15 ديسمبر 2017
التصنيف : مقالات قرآنية، منبر الجمعة
لا تعليقات
4٬884 مشاهدة

تفسير القرآن الكريم، بين النَّقْل والعَقْل

(الجمعة 15 / 12 / 2017م)

تمهيد

إنّه القرآن الكريم، كتاب الله المنزَل على نبيِّه الأكرم محمّد(ص)، وهو المهيمِن على ما سبقه من كتبٍ سماويّة مقدَّسة، كصُحُف إبراهيم(ع)، وزَبور داوود(ع)، وتوراة موسى(ع)، وإنجيل عيسى(ع): ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 48).

وقد نزل هذا الكتاب بلسانٍ عربيٍّ مبين، يفهمه أهلُ العربيّة أجمعون. وهكذا كان رسول الله محمد(ص) يقرأه على قومه، فيفهمونه، ويحفظونه، ويعملون به، وربما احتاج البعضُ القليل من آياته إلى شرحٍ وتفسير، فيتصدّى له النبيُّ(ص)، ومن بعده أئمّةُ أهل البيت(عم)، الذين هم عِدْلُ القرآن، ومن بعدهم علماء الدين، الذين بذلوا حياتهم في تحصيل العلم والمعرفة.

هل من صعوبةٍ في فهم النصّ القرآني؟

تختلف الآراء في القدرة على فهم النصّ القرآني؛ فمن الناس مَنْ يدَّعي أنّه يفهم أكثرَه، إلاّ بعض الكلمات؛ ومنهم مَنْ يُقرّ بوجود صعوبةٍ في قراءة بعض سُوَره، فضلاً عن فهمها؛ ومنهم مَنْ يعتقد أنّه لا يُفهَم منه إلاّ الظاهر، وأمّا الباطن فلا يمكن فهمُه إلاّ بالرجوع إلى التفاسير.

وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فمِنْ قائلٍ: إنّ القرآن لا يمكن فهم شيء منه مطلقاً، حتّى مثل قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: 1)، إلاّ بتفسيرٍ من أهل بيت العصمة والطهارة(عم)؛ وآخر يقول: إنّ فهم جميع آياته ميسورٌ لكلّ أحدٍ من الناس.

وكلا القولين مجافٍ للحقيقة والصواب؛ ففي القرآن ناسخٌ ومنسوخ؛ وفي القرآن محكمٌ ومتشابِه؛ ولآياته ظاهرٌ وباطن، وبالتالي فلا مناص من الرجوع إلى أهل الذِّكْر والراسخين في العلم؛ لبيان تأويله، وتفسير المتشابِه من آياته.

إذن إنّ فهم جميع آيات القرآن الكريم ليس ميسوراً لكلّ أحدٍ من الناس.

ولكنْ أن يُقال: إنّه لا يمكن فهم شيءٍ من القرآن، حتّى مثل قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ (الإخلاص: 1)، إلاّ بتفسيرٍ وشرح وبيان([1])، فهو أيضاً غيرُ صحيح.

كيف وقد نزل القرآن بياناً للناس؟! وقد قرأه رسول الله(ص) على أصحابه، وشرح لهم آياتِه المُتشابِهات وما ثَقُل عليهم فهمُه، وأَوْكَل إليهم فهمَ البقيَّة، وهي كثيرٌ، اعتماداً على ذوقهم العربيّ السليم؟!

كيف وقد أمرنا أهلُ البيت(عم) بعَرْض ما يُنقل لنا من رواياتهم على كتاب الله، وهو هذا القرآن الكريم الموجود بين أيدينا، فما وافقه من الروايات أخذنا به، وما خالفه علينا أن نضرب به عَرْض الجدار، ولا نقيم له وَزْناً أو اعتباراً([2])؟!

