍ ما من القرآن الكريم.
ففي مادّة «إيل»[80] يقول: وكان يحيى بن معمر يقرأ جَبْرَإِلّ، ويقول جَبْرٌ: عَبْدٌ، وإِلٌّ: الله (عزّ وجلّ).
وفي مادّة «أيم»[81] يقول: ﴿ألم أَعْهَدْ إليكم﴾ (يس: 60)، وعلى هذا قراءةُ يحيى بن وثَّاب وعُبَيْد بن عَمرو.
وفي مادّة «أيم»[82] يقول: أخبرنا أبو الرجاء القاري، أنا أبو الفضل الرازي، قال: قرأ الحسن ﴿أَيْما الأجَلَيْن﴾ (القصص: 28).
وفي مادّة «أي»[83] يقول: قال النحّاس: لغة بعض بني مالك «يا أيُّهُ الرجلُ»، بضمّ الهاء، لمّا كانت الهاء لازمةً لأيٍّ حرَّكوها بحركتها، وبهذه اللغة قرأ ابن عامرٍ في مواضع من القرآن.
9ـ اعتمادُه على علماء ومصنَّفات علم «الغريب في القرآن والحديث»
في تناوله لمعنى اللفظ الغريب في الآية أو الحديث يأخذ عن مَنْ تقدَّمه من العلماء والمصنِّفين في هذا الفنّ، وهو يُكثِر في الأخذ عن بعضهم، ويُقِلُّ في الأخذ عن بعضٍ آخر.
فهو يُكثِر في الأخذ عن الأصمعيّ، كما في الموادّ «أرب، بعل، برش»[84]؛ وعن ابن الأنباريّ، كما في الموادّ «بكر، تهن، دوث»[85]؛ وعن إبراهيم الحربيّ(285هـ)، كما في الموادّ «بلا، خطط، دجر، روح، توق»[86]؛ وعن الزمخشريّ، كما في الموادّ «برح، بضع، تفأ، أرن، أرب»[87]، إلاّ أنّه يخالِفه في مادّة «بضع»[88]، حيث يقول: في الحديث: «المدينة كالكير تُبْضِع طيبها»، كذا ذكره الزمخشريّ، وقال: هو من أبضعتُه بِضاعةً، إذا دفعتُها إليه. ولم أجد أحداً ذكره بالباء والضادّ المعجَمة غيرَه؛ وعن الجَُبّان، كما في الموادّ «برد، بيح، تلا، تهن، دجر»[89]؛ وعن الخَطَّابِيّ(388هـ)، في بعض كتبه، ولا سيّما كتابه «غريب الحديث»، كما في الموادّ «بلا، تكأ، تول، بشق»[90].
وهو في أخذه عن الخطّابيّ يتبع شيخه أبا عبيد الهرويّ[91]، إلاّ أنّ الفرق بينهما أنّ أبا عُبيد كان يأخذ عن الخطّابيّ دون أن يذكره إلاّ نادراً[92]، في حين أنّ أبا موسى يذكره، ويصرِّح باسمه، إلاّ في موارد قليلة.
ويُقِلُّ في الأخذ عن أبي عبيدة، ونظنُّه معمر بن المثنّى، كما في المادّتَيْن «أرى، بجل»[93]؛ وعن ثعلب، كما في ال/strong؛ وa title=”” href=”#_edn36″مادّتَيْن «تكأ، أنك»[94]؛ وعن أبي عبيد، ونظنّه القاسم بن سلاّم، كما في المادّة «بغث»[95]؛ ويأخذ عن كتاب الأموال للقاسم بن سلاّم نفسه، كما في المادّة «أرس»[96]؛ وعن ابن قُتَيْبة(276هـ)، كما في المادّة «ترع»[97].
وهو في بعض الأحيان يعتمد على ما سمعه مشافَهةً من بعض شيوخه. إلاّ أنّه يسمّيه في بعض الموارد، كما في مادّتَيْ «أرن، بأس»[98]، حيث ذكر اسم شيخه الإمام أبي القاسم إسماعيل؛ ويسكت عن ذكر أسماء بعضهم، ويكتفي في الإشارة إلى أنّه من مشايخه بالتعبير عنه بـ «سَيِّدنا»، كما في الموادّ «بلا، بشق، جذع»[99].
