18 يوليو 2013
التصنيف : مقالات فكرية
لا تعليقات
2٬609 مشاهدة

السيّدة خديجة بنت خويلد الأسديّة، دروسٌ خالدة

1343588258341

نتقدَّم من رسول الله الأكرم، وآله الطاهرين، ولا سيّما بقيّة الله الأعظم

بأسمى آيات العزاء؛ لذكرى وفاة أمّ المؤمنين والمؤمنات

السيّدة خديجة الكبرى عليها السلام

(بتاريخ: الأربعاء 17 ـ 7 ـ 2013م)

مرّت بنا في العاشر من شهر رمضان ذكرى وفاة أمّ المؤمنين والمؤمنات خديجة بنت خويلد الأسديّة، زوجة النبيّ(ص) الأولى، والتي كانت لها في نفس النبيِّ(ص) مكانةٌ عالية، حتى أنّه لم يتزوِّج في حياتها غيرَها، وكانت مستحقّةً لهذا الإكرام والتبجيل.

فمَنْ هي أمُّ المؤمنين والمؤمنات السيّدة خديجة بنت خويلد الأسديّة؟

كانت السيّدة خديجة بنت خويلد من بني أَسَد. وكانت في جاهليتها ذاتَ غنىً ويُسْرٍ كبيرَيْن. وكان يتقدَّم لخِطْبتها الكثيرون من قومها، وهي تردُّهم واحداً تلو الآخر، بعد أن كانت قد عزمَتْ بعد زواجها الأوّل، الذي فشل، أن تتفرَّغ لتجارتها، وتترك الرجالَ وشأنَهم.

وهكذا انشغلت عن الزواج بتجارتها. ولم يُسمَعْ عنها طيلة تلك المدَّة أيُّ صفة سوءٍ، فكانت طيلة تلك الفترة مثالَ المرأة الطاهرة العفيفة، حتّى سُمِّيت في الجاهلية بـ «المرأة الطاهرة».

وفي إحدى السنوات اشتدَّتْ الفاقةُ في آل أبي طالب. وكان أبو طالب قد عجز عن السفر؛ لكِبَر سنِّه، فدعا ابنَ أخيه محمداً(ص)، وطلب منه أن يسافر في تجارةٍ لخديجة إلى الشام؛ عسى الله أن يفتح على يديه باباً للرزق.

وبالفعل وافقَتْ خديجة على خروجه بتجارتها؛ لما كانت تعرفه عنه من صدقٍ وأمانة. فانطلق(ص) بالقافلة إلى الشام. وببركته عادَتْ القافلةُ إلى مكّة وأرباحُها أضعافُ أضعاف الربح المعتاد.

وأُعجِبَتْ خديجةُ بهذه الشخصيّة الفريدة: خُلُقٌ رفيع، وإنسانيّةٌ عالية، وصفاتٌ حميدة، وشمائلُ كريمة. نعم حدَّثها بكلِّ هذا ميسرةُ، خادمُها الوفيّ، ورفيقُ محمد(ص) في سفره إلى الشام.

ومالَتْ إليه بقلبها، وتمنَّتْ لو يتقدَّم لخِطْبتها من أبيها أو عمّها، وباحت بسرِّها لأختها، واتفقتا على أن تذهب الأختُ إلى أبي طالب، وتطلب منه محمداً(ص) زوجاً لأختها «خديجة».

وبالفعل تقدَّمت إلى شيخ بني هاشم وزعيمها، فوافق على طلبها، وتحدَّث مع محمد(ص) في ذلك، فوافق أيضاً. وتمَّ الزواج بينهما، وهي في سنِّ الأربعين، وهو في سنٍّ لم تتجاوز الخامسة والعشرين.

ونحن في هذا المقام نحاول أن ندرس هذا الحَدَث؛ لنستفيد منه ما يُمكِنُنا، فهو تجربةُ نبيِّ البشريّة، وخيرِ خلق الله أجمعين، فنقول:

ليس عيباً ولا نقصاً أن تتقدَّم امرأةٌ إلى شابٍّ؛ لتطلب منه الزواج، طلباً مؤدَّباً، خالياً من أيِّ شبهةٍ أو نوايا سيِّئة؛ لأنّه لو كان هذا نقصاً أو عيباً لما تزوَّج رسولُ الله(ص) خديجةَ بعد أن أصابها العيبُ والنقص؛ بطلبها الزواج من رسول الله(ص).

وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن ابنة نبيِّ الله شعيب تخاطبه في أمر موسى(ع)، لمّا وصل إليهم هارباً من فرعون وملأه، فقال: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ﴾، فكان تفسيرُ قولها: «اسْتَأْجِرْهُ» أنْ جعله شعيب زَوْجاً لإحداهما بطلبٍ منها، ولم يكن ذلك نقصاً ولا عيباً.