إذن، أيُّها الأحبَّة، يتميَّز الخطاب القرآني عموماً بسهولة فهم آياته، إلاّ أنّه لا إحاطةَ بمعاني هذه الآيات، فما يمكن فهمُه بشكلٍ مستقلٍّ هو الظاهر، وأمّا الباطن والباطن والباطن، وأمّا الآيات المُتشابِهات، والآيات المنسوخات، ونحوهما، فيحتاج إلى مَنْ يبيِّنه ويشرحه، ألا وهو النبيُّ(ص) وأهلُ بيته الكرام، عليهم جميعاً ألفُ صلاةٍ وسلام.

وقد بذل علماء المسلمون جُهْداً كبيراً في تفسير القرآن الكريم، فتعدَّدت التفاسير وتنوَّعَت، تَبَعاً لتنوُّع المناهج والاتِّجاهات والأساليب المتَّبَعة في التفسير، ومن أبرزها:

ـ منهج تفسير القرآن بالقرآن؛ ومنهج التفسير بالمأثور عن النبيّ(ص) وأصحابه عند العامّة، وعن النبيّ(ص) وأئمّة أهل البيت(عم) عند الشيعة؛ والمنهج العقليّ؛ ومنهج التفسير بالرأي.

ـ والاتِّجاه اللغويّ؛ والاتِّجاه العلميّ؛ والاتِّجاه الصوفيّ؛ والاتِّجاه التاريخيّ؛ والاتِّجاه الاجتماعيّ الإصلاحيّ؛ والمنهج الأدبيّ؛ وغيرها من المناهج.

ـ والأسلوب التجزيئي (الموضعي)؛ والأسلوب الموضوعيّ (التوحيدي).

الفرق بين المنهج والاتِّجاه والطريقة (الأسلوب) واللَّوْن والصِّبْغة

المنهج التفسيريّ هو السبيل والأداة والوسيلة التي يعتمِد عليها المفسِّر لبيان معنى الآيات القرآنِيّة، ورفعِ إبهامها، وبه يصل المفسِّر إلى تحقيق أهدافه من التفسير، ومن ذلك: منهج تفسير القرآن بالقرآن، ومنهج تفسير القرآن بالروايات والأحاديث، ومنهج تفسير القرآن بالأدلّة العقليّة القطعيّة، إلى غير ذلك من المناهج.

الاتِّجاه التفسيريّ هو الهدفُ والغايةُ التي يتوخّاها المفسِّر من تفسيره، فإنْ أراد أن يكون تفسيرُه مساعِداً على صلاح المجتمع، وتحلّيه بالأخلاق الإسلامِيّة، كان اتّجاهه في تفسير الآيات القرآنيّة إصلاحيّاً أخلاقيّاً، وإنْ أراد التركيز على مسائل العقيدة، وتقريرها، وبسط معالمها، والذود عنها، كان اتّجاهُه في التفسير عقائدِيّاً، وهكذا في بقيّة الأهداف.

الطريقةُ في التفسير هي المظهرُ الشكلِيُّ للأسلوب الذي اتَّبعه المفسِّر في تفسيره، فقد يأخذ في تفسير الآيات مرتَّبةً وِفْق المصحف؛ وقد يختار موضوعاً معيَّناً ويرتِّب الآيات المتعلِّقة به وِفْق النزول؛ وقد يفرِّق بين بيان معاني الألفاظ وبيان معاني التراكيب والجُمَل، كما في مجمع البيان مثلاً؛ وقد يمزج بينهما، كما في الميزان مثلاً، وهذا كلُّه من المظاهِر الشكليّة للأسلوب الذي يختاره المفسِّر لتفسيره.

وللمفسِّرين في التفسير أساليبُ أربعةٌ، وهي:

1ـ التفسير التحليليّ؛ وهو الأسلوب الذي يتتبّع فيه المفسِّر الآيات، حسب ترتيب المصحف، سواءً تناول جملةً من الآيات متتابعةً، أو سورةً كاملةً، أو القرآن الكريم كلَّه، ويبيِّن ما يتعلَّق بكلِّ آيةٍ من معاني ألفاظها، ووجوه البلاغة فيها، وأسباب نزولها، وأحكامها، ومعناها إجمالاً، ونحو ذلك.