10ـ نقدُه لأبي عُبَيْد الهَرَويّ
يعمد في بعض الموارد إلى نقد أبي عبيد الهرويّ. فهو ـ رغم إعجابه بشيخه أبي عبيد الهرويّ ـ لا يتوانى عن نقده وبيان خطئه، حين يرى أنّه قد أخطأ.
فقد قال في مادّة «أرب»[100]، بعد ذِكر حديث عمر بن الخطاب ـ فقال عمر: «أَرِبْتُ عن يدَيْك» ـ: ذكر صاحب «الغريبَيْن» أنّ معناه: ذهب ما في يدَيْك. وهذا القول غير مرتضى؛ لأنّه في روايةٍ أخرى: «خَرَرْتَ عن يدَيْك»، وهذه عبارةٌ عن الخَجَل، مشهورةٌ بالفارسيّة أيضاً، كأنّه أراد أصابك خَجَلٌ، حيث أردتَ أن تُخجِلَني بمخالَفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وقال في مادّة «برح»[101]: وفي الحديث: «حتّى دلكت بَراحِ». ذكره صاحب الغريبَيْن في كتاب الراء، على أن تكون الباء مكسورةً زائدةً، وقال: يعني أنّ الشمس إذا مالت فالناظر إليها يضع راحته على عينَيْه يتوقَّى شُعاعها. وهذا قولٌ بعيدٌ؛ لأنّ صاحب العين والمُجمَل ذكرا أنّ بَراحِ، بفتح الباء وكسر الحاء، على وزن فَعالِ وحَذامِ وقَطامِ، اسمٌ للشمس، والباءُ على هذا أصليّةٌ، غيرُ ملصَقَةٍ، قال الشاعر:
هذا مُقام قَدَمَيْ رَباحِ |
غُدوةَ حتّى دلكّتْ بَراحِ |
وهذا القول أولى؛ لأنّ الشمس لم يجرِ لها ذِكْرٌ يرجع الضمير إليه.
وقد أشكل ابن الأثير في «النهاية» على تخطئة أبي موسى لأبي عبيد، فقال في مادّة «برح»، بعد ذكره للقولَيْن في الباء: «وهذان القولان ذكرهما أبو عبيد والأزهريّ والهَرَويّ والزمخشريّ وغيرهم من مفسِّري اللغة والغريب. وقد أخذ بعضُ المتأخرين (ويعني به أبا موسى) القولَ الثاني على الهَرَويّ، فظنّ أنّه قد انفرد به، وخطَّأَه في ذلك، ولم يعلم أنّ غيره من الأئمّة قبله وبعده ذهب إليه»[102].
ولكنّه لا يُكثِر من نقده لأبي عُبَيْد في هذا الكتاب؛ ولعلّ ذلك لما ذكره حاجي خليفة في كتابه «كشف الظنون»، من أنّ «لأبي موسى كتاباً آخر، غير كتابه الذي تمَّم وأكمل به كتاب الغريبَيْن، وهو في هَفَوات كتاب الغريبَيْن، ولهذا لا يُكثِر الاعتراض عليه في كتابه المغيث»[103].
11ـ مراعاتُه لما قاله شيخُه أبو عُبَيْدة الهَرَوِيّ
في شرحه للكلمة الغريبة في الحديث يأخذ بعين الاعتبار ما قاله شيخُه أبو عُبيد الهَرَويّ.
فإذا كان أبو عُبيد قد وفّاه حقَّه من الشرح لا يزيد على ذلك شيئاً، بل يُرجِع إليه دون أن يتكلَّم في ذلك مطلَقاً، كما في المادّة «جنب»[104]، حيث يقول: وفي حديثٍ آخر: «ذات الجَنْب شهادَةٌ». وقد فُسِّر في كتاب أبي عبيد الهَرَوِيّ.
