حقّ الحضانة بين الأب والأم، قراءةٌ جديدة وفق روح الشريعة
سؤال: لماذا حكم الإسلام بالفترة الأكبر من حضانة الأولاد للأب عند الطلاق، مع أن الأمّ أرأف بهم وأقدر على تربيتهم؟
الجواب: يعيبون على الإسلام جعله حضانة الأولاد بعد السنتين للأب، وليس للأمّ؛ ويتصوَّرون أن هذا إجحافٌ بحقّ المرأة، وحرمانٌ لها من أبسط حقوقها، وعدوانٌ على الأولاد الذين من حقِّهم وراحتهم أن يعيشوا في كَنَف أمِّهم.
والحقُّ أنه لا بُدَّ من النظر إلى الموضوع نظرةً عامّة شاملة؛
فأوّلاً: الإسلام شريعةٌ عامّة للجميع، وأحكامه تراعي مصلحة الجميع، وليس في وارد حرمان أحدٍ حقَّه.
وثانياً: التطبيق الخاطئ لبعض الأحكام ـ من قِبَل الطليقَيْن أو القضاء ـ لا يعكس سماحة الإسلام وعدالته، بل يعكس خُبْث الفاعل، وقُبْح تصرُّفه وموقفه.
وثالثاً: أحكام الإسلام تتقبَّل التجديد والتطوير؛ إذ ممّا لا شَكَّ فيه أن للظروف الزمانية والمكانية الدَّوْر الكبير في صياغة وبلورة الحكم وإظهاره للناس.
ومن هنا نقول:
١ـ قديماً ـ في العهد الإسلاميّ الأوّل ـ لم يكن متعارفاً، بل كان مستقبحاً أن تبقى المرأة المطلَّقة أو الأرملة دون زواجٍ، ولو كانت كبيرةً في السنّ.
٢ـ ممّا لا شَكَّ فيه أن الرغبة في الزواج من امرأةٍ لديها أولادٌ تحضنهم وتربّيهم أقلُّ بكثيرٍ من الرغبة في مَنْ هي بمفردها.
٣ـ لو ألزم الإسلام المطلَّقة بحضانة أولادها، أو جعل لها الوصاية الإلزامية عليهم بعد وفاة زوجها (أبيهم)، لكان ذلك عائقاً كبيراً في طريق زواجها وإكمال حياتها الطبيعية (وهي حقٌّ مشروعٌ لكلّ امرأةٍ، ولا ينبغي أن تزهد فيها).
بينما حضانة الأولاد من قِبَل الرجل لا تمنعه من الزواج؛
فأهله (وهم العمود النسبيّ للأولاد) يتحمَّلون تربيتهم مع الأب.
كما أنه لو أراد الزواج يمكنه أن يشترط على زوجته الجديدة تربيتهم.
ولو تزوَّج فبإمكانه؛ بحكم قوامته، أن يربِّيهم معه في البيت.
وبحكم كون النفقة في المعيشة واجبةً عليه، وهو العامل الذي يحصِّل المال، يمكنه أن يجعلهم في بيتٍ مستقلٍّ إلى جوار بيته الزوجيّ، وينفق عليهم، ويتَّخذ لهم خادمةً تعنى بشؤونهم.
إذن الأب هو الأقدر من الأمّ على تحمُّل تَبِعات الحضانة، ولا تمنعه من متابعة حياته الطبيعية؛ بينما تحول الحضانة ـ ولا سيَّما لأولادٍ متعدِّدين ـ بين الأمّ وحياتها (الزواج وغيره).
ومن هنا جعل الإسلام الحضانة للأب بعد عمر السنتين؛ فقبل ذلك هو لا يستغني عن أمِّه المرضعة، ولا بُدَّ له من ملازمتها، وفي ذلك مصلحته، المقدَّمة على أيِّ مصلحةٍ أخرى.