2ـ التفسير الإجماليّ؛ وهو الأسلوب الذي يعمَد فيه المفسِّر إلى الآيات القرآنِيّة ـ كلُّ مجموعةٍ على حِدة ـ، حسب ترتيب المصحف، فيبيِّن معاني الجمل فيها، متتبِّعاً ما ترمي إليه الجمل من أهدافٍ، ويصوغ ذلك بعباراتٍ من ألفاظه؛ ليسهل فهمها، وتتّضح مقاصدها للقارئ والمستمع، غير أنّه يجعل بعض ألفاظ الآيات رابطاً بين النصّ وتفسيره؛ لإشعار القارئ أو السامِع أنّه لم يبعد في تفسيره عن النصّ القرآنِيّ.

3ـ التفسير المقارَن؛ وهو الذي يعمد المفسِّر فيه إلى الآية، أو الآيات، فيجمع ما حول موضوعها من نصوص، سواءً كانت نصوصاً قرآنِيّةً أخرى، أو نصوصاً نبوِيّةً (أحاديث)، أو للصحابة، أو للتابعين، أو للمفسِّرين، أو الكتب السماوِيّة الأخرى، ثمّ يُقارن بين هذه النصوص، ويوازِن بين الآراء، ويستعرِض الأدِلّة، ويبيِّن الراجِح، وينقض المرجوح.

4ـ التفسير الموضوعيّ؛ وهو أسلوبٌ لا يُفسِّر فيه صاحبه الآيات القرآنِيّة حسب ترتيب المصحف، بل يجمع الآيات القرآنِيّة التي تتحدَّث عن موضوعٍ واحِدٍ فيفسِّرها([3]).

اللَّوْنُ والصِّبْغةُ هما ما يظهر في التفسير من آثارٍ تدلُّ على شخصيّة المفسِّر، وطاقته الفكرِيّة، واستطاعته العقلِيّة، والعلوم والمعارِف المُلِمّ بها.

مناهج التفسير

اتَّبع المفسِّرون مناهج متعدِّدة في تفسير كلام الله تعالى. وترجع هذه المناهج في مجملها إلى منهجين أساسين، هما:

1ـ التفسير بالمأثور.

2ـ التفسير بالرأي (بالدراية).

1ـ التفسير بالمأثور

وهو أن يعتمد المفسِّر على ما ورد في تفسير الآية من الآثار، في القرآن الكريم نفسه، أو عن النبيّ(ص) وأئمّة أهل البيت(عم)، أو عن الصحابة والتابعين، بحيث تنقل بلا زيادة عليها، مبتعدين عن الاستنباط و الاستنتاج ما أمكنهم.

ولهذا المنهج أربعة أقسام، وهي:

أـ تفسير القرآن بالقرآن: وهو أحسن أنواع التفسير؛ فإنّ القرآن يفسِّر بعضُه بعضاً، فما جاء منه مُجمَلاً في موضعٍ قد فصَّله في موضعٍ آخر، وما اختُصر منه في مكانٍ قد بَسَطَه في مكانٍ آخر، وهكذا. وها هو القرآن الكريم يصف نفسه بأنّه تبيانٌ لكلِّ شيءٍ، فهل يصحّ أن يكون مبيِّناً لكلّ شيءٍ ولا يكون تبياناً لنفسه؟! ومثال ذلك: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾ (المعارج: 19 ـ 21), ففسَّر لفظة «هَلُوعاً» بما بعدها.

ب ـ تفسير القرآن بالسُّنَّة (عن النبيّ(ص) أو الإمام(ع)): فالسُّنَّة شارحةٌ للقرآن، ومبيِّنة وموضِّحة له، كتفصيل الصلاة والحجّ. وقد ذكر القرآن الكريم أنّ أحكام الرسول(ص) التي كان يحكم بها هي نوعٌ من الوحي، وقد بيَّن ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ﴾ (النساء: 105)، ولهذا قال الرسول(ص): «ألا إنّي أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه»، أي السُّنَّة.

