16 يونيو 2012
التصنيف : مقالات قرآنية
لا تعليقات
6٬334 مشاهدة

المحكم والمتشابه من روايات الفريقَيْن

(بتاريخ: 11 ـ 2 ـ 2005م)

اختلاف الأقوال في معنى المحكم والمتشابه

تعدَّدت آراء العلماء وتفسيراتهم للمحكم والمتشابه في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7)، حتّى لقد بلغت ـ بحسب ما نقله العلاّمة الطباطبائِيّ في تفسير الميزان ـ ستّة عشر قولاً، وهي:

«الأوّل: إنّ المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 151 ـ 153)، والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، وهي الحروف المقطّعة النازلة في أوائل عدّة من السور القرآنية، مثل: الم، والر، وحم، وذلك أنّ اليهود أوّلوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدّة بقاء هذه الأمّة وعمرها، فاشتبه عليهم الأمر.

الثاني: عكس الأوّل، وهو أنّ المحكمات هي الحروف المقطّعة في فواتح السور، والمتشابهات غيرها.

الثالث: إنّ المتشابه هو ما يسمّى مجمَلاً، والمحكم هو المبين.

الرابع: إنّ المتشابهات هي الآيات المنسوخة؛ لأنّها يؤمَن بها ولا يعمَل بها، والمحكمات هي الآيات الناسخة؛ لأنّها يؤمَن بها ويعمل بها.

الخامس: إنّ المحكمات ما كان دليله واضحاً لائحاً، كدلائل الوحدانيّة، والقدرة، والحكمة، والمتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمُّل وتدبُّر.

السادس: إنّ المحكم كلّ ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جليّ أو خفيّ، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به، كوقت قيام الساعة ونحوه.

السابع: إنّ المحكمات آيات الأحكام، والمتشابهات غيرها ممّا يصرف بعضها بعضاً.

الثامن: إنّ المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلاّ وجهاً واحداً، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً كثيرةً، وكأنّ المراد به أنّ المحكم ما لا ظهور له إلاّ في معنى واحد، كالنصّ والظاهر القويّ في ظهوره، والمتشابه خلافه.

التاسع: إنّ المحكم ما أُحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أُممهم، والمتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعدّدة، ولازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص.

العاشر: إنّ المتشابه ما يحتاج إلى بيان، والمحكم خلافه، وهذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.

الحادي عشر: إنّ المحكم ما يؤمَن به ويعمَـل به، والمتشابه ما يؤمَن به ولا يعمَل به، ونسب إلى ابن تيميّة.

الثاني عشر: إنّ المتشابهات هي آيات الصفات خاصّة، أعمّ من صفات الله سبحانه، كالعليم، والقدير، والحكيم، والخبير، وصفات أنبيائه، كقوله تعالى في عيسى ابن مريم (عليهما السلام): ﴿وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ (النساء: 171)، وما يشبه ذلك، نسب إلى ابن تيميّة.

الثالث عشر: إنّ المحكم ما للعقل إليه سبيل، والمتشابه بخلافه.

الرابع عشر: إنّ المحكم ما أُريد به ظاهره، والمتشابه ما أُريد به خلاف ظاهره.

الخامس عشر: إنّ المحكم ما أُجمع على تأويله، والمتشابه ما اختلف فيه.

السادس عشر: إنّ المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره، سواءً كان الإشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى، ذكره الراغب، وهو أعم الأقوال ف‍ي معنى المتشابه، جمع فيه بين عدّة من الأقوال المتقدّمة»[1].

ونضيف إليها ما قيل من أنّ «المحكم ما كان قائماً بنفسه، لا يُحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه ما يُرجع فيه إلى غيره، قال النحّاس: وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات»[2].

واختار الطبريّ أنّ «المتشابه هو الحروف المقطَّعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو الم، والمص، والمر، والر، وما أشبه ذلك؛ لأنّهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طمعوا أن يدركوا من قِبَلِها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهاية أجل محمّدٍ وأمّته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك، من قبل هذه الحروف المتشابهة، لا يدركونه، ولا من قِبَل غيرها، وأنّ ذلك لا يعلمه إلاّ الله.

