الإسراء والمعراج، كرامةٌ إلهيّة لنبيّ الإسلام / القسم الثاني
(الجمعة 12 / 5 / 2017م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.
4ـ نحن نتحدَّث عن إعجاز. كيف استقبل الناس هذا الإعجاز القرآني؟ وكيف كان أثره على المسلمين؟
من الطبيعي أن لا يكون تلقّي جميع الناس لمثل هذا الحدث بمستوى واحد. فالمسلم يصدِّق به لأنّه يعتقد صدق النبيّ(ص) في جميع ما يقوله، ولا يحتمل في حقِّه توهُّماً أو اشتباهاً.
وأمّا غير المسلمين فقد حاولوا إثارة ضجّةٍ كبيرة حول هذا الحَدَث، زاعمين أنّ إخباره(ص) عنه هو من علامات الجنون، وهو ما كانوا يسعَوْن على الدوام لإثباته له(ص)، وهكذا اندفعوا يريدون إحراجه أكثر فسألوه أن يصف لهم بيت المقدس، وهم يعرفون أنّه لم يَزُرْه من قبلُ، بينما زاره بعضُهم، فإذا برسول الله(ص) يصف لهم بيت المقدس وعمارته كأحسن ما يكون الوصف، فأسقط في أيديهم.
ومن الطبيعيّ أن يكون لمثل هذا الحَدَث الدالّ على كامل رعاية الله لنبيِّه(ص) الأثر المعنويّ الكبير في نفوس أتباعه، وهم يعانون من ظلم قريش واضطهادهم.
ومن هنا فإنّنا نعتقد أنّ هذا الحَدَث قد حصل في بداية البعثة النبويّة الشريفة. مع الإشارة إلى أنّ تاريخ هذا الحَدَث ـ رغم عظمته ـ كان موضع اختلافٍ كبير بين العلماء، وتعدَّدت أقوالهم فيه كثيراً.
فقد قال الواقدي: كان المسرى في ليلة السبت، لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، في السنة الثانية عشر من النبوّة، قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً.
وقيل: ليلة سبع عشرة من ربيع الأوّل، قبل الهجرة بسنةٍ، من شعب أبي طالب.
وقيل: ليلة سبع وعشرين من رجب.
وقيل: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة وشهرين، وذلك سنة ثلاث وخمسين من الفيل([1]).
وقيل: في ليلة إحدى وعشرين من رمضان، قبل الهجرة بستّة أشهر، كان الإسراء برسول الله.
وقيل: في السابع عشر من شهر رمضان، ليلة السبت.
وقيل: ليلة الاثنين من شهر ربيع الأول، بعد النبوّة بسنتين.
وفي كتاب التذكرة: في ليلة السابع والعشرين من رجب، السنة الثانية من الهجرة، كان الإسراء([2]).
ورُوي عن عليٍّ(ع) أنه لما كان بعد ثلاث سنين من مبعثه(ص) أُسري به إلى بيت المقدس، وعرج به منه إلى السماء ليلة المعراج، فلما أصبح من ليلته حدَّث قريشاً بخبر معراجه([3]).
وقال المجلسي في بحار الأنوار: السدي والواقدي: الإسراء قبل الهجرة بستّة أشهر بمكّة، في السابع عشر من شهر رمضان، ليلة السبت بعد العتمة، من دار أم هانئ بنت أبي طالب، وقيل: من بيت خديجة، ورُوي من شعب أبي طالب. الحسين وقتادة: كان من نفس المسجد.
ابن عباس: هي ليلة الاثنين في شهر ربيع الأوّل بعد النبوّة بسنتين. فالأوّل معراج العجائب، والثاني معراج الكرامة([4]).
والعبارة الأخيرة للمجلسي: «فالأوّل معراج العجائب، والثاني معراج الكرامة» تفتح الباب للحديث عن تكرُّر الحَدَث وتعدُّده، والأمر يحتاج إلى بحوث تحقيقيّة واسعة.
5ـ ختم الباري جلَّ وعلا آية الإسراء والمعراج بقوله: إنّه هو السميع البصير، ما هي المعاني التي تحملها في طياتها؟
أـ اللهُ سميعٌ بصير، وليس المقصود محمداً.
ب ـ الانتقال الرائع من صيغةٍ (صيغة المتكلِّم: باركنا حوله، لنريه من آياتنا) إلى صيغةٍ (صيغة الغائب: إنّه هو السميع البصير). فهو ـ الذي يظنّ البعضُ أنّه غائبٌ أو بعيدٌ ـ حاضرٌ وشاهد، وسميعٌ، وليس بسامعٍ فقط؛ وبصيرٌ، وليس بمبصرٍ فقط، لا يخفى عليه شيءٌ.
6ـ البعض شكَّك في واقعة الإسراء والمعراج، وأنّها تندرج ضمن الوَهْم والخيال. فما هو الردُّ على المشكِّكين؟
كلُّ المعجزات هي من خارج دائرة المألوف، بل رُبَما كان بعضُ الناس يتوهَّمون أنَّها غير معقولة، وأنّه لا واقعيّة لها، بل هي سِحْرٌ. فقد خاطب بنو إسرائيل موسى، ﴿وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 132).
وفي آيةٍ أخرى يحدِّثنا اللهُ عمّا جرى لكليمه موسى(ع)، فيقول: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (النمل: 12 ـ 13).
وكذلك عانى من هذه التُّهمة روح الله عيسى(ع): ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الصفّ: 6).
وصولاً إلى النبيّ الأكرم محمد(ص)، حيث ينبِّئنا الله عمّا لقيه من تُهَمٍ في هذا المجال، فيقول: ﴿اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ﴾ (القمر: 1 ـ 3).