12ـ إحالتُه على بعض كتبه الأخرى
في شرحه لبعض الأبيات الشعريّة الوارِدة كشواهِد على المعاني المعتَمَدة يُحيل القارئ إلى ما ذكره من شرحها في كتابه «الطِّوالات»، كما في المادّة «جعثن»[105]، أو في كتابه «السُّباعِيّات»، كما في المادّة «جلعد»[106].
ولعلّ هذا من الموارِد التي أشار إليها بقوله في مقدّمة الكتاب، حيث يقول: «فكيف وفي أمالِيَّ ومصنَّفاتي أشياءُ شرحتُها لم أنقلها إلى هذا الكتاب؛ كَسَلاً واتِّكالاً على ذكره مرّةً»[107].
13ـ اعتمادُه على شروح أئمّة الحديث
في شرحه لبعض الأحاديث يعتمد على ما ذكره أئمّة الحديث من شرحه.
ففي المادّة «بشق»[108] يقول: في حديث أنس…: «بَشِق المسافِر ومُنِع الطريق». قال البخاريّ: أي انسدّ.
وعلى كلّ حالٍ هو في شرح بعض الأحاديث يتقصّى ويفصِّل كثيراً، بحيث لا يبقى للزيادة موضِعاً، كما في المادّتَيْن «جذم، تمم»[109].
14ـ تطرّقُه إلى بعض الأحكام الفقهيّة
في بعض الموارِد يتعرَّض للحكم الفقهيّ المعتَمَد في المسألة التي يكون موضوعُها الكلمةُ التي هو في صدد بيان معناها، كما في المادّة «برد»[110]، بل قد يعمد إلى بيان الخلاف بين الفقهاء في المسألة، كما في المادّة «بأس»[111].
15ـ إحاطتُه ـ أحياناً ـ بجميع الآراء النحويّة في المسألة
في شرحه لبعض الكلمات التي يوجد خِلافٌ نَحْوِيٌّ في إعرابها نراه يحاوِل الإحاطة بجميع الآراء النحويّة المطروحة في المسألة، كما في المادّتَيْن «جذع، أي»[112]، وما ذلك إلاّ دليلاً على ضلاعته في علم النحو، وسعة اطّلاعه على آراء النحويّين في المسائل النحويّة.
الهوامش
[2] الاسم الكامل: «الفائق في غريب الحديث».
[3] ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 9 ـ 15.
[4] ابن كثير، البداية والنهاية 12: 246؛ الذهبيّ، سير أعلام النبلاء 12: 152؛ إسماعيل باشا البغداديّ، هديّة العارفين 2: 100؛ عمر كحّالة، معجم المؤلِّفين 11: 76.
[5] معجم المؤلِّفين 11: 76.
[6] هديّة العارفين 2: 100؛ معجم المؤلِّفين 11: 76.
[7] معجم المؤلِّفين 11: 76؛ سير أعلام النبلاء 12: 159.
[8] سير أعلام النبلاء 12: 159.
[9] معجم المؤلِّفين 11: 76.
[10] سير أعلام النبلاء 12: 152.
[11] سير أعلام النبلاء 12: 152.
[12] سير أعلام النبلاء 12: 155.
[13] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 22؛ البداية والنهاية 12: 172.
[14] سير أعلام النبلاء 12: 152 ـ153 ـ 154.
[15] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 23؛ البداية والنهاية 12: 139 ـ 140.
[16] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 26.
[17] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 27؛ البداية والنهاية 12: 256.
[18] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 28 ـ 29.
[19] سير أعلام النبلاء 12: 155.
[20] سير أعلام النبلاء 12: 152.
[21] سير أعلام النبلاء 12: 156؛ الذهبي، تذكرة الحفّاظ 4: 1334.
[22] سير أعلام النبلاء 12: 156.
[23] الذهبيّ، العبر 4: 546، نقلاً عن: المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 20.
[24] سير أعلام النبلاء 12: 155 ـ 156؛ تذكرة الحفّاظ 4: 1335.
[25] انظر: تذكرة الحُفّاظ 4: 1335؛ سير أعلام النبلاء 12: 152؛ البداية والنهاية 12: 246؛ معجم المؤلِّفين 11: 76.