وكلُّ ما عدا [ذلك] فمحكمٌ؛ لأنّه لن يخلو من أن يكون محكماً بأنّه بمعنىً واحدٍ لا تأويل له غير تأويلٍ واحدٍ، وقد استغني بسماعه عن بيان مبيِّنه، أو يكون محكماً، وإنْ كان ذا وجوهٍ وتأويلاتٍ تُصرَف في معانٍ كثيرةٍ، فالدلالة على المعنى المراد منه إمّا من بيان الله ـ تعالى ذكره ـ عنه؛ أو بيان رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمّته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمّة»[3].

وقال الشوكانيّ: «والأَوْلى أن يُقال: إنّ المحكم هو الواضح المعنى، الظاهر الدلالة؛ إمّا باعتبار نفسه؛ أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتّضح معناه، أو لا تظهر دلالته، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره، وإذا عرفت هذا عرفتَ أنّ أهل كلِّ قولٍ [من الأقوال في معنى المحكم والمتشابه] عرّفوا المحكم ببعض صفاته، وعرّفوا المتشابه بما يقابلها»[4].

وقال العلاّمة الطباطبائيّ: «وصف [اللهُ تعالى] المحكماتِ بأنّها أمّ الكتاب، والأمّ بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، وليس إلاّ أنّ الآيات المتشابهة ترجع إليها، فالبعض من الكتاب، وهي المتشابهات، ترجع إلى بعض آخر، وهي المحكمات، [ولكنّ] معنى الأمومة، الذي يدلّ عليه قوله: هنّ أمّ الكتاب… الآية، يتضمّن عنايةً زائدةً، وهو أخصّ من معنى الأصل، الذي فسرت به الأمّ في القول الأوّل؛ فإنّ في هذه اللفظة، أعني لفظة الأمّ، عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء واشتقاق وتبعّض، فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرّع على المحكمات، ولازمُه كون المحكمات مبيّنة للمتشابهات.

وإنّ الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه أن تكون الآيةُ، مع حفظ كونها آيةً، دالّةً على معنى مريبٍ مردّدٍ، لا من جهة اللفظ، بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان، كإرجاع العام والمطلق إلى المخصِّص والمقيِّد، ونحو ذلك، بل من جهة كون معناها غير ملائمٍ لمعنى آية أخرى محكمةٍ لا ريب فيه، تبيِّن حال المتشابهة، ومن المعلوم أنّ معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلاّ مع كون ما يتّبع من المعنى مألوفاً مأنوساً عند الأفهام العامّيّة، تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه، أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام، الضعيفة الإدراك والتعقُّل.

[إذاً] المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمّنة للأصول المسلَّمة من القرآن، وبالمتشابهات الآيات التي تتعيّن وتتّضح معانيها بتلك الأصول، و[بعبارةٍ أخرى] المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردّد بين معنى ومعنى، حتّى يرجع إلى محكمات الكتاب فتُعيِّن هي معناها وتبيّنها بياناً»[5].

هذا ما ذكره العلماء في معنى المحكم والمتشابه، فماذا في الروايات في بيان معناهما؟

ما جاء في الروايات في معنى المحكم والمتشابه

في روايات العامّة (السنّة)

«رُوي عن ابن عباس في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾ قال: هي الثلاث الآيات التي هاهنا: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 151 ـ 153)، والتي في بني إسرائيل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ (الإسراء: 23 ـ 24).

وروي عن ابن عباس قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، المحكمات: ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما يؤمَن به، ويعمل به، قال: ﴿وأخر متشابهات﴾، والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمَن به، ولا يُعمل به.

وروي عن ابن عباس في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ…وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب: الناسخ الذي يدان به ويعمل به؛ والمتشابهات هنّ المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.

وروي عن ابن عباس، وعن ابن مسعود، وعن أناسٍ من أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ…كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾، أمّا الآيات المحكمات فهُنّ الناسخات التي يعمل بهنّ، وأمّا المتشابهات فهُنّ المنسوخات.

وروي عن قتادة: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، والمحكمات: الناسخ الذي يُعمل به، ما أحلَّ الله فيه حلاله وحرَّم فيه حرامه، وأمّا المتشابهات فالمنسوخ الذي لا يُعمل به، ويؤمَن به.

