الاستخارة، مشروعيّتها وأنواعها
(بتاريخ: 29 ـ 3 ـ 2014م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (القصص: 68) (صدق الله العليّ العظيم).
هي الاستخارةُ، ظاهرةٌ شائعةٌ بين المؤمنين، حتَّى بلغت حدَّ الإفراط عند بعضهم، فلا يُقدِمون على عملٍ إلاّ بعد الاستخارة، شخصيّاً أو عند هذا العالِم أو ذاك.
فما هي الاستخارة؟ وما هي أنواعها؟ وهل من دليلٍ معتَبَر على مشروعيَّتها؟ أسئلةٌ كثيرةٌ نجيب عنها، ولكنْ بعد أن نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه.
1ـ ما هي الاستخارة؟
مشاهدينا الكرام، وكما جاء في هذا التقرير، فإنّ الاستخارةَ هي طلبُ الخير من الله عزَّ وجلَّ. وقد استُعملت عند العرب بمعنى الدعاء.
وليست الاستخارة من قبيل الاستقسام بالأزلام، ذاك العمل الذي كان شائعاً عند أهل الجاهليّة، وقد حرَّمه الله سبحانه وتعالى حيث يقول: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾ (المائدة: 3)؛ إذ ورد عن أهل البيت(عم) في تفسير هذه الآية أنّها إشارةٌ إلى ما كانت العرب تفعله في الجاهليّة، حيث يعمدون إلى جَزُور (جَمَل) فيذبحونه، ثمّ يقسِّمونه عشرَ حصص، ثمّ يجيلون السهام ويستخرجونها، فينال البعضُ من تلك الحصص بنسبة سَهْمه، وأمّا الذين ليس في سهمهم شيءٌ مقسوم فيدفعون ثَمَن ذلك الجَزُور. وعليه فالاستقسام بالأزلام هو نوعُ قمارٍ، ومن هنا كان تحريمُه.
وله معنى آخر يشبه بعض أنواع الاستخارة، ولكنَّ سياق الآية يؤيِّد المعنى الأوّل، حيث ورد تحريمه في سياق تحريم جملةٍ من المأكولات، وما يحصلون عليه من الاستقسام بالأزلام بهذا المعنى من المأكولات أيضاً.
وعليه فلا دليل على حرمة الاستخارة، فيمكن التمسُّك بأصالة الحِلّ. عِلْماً أنّه سيثبت بالدليل ـ كما سيأتي ـ مشروعيّة بعض أنواع الاستخارة بخصوصها.
ما هي أنواع الاستخارة؟
أيّها الأحبّة، يمكن أن نذكر للاستخارة أنواعاً ثلاثة، وهي:
1ـ الاستخارة الدعائيّة: وهي عبارةٌ عن الدعاء؛ طلباً للخير والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.
وقد دلَّت على جوازها عدّةُ روايات، منها: ما رُوي عن أبي عبد الله(ع): «إذا أراد أحدُكم شيئاً فليصلِّ ركعتين، ثمّ ليحمد الله، ولْيُثْنِ عليه، وليُصَلِّ على محمد وأهل بيته، ويقول: اللهمَّ إنْ كان هذا الأمر خيراً لي في ديني ودنياي فيسِّرْه لي وَاقْدِرْه، وإنْ كان غير ذلك فاصرِفْه عنّي». فسألتُه: أيَّ شيء أقرأ فيهما؟ فقال: «اقرأ فيهما ما شئتَ، وإنْ شئتَ قرأتَ فيهما ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، و﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾»([1]).
2ـ الاستخارة الاستشارية: وهي طلب الاختيار والمشورة من الله بوسائل مختلفةٍ، كالسُّبْحة أو الحَصى؛ أو الرِّقاع؛ أو المُصْحَف؛ أو بالعمل بما يقع في القَلْب.
أمّا الاستخارة بالعَدَد، أو بالسُّبْحة والحَصى، فإنّ رواياتها هي أضعفُ روايات الاستخارة، فلا يُعتَمَد عليها.
وأمّا الاستخارة بالرِّقاع فالروايات فيها ضعيفةٌ.
وأمّا الاستخارة بالمُصْحَف، بجميع طُرُقها، فلا دليلَ صحيحاً عليها.