صحيحٌ أنّ هذا يخالف العُرْف في عصرنا، ولكنَّه ليس عاراً، ولا عيباً، بل هو جائزٌ مباحٌ شرعاً. وهذا درسٌ عامّ.

أمّا ما يُظهر لنا عظمة السيّدة خديجة رضوان الله عليها، ومواقفها الإسلاميّة الخالدة، فهو:

أوّلاً: قبولُها، بل اختيارُها، لرسول الله(ص) زَوْجاً، بعد رفضها كلَّ مَنْ تقدَّم إليها من أصحاب المال والجاه والحَسَب والنَّسَب.

نعم، اختارَتْه مع فقره وقلَّة ذات يده. وهذا ما يُظهر لنا ترفُّعها عن المادّيّات، ونظرتها إلى عظمته الروحيّة، وأخلاقه الرفيعة، وصفاته الحميدة.

نعم، اختارَتْه، وهي الغنيّة الشريفة، ووضعَتْ بين يدَيْه كلَّ ما تملك من مالٍ وعبيد. وهذا ما أثار شيوخَ قريش، ممَّنْ تقدَّم لخِطْبتها فردَّتْه، أثارهم احتقارُها لهم، واحترامُها له(ص)، وأثارهم تمكينُها له من مالها، الذي ساعده كثيراً على نشر دعوته، وإبلاغ رسالة ربِّه، ومن هنا كان قوله(ص): «قام الإسلام على دعامتَيْن: مالِ خديجة؛ وسيفِ عليٍّ».

ومن هنا نستطيع أن نعرف كيف كان إيمان خديجة قويّاً راسخاً، لا يزلزله شيءٌ، على الرغم من سرعة إسلامها، فقد نزلت الدعوة يوم الاثنين، وآمنت بها خديجةُ يوم الثلاثاء، ومع ذلك فقد كان لها صلابةُ إيمانٍ، بحيث تبذل في سبيل دينها الجديد كلَّ ما تملك، وتضحّي في سبيله بكلِّ جاهها وعزِّها وسعادتها الدنيوية؛ رجاءَ السعادة الأبديّة يوم القيامة.

وثانياً: دعمُها لصمود المسلمين في (شِعَب أبي طالب)، حيث حاصَرَتْهم قريش، وقطعَتْ جميعَ العلاقات معهم، ومنعَتْ عنهم الطعامَ والشراب، طيلة ثلاث سنواتٍ. وكانت خديجة تبعث إليهم بالطعام، تشتريه من مالها، وباسمِها؛ لأنّها لم تكن من بني هاشم، وترسله مع ابن أخيها حكيم بن حزام بن خويلد. ولولا أموالُ خديجة لمات الجميع جوعاً.

وقد أثّرت مواقفُها هذه في نفس رسول الله(ص)، فكان يتحدَّث عن فضائلها بعد وفاتها كلّما تؤاتيه المناسبة، فأدركَتْ الغيرةُ مرّةً زوجتَه عائشةَ بنتَ أبي بكر، فقالت: هل كانت إلاّ عجوزاً من عجائز بني أَسَد، وقد أَبْدَلَكَ اللهُ بخيرٍ منها؟! فغضب النبيُّ(ص)، ثمَّ قال: «لا واللهِ، ما أبدَلَني اللهُ خيراً منها: آمنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدَّقَتْني إذ كذَّبني الناس، وواسَتْني بمالها إذ حرَمَني الناس، ووَلَدَتْ إذ عقِمْتُم».

نعم، ولَدَتْ له سيّدتَنا ومولاتَنا فاطمةَ الزهراء(ع)، ومَنْ مثلُ فاطمة؟!

ما تمنَّى غيرَها نسلاً ومَنْ

يَلِدْ الزهراءَ يزهَدْ في سواها

كما وَلَدَتْ له أيضاً القاسم، وعبد الله (الطاهر)، وزينب، ورقيّة، وأمّ كلثوم، كما هو الصحيح في ذلك، والله أعلم.

ولذا تأثَّر رسول الله (ص) بوفاتها، ولا سيّما أنّه فجع بعد ذلك بمدّةٍ وجيزة بوفاة عمِّه أبي طالب، وهو المدافع والمحامي عن النبيِّ(ص) ودعوته، فسمَّى ذلك العام (عام الحُزْن)، ولكنّه مع ذلك لم يجزَعْ، ولم يسقُطْ، بل تابع المسيرةَ، صابراً، محتسِباً ذلك عند الله، ممتثِلاً قولَه تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. وهذا درسٌ في الصبر نتعلَّمُه من رسول الله الأكرم(ص).

نعم، هذه هي السيّدة خديجة بنت خويلد، أمُّ المؤمنين والمؤمنات. وفي الزمان مثلُها قليلٌ قليلٌ جدّاً.



أكتب تعليقك