وروي عن الضحّاك في قوله: ﴿آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، قال: الناسخات، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، قال: ما نُسخ وتُرك يُتلى»[6].

«وروي عن مجاهد في قوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾، ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو متشابهٌ يصدِّق بعضه بعضاً، وهو مثل قوله: ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾، ومثل قوله: ﴿كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، ومثل قوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾.

وروي عن محمّد بن جعفر بن الزبير: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، فيهنّ حجّة الربّ، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريفٌ ولا تحريفٌ عمّا وُضعت عليه، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ في الصدق، لهن تصريفٌ وتحريفٌ وتأويلٌ، ابتلى الله فيهنّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرفن عن الحقّ»[7].

«وقال ابن زيد وقرأ: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، قال: وذكر حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أربع وعشرين آية منها، وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها، ثمّ قال: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾، ثمّ ذكر: ﴿وَإِلَى عَادٍ﴾ فقرأ حتّى بلغ: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾، ثمّ مضى، ثمّ ذكر صالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً، وفرغ من ذلك، وهذا يقينٌ، ذلك يقينٌ أحكمت آياته ثمّ فصّلت. قال: والمتشابه ذكر موسى في أمكنة كثيرة، وهو متشابه، وهو كلّه معنى واحد ومتشابه: ﴿اسْلُكْ فِيهَا﴾ و﴿احْمِلْ فِيهَا﴾، ﴿اسْلُكْ يَدَكَ﴾ و﴿أَدْخِلْ يَدَكَ﴾، ﴿حَيَّةٌ تَسْعَى﴾ و﴿ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾. قال: ثمّ ذكر هوداً في عشر آيات منها، وصالحاً في ثماني آيات منها، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطاً في ثماني آيات منها، وشعيباً في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود، ثمّ قال: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾. وقال في المتشابه من القرآن: مَنْ يُرِد الله به البلاء والضلالة، يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا، وما شأن هذا لا يكون هكذا؟»[8].

«وروي عن يحيى بن يعمر أنّه قال في هذه الآية: ﴿مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، قال يحيى: هنّ اللاتي فيهنّ الفرائض والحدود وعماد الدين، وضرب لذلك مثلاً، فقال: أمّ القرى مكّة، وأمّ خراسان مَرُوْ، وأمّ المسافرين الذين يجعلون إليه أمرهم، ويعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمّهم.

وروي عن أبي فاختة أنّه قال في هذه الآية: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، قال: أمُّ الكتاب فواتحُ السور، منها يُستخرج القرآن، ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ منها استخرجت البقرة، و﴿الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ منها استخرجت آل عمران»[9].

«وروي عن الربيع، قال: المحكمات هي الآمرة الزاجرة.

وروي أنّ يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، فقال أبو فاختة: هنّ فواتح السور، منها يُستخرج القرآن، ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ منها استخرجت البقرة، و﴿الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ منها استخرجت آل عمران؛ وقال يحيى: هُنّ اللاتي فيهنّ الفرائض، والأمر، والنهي، والحلال، والحدود، وعماد الدين.

وروي عن سعيد بن جُبير: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، قال: أصل الكتاب؛ لأنّهن مكتوباتٌ في جميع الكتب.

وروي عن مقاتل بن حيّان قال: إنّما قال: ﴿هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾؛ لأنّه ليس من أهل دين إلاّ يرضى بهنّ، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ يعني فيما بلغنا: الم، والمص، والمر، والر.

وروي عن سعيد بن جُبير، قال: المتشابهات آيات في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرؤوهُنّ، ومن أجل ذلك يضلّ من ضلّ، فكلّ فرقة يقرؤون القرآن يزعمون أنّها لهم، فمنها يتّبع الحرورية من المتشابه قول الله: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾، ثمّ يقرؤون معها: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، فإذا رأَوْا الإمام يحكم بغير الحقّ قالوا قد كفر، فمن كفر عدل بربّه، ومن عدل بربّه فقد أشرك بربّه، فهذه الأئمّة مشركون»[10].