كما أنّ القرآن الكريم نفسه أشار إلى أنّ تفسير وشرح آيات القرآن هو ممّا أوتيه النبيّ(ص) وأُنزل عليه، ولم يكُنْ من اجتهاده وبنات أفكاره، فقال تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 16 ـ 19).

ج ـ تفسير الصحابة: وقد عُدُّوا أقرب الناس لإدراك معاني وأسرار القرآن الكريم؛ لكونهم سمعوا القرآن من منبعه الصافي رسول الله(ص), وكانوا على أعلى قَدْرٍ من الإيمان وسلامة الفطرة والسَّليقة الأصلية.

ومن أشهر الصحابة المفسِّرين: الإمام عليّ بن أبي طالب(ع)؛ عبد الله بن عبّاس؛ عبد الله بن مسعود.

د ـ تفسير التابعين: وقد عَدَّ بعضُهم أقوالَ التابعين حجّةً؛ لأنهم أخذوها عن الصحابة. ولكنّ جمهور العلماء لم يعتبروها حجّةً إلاّ إذا أجمعوا عليها.

تفاسير بالمأثور

عند الشيعة: تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي؛ تفسير العيّاشي؛ تفسير فرات الكوفي؛ تفسير البرهان، للبحراني.

عند السنَّة: خيرُ ما يمثِّل هذا اللون من التفسير هو تفسير «الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور»، للسيوطي. وهناك مَنْ يعتبر «تفسير ابن جرير الطبري (جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أو جامع البيان في تأويل القرآن)» و«تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم)» من التفسير بالمأثور، مع كونهما يحويان كثيراً من الاجتهادات والتوجيهات والترجيحات التي تعتمد على الدراية والرأي والاجتهاد، ومع ذلك فهما كتابان عظيمان في التفسير بالمأثور، ولكنَّهما لا يخلوان من التفسير بالرأي.

2ـ التفسير بالرأي (بالدراية)

وهو ما اعتمد المفسِّر فيه على الاجتهاد والاستنباط المستند إلى الأصول الشرعيّة واللغوية. وهو قسمان: مذمومٌ؛ ومحمود.

أـ التفسير بالرأي المذموم

وهو ما كان باعثه الهَوَى، ولا يصدر عن علمٍ، و لا عن دراية. وهو رأيٌ خاطئ، يحرم الإقدام عليه في كافّة العلوم الدينية مطلقاً؛ لقوله(ص): «مَنْ قال في القرآن بغير علمٍ فليتبوأ مقعده من النار». رواه الترمذي. بل يمكن القول: إنّ التفسير بالرأي المنهيّ عنه أمرٌ راجع إلى طريق الكشف، دون المكشوف، فحتّى لو وصل إلى نتيجةٍ صحيحة فإنّ سلوكه للطريق الخاطئ مرفوضٌ ممنوع؛ لقوله(ص): «مَنْ تكلَّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

وبعبارةٍ أخرى: المذموم والمرفوض من التفسير بالرأي هو ما كان غير جارٍ على قوانين اللغة العربيّة، ولا موافقاً للأدلّة الشرعيّة، ولا مستوفياً لشرائط التفسير التي ذكرها المفسِّرون. واستدلُّوا لمنعه بالنهي النبويّ عن تفسير القرآن بالرأي، حيث قال(ص): «مَنْ قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

وكذلك يكون التفسير بالرأي مذموماً إذا لم يُحْكِم المفسِّر أدوات التفسير، كالعلم بالناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، وأمثال ذلك.

وكذلك إذا تجنَّب المفسِّر وضع اللغة، لأنّ الخروج بالكلمة أو الجملة عن المراد بهما يُعَدّ تعطيلاً لهما، والكلام إنَّما هو لإفهام معانٍ معيّنة منها، كتفسير مَنْ فسَّر قوله تعالى في حقّ أهل النار: ﴿لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً﴾ (النبأ: 23)، أي أزماناً ثمّ يخرجون منها، مع أنّ المراد من الآية لابثين فيها أحقاباً بعد أحقاب، لا يخرجون منها، كما نُقِل ذلك عن عبد الله بن عبّاس.