[26] تذكرة الحُفّاظ 4: 1335 ـ 1336؛ سير أعلام النبلاء 12: 154؛ المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 16 ـ 30 ـ 31 ـ 32؛ هديّة العارفين 2: 100.
[27] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث المغيث في غريبي القرآن والحديث (المقدّمة) 1: 3 ـ 4.
[28] النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 13.
[29] النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 13.
[30] ابن خلّكان، وفيات الأعيان 4: 286، نقلاً عن: المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 34.
[31] تذكرة الحُفّاظ 4: 1335.
[32] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (المقدّمة) 1: 3 ـ 5.
[33] أبو عُبيد الهَرَويّ، الغريبَيْن في القرآن والحديث 1: 35.
[34] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (المقدّمة) 1: 4.
[35] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 15.
[36] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 628.
[37] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 201.
[38] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 75.
[39] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 116.
[40] النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 13.
[41] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 123.
[42] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 2: 585.
[43] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 13.
راجِع: محمود بن عمر الزمخشرِيّ، الفائق في غريب الحديث 1: 64، مادّة «باء»، 2: 448، مادّة «غور».
[44] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 30.
[45] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 183.
[46] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 677.
[47] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 187.
[48] راجع: مادّة «بخل»، «بسم»، «ذرر»، «دولج»، «بذذ»، «برك»، «برق»، في المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 135، 160، 696، 684، 140، 151، 150.
[49] راجع: الغريبَيْن في القرآن والحديث 1: 37، 39، 46، مادّة «أبب»، «أبل»، «أثل».
[50] النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 12.
[51] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 175.
[52] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 185.
[53] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 105.
[54] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 147، 188.
[55] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 150، 145، 201، 203، 683.
[56] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 164.
[57] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 164، 145.
[58] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 103.
[59] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 119.
[60] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 187، 237، 130.
[61] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 201، 248.
[62] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 201.
[63] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 203، 197.
[64] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 239، 640، 682.
[65] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 120.
[66] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 104.
[67] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 84.
[68] وفيات الأعيان 1: 306، نقلاً عن: المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 84 (الهامش 2).
[69] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 244.
[70] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 54.
[71] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 309.
[72] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 244.
[73] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 200.
[74] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 101.
[75] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 107.
[76] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 110.
[77] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 113.
[78] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 238.
[79] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 150.
[80] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 115.
[81] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 116 ـ 117.
[82] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 117 ـ 118.
[83] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 119.
[84] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 49، 176، 149.
[85] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 181، 251، 681.
[86] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 189، 591، 640، 812، 247.
[87] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 145، 166، 231، 59، 49.
[88] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 166.
[89] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 147، 205، 238، 251، 640.
[90] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 191، 234، 248، 162.
[91] راجع الموادّ التالية في الجزء 1 من كتاب «الغريبَيْن»: «أنه، أوه، برد، برشم، ثرب، ثقل، جزل»، نقلاً عن: المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 38 ـ 39 (مع الهامش 1).
[92] راجع: المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (التقديم): 39 (الهامش 1)، وفيه: «يقول في الغريبَيْن: وأنشدني شيخي رحمه الله للمثقَّب العبدِيّ يصف ناقته:
إذا ما قُمتُ أرحلها بليلٍ |
تأوَّهُ أَهَةَ الرجل الحزين |
ولم يشأ ذكر اسم الخطّابِيّ» (راجع: الغريبَيْن في القرآن والحديث 1: 124).
[93] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 61، 129.
[94] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 234، 98.
[95] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 177.
[96] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 53.
[97] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 225.
[98] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 58، 124.
[99] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 192، 162، 309.
[100] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 50.
[101] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 145.
[102] النهاية في غريب الحديث والأثر 1: 114.
[103] حاجي خليفة، كشف الظنون 2: 1209
[104] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 358.
[105] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 332.
[106] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 340.
[107] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث (المقدّمة) 1: 3 ـ 5.
[108] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 162.
[109] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 311، 240.
[110] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 146.
[111] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 124 ـ 125.
[112] المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 1: 310، 119 ـ 120.
/p/strongp dir=”RTL” [74]