«وروي عن جابر بن عبد الله ابن رئاب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب فجاء رجلٌ من اليهود لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾، فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود، فقال: أتعلمون والله لقد سمعتُ محمّداً يتلو فيما أُنزل عليه ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فقال: أنت سمعته، قال: نعم، فمشى حتّى وافى أولئك النفر إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فقالوا: ألم تَقُل أنّك تتلو في ما أُنزل عليك ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾، فقال: بلى، فقالوا: لقد بعث بذلك أنبياء، ما نعلمه بيَّن لنبيٍّ منهم ما مدّة ملكه، وما أجل أمّته غيرك، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنةً، ثم قال: يا محمّد هل مع هذا غيره؟، قال: نعم، ﴿المص﴾، قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه إحدى وثلاثون ومائة، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، ﴿الر﴾، قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، هذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم، ﴿المر﴾، قال: هذه أثقل وأطول، هذه إحدى وسبعون ومائتان، ثمّ قال: لقد لبس علينا أمرك، حتّى ما ندري أقليلاً أعطيت أم كثيراً، ثمّ قال: قوموا عنه، ثمّ قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم لعلّه قد جمع هذا كلّه لمحمّد إحدى وسبعون، وإحدى وثلاثون ومائة، وإحدى وثلاثون ومائتان، وإحدى وسبعون ومائتان، فذلك سبعمائة وأربع سنين، فقالوا: لقد تشابه علينا أمره، فيزعمون أنّ هذه الآيات نزلت فيهم: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾»[11].

إذاً معاني المحكم والمتشابه، المستفادة من مجموع هذه الروايات، هي:

1ـ المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.

2ـ المحكم هو ما يؤمَن به ويُعمَل به، والمتشابه هو ما يؤمَن به ولا يُعمَل به.

3ـ المحكم هو الحلال والحرام والحدود والفرائض، أو قُلْ هو الأحكام، والمتشابه هو المقدَّم والمؤخَّر والأمثال والأقسام.

4ـ المحكم هو الآيات الآمرة الزاجرة.

5ـ المحكم هو ما ذُكر من القصص مرّةً واحدةً، والمتشابه هو ما ذُكِر منها مكرَّراً.

6ـ المحكم هو فواتح السُّوَر.

7ـ المتشابه هو فواتح السُّوَر، والمحكم هو ما سوى ذلك.

8ـ المحكم هو الآيات التي فيها عِماد الدّين.

9ـ المحكم هو الآيات الموجودة في جميع الكتب.

10ـ المحكم هو الآيات التي يرضى بها جميع أهل الأديان.

والحقُّ أنّ بعضَها يمكن إرجاعُه إلى البعض الآخر؛ فالأوّلُ والثاني يعودان إلى معنىً واحدٍ، وهو ما يؤمَنُ به ويُعمَل به وما يؤمَن به ولا يُعمَل به؛ فإنّ الناسخ يُعمَل به، والمنسوخ لا يُعمَل به، ويجب الإيمان بكِلَيْهما. مضافاً إلى أنّه سيأتي في الروايات من طرق الشيعة أنّ المحكم والمتشابه غيرُ الناسخ والمنسوخ؛ للعطف بينهما في الرواية، وأصلُ العطف أن يكون للمغايرة.

والثالث والرابع يعودان إلى معنىً واحدٍ، وهو أنّ المحكم هو آيات الأحكام؛ فإنّها من الآيات الآمرة الزاجرة، والمتشابه هو المقدَّم والمؤخَّر والأمثال والأقسام. على أنّ في الروايات من طرق الشيعة ما يدلُّ على أنّ المحكـمَ والمتشابهَ قسيمٌ للآمر والزاجر القرآنِيّ.

ثمَّ يعود الثاني إلى الأوّل؛ فإنّ آيات الأحكام يؤمَن بها ويُعمَل بها، وأمّا آيات المقدَّم والمؤخَّر والأمثال والأقسام فيؤمَن بها ولا يُعمَل بها.

والثلاثةُ الأخيرة تعود إلى معنىً واحدٍ، وهو أصول الدّين، من التوحيد والنبوّة والمعاد؛ فإنّها عِمادُه، وبها يرضى جميع أهل الأديان؛ لأنّها جاءت في جميع الكتب السماويّة: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْه﴾ (المائدة: 48).

ويتعارَض السادِس مع السابع فيتساقطان.

وهكذا تصير المعاني ثلاثة فقط، وهي:

1ـ المحكم هو ما يؤمَن به ويُعمَل به، والمتشابه هو ما يؤمَن به ولا يُعمَل به.