ولكنْ بعد السنتين من حقّ الأمّ، ولا سيَّما الشابّة، الالتفات لنفسها، والاهتمام بحياتها واستقرارها، والحضانة ستمثِّل عبئاً كبيراً عليها، ولهذا لم يوجبها الإسلام عليها، ولو فعل لثارَتْ النساء، واعتبرْنَ هذا اعتداءً على حقِّهنَّ في الحياة الطبيعية، التي تحتاجها كلُّ امرأةٍ.
نعم أعطى الإسلام الحضانة للأب بعد عمر السنتين لأنه؛ بما أوتيه من إمكاناتٍ ووظائف، يتحمَّل هذا العبء بيُسْرٍ، ودون مشقّةٍ أو حَرَجٍ.
والتشريع الإسلاميّ لا بُدَّ أن يكون بلسانٍ عامّ، ينطبق على الجميع، ولا مجال فيه للتفريق بين حالةٍ وأخرى، كأنْ يترك الأمر اختياريّاً للمرأة؛ فالتي لا تريد الزواج ـ ولو أوجب لها هذا الخيار مشقّةً وحَرَجاً، وتتحمَّل المَهانة العُرْفية بسبب عزوفها هذا ـ يمكنها أن تحتفظ بالحضانة؛ وأما التي لا تريد ذلك فلا تحتفظ بالحضانة، مثلُ هذا التفريق ليس مستساغاً في الأحكام ذات الطابع القانونيّ والتنظيميّ؛ كما أن الله عزَّ وجلَّ ـ بمقتضى ولايته على عباده ـ لم يفوِّض ويأذن للإنسان أن يذلّ نفسه، ويوقعها في المشقّة والحَرَج، بل ألزمه بما لا يوقعه في هذا كلِّه.
وما التفريق بين الصبيّ والبنت في ذلك (فحضانة الأم للصبيّ إلى سنتين وللبنت إلى سبع سنين) إلاّ إشارةٌ إلى إمكانية التجديد في هذا الحكم، وتطويره بما يلحظ مصلحة الجميع (الأب والأمّ والطفل)؛ إذ من الواضح حاجة البنت تربويّاً إلى الأمّ، ولا يكفيها أن تكون معها في فترة الرضاع فقط؛ بخلاف الصبيّ، الذي يمكنه أن يحصل على تربيته الصحيحة والكاملة من أبيه أو جدّته أو زوجة أبيه.
وعلى أيّ حالٍ المسألة قابلةٌ للتجديد والتطوير؛ بلحاظ اختلاف الزمان والمكان والحيثيّات.
فالمرأة التي تعمل وتكسب ليست سواءً مع المرأة غير العاملة وغير الكاسبة.
والمرأة التي لا تريد الزواج، ولا تطلبه، ولا يَعُدّ العُرْف العامّ عدمَه عَيْباً في حقِّها تختلف عن المرأة القديمة تماماً.
واستناداً إلى هذا التبدُّل في المزاج العامّ، والعُرْف السائد (عدم قُبْح عدم الزواج)، والظروف الشخصيّة للنساء (صيرورتهنَّ متعلِّماتٍ وعاملات)، قد يُقال بثبوت حقّ الحضانة للأمّهات إلى حين البلوغ الشرعيّ للأولاد، ما لم يتزوَّجْنَ بالفعل، فتسقط الحضانة حينئذٍ لصالح الأب؛ إذ ستتسبَّب الحضانة بمشقّةٍ وحَرَجٍ للأمّ المتزوِّجة، وهو ما لا يرضاه الله لها، حتّى لو رضيَتْه هي لنفسها.
وكلُّ هذه المشقّة والحَرَج منتفيةٌ عن الأب إذا كانت الحضانة له؛ لما ذكَرْناه في ما تقدَّم.
هي محاولةٌ لفَهْم روح ذاك الحكم الفقهيّ، والتعرُّف على مذاق الشارع الحكيم في تقرير بعض أحكامه، والتوفيق بين مصالح الأزواج والأولاد قَدْر المستطاع، والله من وراء القصد.