ب ـ التفسير بالرأي المحمود

وهو ما كان مستنداً إلى أصول علميّة من اللغة والشرع، ووفق ضوابط دقيقة واضحة. وهو منهجٌ جيِّد، فقد حثَّنا جلَّ وعلا على تدبُّر آياته بقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24).

وبعبارةٍ أخرى: المحمود من التفسير بالرأي هو تفسير القرآن بالاجتهاد، بعد معرفة المفسِّر لكلام العرب، وطرقهم في القول وفنون الكلام، ومعرفته للألفاظ العربية ووجوه دلالاتها، واستعانته في ذلك بكلام العرب، كالشعر الجاهليّ، ووقوفه على أسباب النزول، ومعرفته بالناسخ والمنسوخ من آيات القرآن، وغير ذلك من الأدوات التي يحتاج إليها المفسِّر. وهذا النوع جوَّزه العلماء؛ اعتماداً على الأمر الإلهي بتدبُّر القرآن قال تعالى: ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الأَلْبابِ﴾ (ص: 29).

وكذلك فقد حثّ النبيّ(ص) على ذلك عندما دعا لابن عبّاس بقوله: «اللهُمَّ فقِّهْهُ في الدِّين، وعلِّمْه التأويل».

وكذلك فإنّ أصحاب رسول الله(ص) اختلفوا في تفسير آياتٍ من القرآن، ممّا لم يبيِّنْه لهم رسول الله(ص)، فلو كان النظر والاجتهاد ممنوعاً لكان الصحابة قد وقعوا في معصية الله تعالى.

وخلاصةُ الكلام: إنّ مناهج التفسير هي:

1ـ المنهج القرآني، وهو أحسن المناهج.

2ـ المنهج الروائي (الحديثي) (النقلي)، ويعترضه بعض الوَهْن؛ لجملةٍ من الأسباب، وأهمّها:

1ـ ضعف الأسانيد.

2ـ الوضع في التفسير.

3ـ الإسرائيليّات.

مثالٌ: قولُه تعالى: ﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ (النساء: 23). هناك نقاشٌ في وقوع هذا العمل من النبيّ يعقوب(ع)، فالروايات في ذلك متضاربةٌ، منها ما يدلّ على ذلك، ومنها ما يدلّ على أنّه تزوَّجهما تتالياً، لا جَمْعاً. وبما أنّ الموجود في التوراة هو القول بالجمع بينهما([4])، وهو موجودٌ كذلك في بعض كتب التاريخ والتفسير للعامّة([5])، فإنّه يقوى أن تكون الروايات الموافقة موضوعةً مكذوبة، وتكون الروايات المخالفة هي الصحيحة. وعليه يكون(ع) قد تزوَّج بالأختين تتالياً، لا جمعاً.

3ـ المنهج الاجتهادي (العقلي) (الدرائي). وهذا التفسير هو غير التفسير بالرأي، وهناك اختلافاتٌ رئيسة بينهما: ففي التفسير بالرأي يُقدَّم شخص المفسِّر على التفسير، على أساس الذَّوْق والنظر الشخصي، بدون مراعاة القرائن النقليّة والعقلية؛ أمّا في التفسير العقلي فإنّ المفسِّر يأخذ بنظر الاعتبار القرائن النقليّة والعقليّة في التفسير.

4ـ المنهج الجامع (القرآني الروائي العقلي العلمي).

5ـ التفسير بالرأي (أي بالهَوَى). ويتمثَّل ذلك بالأمور التالية:

أـ تفسير ما لا يُدْرَك علمُه إلاّ ببيان المعصوم(ع).

ب ـ إخضاع القرآن للعقيدة المُسْبَقة، بحيث يعمد شخصٌ إلى آيةٍ قرآنية فيحاول تطبيقها على ما قصده من رأيٍ أو عقيدة أو مسلك؛ تبريراً لما اختاره في هذا السبيل، أو تمويهاً على العامّة.