2ـ المحكم هو ما ذُكر من القصص مرّةً واحدةً، والمتشابه هو ما ذُكِر منها مكرَّراً.

3ـ المحكم هو الآيات التي فيها عِماد الدّين، أي أصوله.

وبالعودة إلى الآية الكريمة: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7)، وما فيها من إثبات الأمومة للآيات المحكمات، فكأنّهنّ المرجِع للآيات الأخرى، وهي المتشابِهات، يسقط القولان الثاني والثالث عن الاعتبار؛ فإنّ القصص المتكرِّرة لا ترجع إلى القصص الواحدة، لاختلاف موضوعها؛ وشرائعُ الدّين لا ترجع إلى أصوله.

ويبقى من المعاني المتقدِّمة كلِّها معنىً واحدٌ، وهو: المحكم هو ما يؤمَن ويُعمَل به، والمتشابه هو ما يؤمَن به ولا يعمَل به.

في روايات الخاصّة (الشيعة)

في الكافي: عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله الله عز وجل: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾: «…والقرآن خاصٌّ وعامٌّ، ومحكمٌ ومتشابهٌ، وناسخٌ ومنسوخٌ، فالراسخون في العلم يعلمونه»[12].

وفي الكافي أيضاً: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ أُناساً تكلَّموا في هذا القرآن بغير علمٍ، وذلك أنّ الله تبارك وتعالى يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ…الآية﴾، فالمنسوخات مـن المتشابهات، والمحكمات مـن الناسخات»[13].

وفي تفسير العيّاشيّ: سُئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المحكم والمتشابه، قال: «المحكم ما يُعمَل به، والمتشابه ما اشتبه على جاهله»[14].

وفي تفسير العيّاشِيّ أيضاً: عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنّ القرآن محكمٌ ومتشابهٌ، فأمّا المحكم فنؤمن به ونعمل به وندين به، وأمّا المتشابه فنؤمن به ولا نعمل به، وهو قول الله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾»[15].

وفي تفسير القمّيّ: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سألته عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، [قال]: فأمّا المحكم من القرآن فهو ما تأويله في تنزيله، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾، ومثل قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ…إلى آخر الآية﴾، ومثله كثيرٌ محكمٌ ممّا تأويله في تنزيله؛ وأمّا المتشابه فما كان في القرآن ممّا لفظه واحدٌ ومعانيه مختلفة، ممّا ذكرنا من الكفر الذي هو على خمسة أوجه، والإيمان على أربعة وجوه، ومثل الفتنة والضلال الذي هو على وجوه»[16].

وفي تفسير القمّيّ أيضاً: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعتُه يقول: «إنّ القرآن زاجرٌ وآمرٌ، يأمر بالجنّة ويزجر عن النار؛ وفيه محكمٌ ومتشابهٌ فأمّا المحكم فيؤمَن به ويعمل به، وأمّا المتشابه فيؤمن به ولا يعمَل به، وهو قول الله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾»[17].

والمستفاد من هذه الروايات، بادئ ذي بدء، أربعة معانٍ، وهي:

1ـ المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.

2ـ المحكم هو ما يُعمَل به، والمتشابه هو ما اشتبه على جاهله.

3ـ المحكم هو ما نؤمن وندين به ونعمل به، والمتشابه هو ما نؤمن به ولا نعمل به.

4ـ المحكم هو ما كان تأويله في تنزيله، والمتشابه هو ما كان لفظه واحداً ومعانيه مختلِفةٌ.

ولكنْ بما أنّه يظهر من الرواية الأولى أنّ المحكم والمتشابه قسيمٌ للناسخ والمنسوخ يسقط المعنى الأوّل عن الاعتبار، فيبقى ثلاثة معانٍ.

والثاني والثالث يعودان إلى معنىً واحدٍ؛ فإنّ المانع عن العمل بالمتشابه هو أنّه مشتبِهٌ على جاهله، فيكون المعنى الجامع لهذَيْن المعنيَيْن أنّ المحكم هو ما يؤمَن ويُعمَل به، والمتشابه هو ما يؤمَن به ولا يُعمَل به.