وفي آيةٍ أخرى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾ (يونس: 2).
وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ (ص: 4).
إذن ليس المهمّ أن يكون الحَدَث مألوفاً، بل المطلوب أن يكون مستدَلاًّ، أي من حقِّك أن تسأل: ما هو الدليل على وقوعها؟
1ـ لقد حدَّث النبيّ(ص) أصحابَه، والمشركين، بما رأى في رحلتَيْه: الأرضيّة؛ والسماويّة([5])، وهو الذي لم يزُرْ بيت المقدس من قبلُ، فعَلِم الذين زاروه أنَّه قد ذهب إليه فِعْلاً.
2ـ القرآن الكريم يحدِّثنا عن وقوع هاتين الرحلتين، ونحن ـ كمسلمين ـ نعتقد صدق القرآن، وأنّه لا يأتيه الباطل من بين يدَيْه ولا من خلفه، فهو تنزيلٌ من الله العليم الخبير.
نعم، القرآن لا يذكر تفاصيل هاتين الرحلتين، وإنَّما تتعرَّض لذلك بعض الروايات، التي ينبغي دراستُها ومحاكمتها بمنهجيّةٍ علميّة واضحة؛ للوصول إلى الحقائق الثابتة.
ونحن نعترف أنّ بعض الروايات التي تتحدَّث عن تفاصيل الرحلة مبتلاةٌ بضعف السند، وبعض الخلل في المضمون، فقد لا نلتزم بكلِّ تلك التفاصيل، ولكنّ أصل القضية والحادثة ثابتٌ بلا شكٍّ ولا رَيْب.
7ـ الإسراء والمعراج ذكرى عظيمة، كيف يمكن للمؤمن الاستفادة منها؟
بما أنّ هاتين الحادثتين لم تقعا عَبَثاً ولَغْواً، وإنّما كانتا لحكمةٍ وهدفٍ سام، فلا بُدَّ بعد التفكُّر والتعرُّف على أهدافهما من الاستفادة منها قدر الإمكان.
1ـ يُروى عن النبيّ(ص) أنّه قال: «إنّما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق»([6]). فهذا هو الهدف الأسمى للبعثة النبويّة المحمديّة الشريفة. إذن كلّما سعينا للتحلّي بمكارم الأخلاق نكون قد حصلنا على الفائدة العمليّة المرتجاة لتلك الحادثة.
2ـ أيضاً النبيّ(ص) تحمَّل في سبيل القيام بمسؤولية الدعوة والتبليغ على أكمل وجهٍ الكثيرَ من الأذى، الجسدي والنفسي، حتّى رُوي عنه أنّه قال: «ما أُوذي نبيٌّ مثل ما أُوذيتُ»([7]). فلكي نحصل على الفائدة العمليّة من هذه الحادثة لا بُدَّ أن نوطِّن أنفسنا على تحمُّل كافّة المشقّات والصعوبات، والأذى والضَّرر الذي قد يصيبنا، ونحن نتابع مسيرة هذا النبيّ العظيم، في نشر العقيدة الصحيحة، والشريعة السمحاء.
3ـ وأيضاً تضمَّنت كلتا الحادثتين سَيْراً تفكُّريّاً ومعرفيّاً للنبيّ(ص). ومن الضروريّ أن نستفيد من هاتين الحادثتين في إحياء هذه النزعة التفكُّريّة والمعرفيّة في نفوس أبناء هذه الأمّة، ولا سيَّما أتباع هذا النبيّ العظيم؛ فإنّها سبيلٌ عريضة إلى الرقيّ والتحضُّر والنصر.
4ـ ولا ننسى خطابَ الله جلَّ جلالُه لنبيِّه الأعظم محمد(ص): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وليس للمسلمين فحَسْب. إذن ينبغي أن نقتدي بهذا النبيّ الرحيم والعطوف والرؤوف والحريص على أمّته، بل العالمين جميعاً، فنكون الرحماء في ما بيننا، ونسعى لنشر ثقافة المحبّة والرأفة والرحمة، بعيداً عن الخصومة والشِّقاق والفتنة.
5ـ ونستوحي من لقاء النبيّ الأكرم(ص) بجميع الأنبياء السابقين في بيت المقدس، وصلاته بهم، وحدة الأديان السماويّة كافّة، وهذا ما أكَّدته الآية الكريمة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: 19)، وقوله تعالى: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (البقرة: 285)، وقوله جلَّ وعلا: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (البقرة: 135 ـ 137).
إذن فلنلْتَقِ على الكلمة السواء، والقواسم المشتركة، وهي كثيرةٌ؛ استجابةً لأمر الله تبارك وتعالى، حيث يقول: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 64). وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) راجِعْ: المجلسي، بحار الأنوار 18: 302.
([2]) راجِعْ: المجلسي، بحار الأنوار 18: 319.
([3]) راجِعْ: المجلسي، بحار الأنوار 18: 379، نقلاً عن الخرائج.
([4]) راجِعْ: المجلسي، بحار الأنوار 18: 380 ـ 381.
([5]) راجع: مسند أحمد بن حنبل 1: 374، 3: 377 ـ 378؛ والأمالي (للصدوق): 533 ـ 534.
([6]) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 15: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): إنما بعثت لأتمِّم صالح الأخلاق. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ورواه البزّار، إلا أنه قال: لأتمِّم مكارم الأخلاق. ورجاله كذلك، غير محمد بن رزق الله الكلوداني وهو ثقةٌ.
([7]) رواه محمد بن همام الإسكافي في التمحيص: 4، معلَّقاً مرفوعاً.