ج ـ تفسير القرآن بغير الأصول الصحيحة، مستبدّاً بالرأي، محايداً طريقة العقلاء في فهم معاني الكلام، فإنّ للوصول إلى مراده تعالى من كلامه وسائل وطرقاً، منها: مراجعة كلام السَّلَف، والوقوف على الآثار الواردة حول الآيات، وملاحظة أسباب النزول، وغير ذلك من شرائط يجب توفُّرها في مفسِّر القرآن الكريم. فإغفال ذلك كلِّه، والاعتماد على الفهم الخاصّ، مخالفٌ لطريقة السَّلَف والخَلَف في هذا الباب. ومَنْ استبدَّ برأيه هلك، ومَنْ قال على الله بغير علمٍ فقد ضلَّ سواء السبيل.

شروط التفسير بالرأي ليكون مقبولاً

1ـ الرجوع إلى المأثور الصحيح عن النبيّ(ص)، وعدم مخالفته.

2ـ الرجوع إلى المأثور عن الصحابة وأهل البيت(عم)، وعدم مخالفتهم في التفسير.

3ـ الاعتماد على اللغة العربية، وعدم صرف الآيات إلى ما لا يدلّ عليه المشهور من كلام العرب.

4ـ الاعتماد على مقتضى الكلام، وما يدل عليه القانون الشرعيّ، من خاصٍّ وعامّ، ومطلق ومقيِّد، وناسخ ومنسوخ.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) نُقل عن الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة 1: 27 (في الهامش) قولُه: قال المحدِّث السيّد نعمة الله الجزائري.. في بعض رسائله: إنّي كنتُ حاضراً في المسجد الجامع في شيراز، وكان الأستاذ المجتهد الشيخ جعفر البحراني والشيخ المحدِّث صاحب جوامع الكلم يتناظران في هذه المسألة، فانجرّ الكلام هاهنا حتّى قال له الفاضل المجتهد: ما تقول في معنى ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فهل يحتاج في فهم معناها إلى الحديث؟ فقال: نعم، لا نعرف معنى الأحدية، ولا الفرق بين الأحد والواحد، ونحو ذلك، إلاّ بذلك. انتهى. أقول: ونُقل عن بعض المتحذلقين ـ ممَّنْ يدَّعي الانتظام في سلك الأخباريّين ـ أنّه يمنع من اللباس على غير الهيئة التي كان عليها لباس الأئمّة(عم). وهو جهلٌ محض.

([2]) روى أحمد بن محمد بن خالد البرقي في المحاسن 1: 226، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله(ع)، عن آبائه، عن عليٍّ(ع)، قال: «إنّ على كلّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلِّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخُذُوا به، وما خالف كتاب الله فدَعُوه».

ونقل الحُرّ العاملي في وسائل الشيعة 27: 118 ـ 119، عن سعيد بن هبة الله الراوندي في (رسالته)، التي ألَّفها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحّتها، عن محمد وعليّ ابنَيْ عليّ بن عبد الصمد، عن أبيهما، عن أبي البركات عليّ بن الحسين، عن أبي جعفر ابن بابويه، عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن يعقوب بن يزيد، عن محمد بن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد الله(ع) قال: «الوقوف عند الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهَلَكة، إنّ على كلِّ حقٍّ حقيقة، وعلى كلِّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخُذُوه، وما خالف كتاب الله فدَعُوه».

([3]) راجع: فهد الرومي، بحوث في أصل التفسير ومناهجه: 57 ـ 62.

([4]) الكتاب المقدس: 46، إصدار مجمع الكنائس الشرقية.

([5]) راجِعْ: تاريخ الطبري 1: 223؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ 1: 126؛ ابن كثير، البداية والنهاية 1: 224؛ ابن قتيبة، المعارف: 40؛ تفسير أبي السعود 4: 253؛ تفسير الآلوسي 12: 183؛ تفسير القرطبي 9: 130؛ تفسير السمرقندي 2: 180.



أكتب تعليقك