والرابعُ كالتعليل لما استفدناه من الثاني والثالث: فإنّنا نؤمن بالمحكم ونعمل به؛ لأنّه واضٍحٌ بيِّنٌ، وما ذلك إلاّ لأنّ تأويله في تنزيله، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به؛ لأنّـه مشتبِهٌ علينا، وما ذلك إلاّ لأنّ لفظه واحدٌ ولكنّه ذو وجوهٍ من المعاني.

المعنى المستفاد من الروايات من طرق الفريقَيْن

ممّا تقدَّم يظهر أنّ للمحكم والمتشابه، وِفْق ما جاء في الروايات من طُرُق الفريقَيْن، معنىً واحِداً، فالمحكم هو ما يُؤمَن ويُعمَل به، والمتشابه هو ما يُؤمَن به ولا يُعمَل به.

هذا وقد ذهبت جملةٌ من الأخبار والروايات إلى تفسير المحكم والمتشابه بـ «أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعدائه»، ومنها:

في الكافي: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾، قال: «أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمّة (عليهم السلام)، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾، قال: فلانٌ وفلانٌ، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾: أصحابُهم وأهلُ ولايتهم ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾: أمير المـؤمنين (عليه السلام) والأئمّة (عليهم السلام)»[18].

وفي تفسير العيّاشِيّ: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ﴾، قال: «أمير المؤمنين والأئمّة (عليهم السلام)، ﴿وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾: فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ، ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ﴾: أصحابُهم وأهلُ ولايتهم، ﴿فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾»[19].

وهذا من الجري والتطبيق أو البطن وليس بتفسيرٍ.

خلاصةٌ واستنتاج

وفي الختام لا بُدَّ من القول بأنّه مهما بحثنا ودقَّقنا في الآيات والروايات فإنّ ما لم نُحِط بعلمه أكثر ممّا وصلنا وعَلِمنا، فمقتضى الأمانة العِلمِيّة، ومقتضى الاحتياط في تفسير آيات الله، وعدمِ تفسيرها بالرأي، وإنْ كان نابِعاً عن اجتهادٍ، أنْ نُصغي لقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو يصف الراسخين في العلم، الذين مَدَحَهُم الله في كتابه، وجعَلَهم في الطرف المقابِل لمَنْ في قلوبهم زيغٌ، حيث يقول (عليه السلام): «…وما كلّفك الشيطان علمه، ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمّة الهدى أثره، فكِلْ عِلمَه إلى الله سبحانه؛ فإنّ ذلك منتهى حقّ الله عليك. واعْلَم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به عِلماً، وسمّى تركهم التعمُّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً»[20].

الهوامش


[1] محمّد حسين الطباطبائي(1402 هـ)، الميزان في تفسير القرآن 3: 32 ـ 40.

[2] محمّد بن عليّ الشوكانيّ(ت1250 هـ)، فتح القدير الجامع بين فنَّيْ الرواية والدراية من علم التفسير 1: 314.

[3] محمّد بن جرير الطبريّ(ت310 هـ)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3: 238 ـ 239.

[4] فتح القدير الجامع بين فنَّيْ الرواية والدراية من علم التفسير 1: 314.

[5] الميزان في تفسير القرآن 3: 20 ـ 21 ـ 22 ـ 41 ـ 43 (بتصرُّفٍ).

[6] جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3: 234 ـ 235.

[7] جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3: 236.

[8] جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3: 237.

[9] جامع البيان عن تأويل آي القرآن 3: 239.

[10] عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطيّ(911 هـ)، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2: 4.

[11] الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2: 5.

[12]محمّد بن يعقوب الكلينيّ(329هـ)، الكافي 1: 213.

[13] الكافي 2: 28.

[14] محمّد بن مسعود بن عيّاش السَّلَمِيّ(320 هـ)، تفسير العيّاشِيّ 1: 162.

[15] تفسير العيّاشِيّ 2: 162 ـ 163.

[16] تفسير عليّ بن إبراهيم القُمّيّ 1: 96.

[17] تفسير عليّ بن إبراهيم القُمّيّ 2: 451.

[18] الكافي 1: 414 ـ 415.

[19] تفسير العيّاشِيّ 1: 162.

[20] نهج البلاغة 1: 162، الخطبة 91.



أكتب تعليقك