وأمّا الاستخارةُ بالقَلْب أو العَزْم فهي أقوى الاستخارات الاستشاريّة، ولكنَّها أضعف من الاستخارة الدعائيّة. وقد دلَّت على جوازها عدّةُ روايات، منها: ما رُوي عن مولانا الرضا(ع)، وقد سأله أحدُ أصحابه فقال:إنِّي حملتُ متاعاً قد بار عليَّ، وقد عزمتُ على أن أصير إلى مصر، فأركب برّاً أو بحراً؟ فقال: «…، لا عليك أن تأتي قبر رسول الله(ص)، فتصلِّي عنده ركعتين، فتستخير الله مائة مرّة، فما عَزَمَ لكَ عملتَ به…»([2]).
وهناك استخارةٌ بالطيور، وهي ـ على حدِّ تعبير السيد محسن الأمين(ر) ـ نوعٌ من الحِيَل والشَّعْبَذة.
3ـ الاستخارة بالاستشارة، أو استخارة المشورة: وهي عبارة عن التوجُّه إلى الله، والدعاء، واستشارة العقلاء وأهل الخبرة والاختصاص، ثمَّ العمل بما يشيرون به.
وقد دلَّ على جوازها ومشروعيّتها ما رُوي عن مولانا الصادق(ع): «إذا أراد أحدُكم أمراً فلا يُشاوِرَنَّ فيه أحداً من الناس حتَّى يبدأ فيشاور الله»، قلتُ: وما مشاورةُ الله؟ قال: «يبدأ فيستخير الله فيه أوَّلاً، ثم يشاور فيه، فإنَّه إذا بدأ بالله تبارك وتعالى أجرى الله له الخِيرة على لسان مَنْ يشاء من الخَلْق»([3]).
متى تسوغ الاستخارة؟ وفي أيِّ الأمور؟
أمّا الاستخارة الدعائيّة فإنَّها تصحّ عند الحِيرة وعدمها، ويمكن اللجوء إليها في الأمور المهمّة والحقيرة.
بخلاف الاستخارة الاستشاريّة فإنَّها خاصّةٌ بموارد الحِيرة والشكّ؛ لِما جاء في أدلّتها من تعابير تشير إلى ذلك، من قبيل: «ضاق به الأمر»؛ «ممّا لا يدري يفعلها أم لا»؛ «لا يجد أحداً يشاوره كيف يصنع؟». وتختصّ بالمهمّات من الأمور، دون صغائرها.
وأمّا استخارة المشورة فمن الطبيعيّ أنها تختصّ بالمهمّات، دون الحقير من الأعمال. ويمكن إجراؤها عند الحِيرة وعدمها؛ لقوله(ص): «ما خاب مَنْ استخار، ولا ندم مَنْ استشار»([4]). وقول أمير المؤمنين عليّ(ع): «مَنْ شاور الرجال شاركها في عقولها»([5]).
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ جملةً من العلماء يُوصُون بعدم اللجوء إلى الاستخارة (والمراد الاستخارة بالسُّبْحة والرِّقاع والمُصْحَف) إلاّ عند التحيُّر والشكّ؛ إذ لا ينبغي للإنسان، الذي كرَّمه الله وفضَّله وميَّزه عن سائر المخلوقات بعقله، أن يعطِّل هذه الطاقة الخلاّقة.
هل للاستخارة (الدُّعائيّة أو الاستشاريّة) طريقةٌ خاصّة؟
نعم، للاستخارة، ولا سيّما الاستشاريّة منها، طرقٌ مأثورة خاصّة، فلا ينبغي تجاوزها إلى غيرها، وإلاّ كانت شيئاً آخر غير الاستخارة الشرعيّة التي نتحدَّث عنها.
ومن غريب ما شاهدناه في عصرنا هذا أنَّه صار للاستخارة برنامجاً على الهاتف المحمول، فتقرأ الدعاء، ثمّ تضغط زرّاً، وتأتيك الآيةُ، والنتيجةُ بتفصيلٍ هو أشبه ما يكون بالتنبُّؤ واستكشاف الغيب، عِلْماً أنّ التفؤُّل بالقرآن الكريم منهيٌّ عنه في الروايات. ولعلَّ المراد منه استكشاف الغيب بالقرآن. فالاستخارة ليست لاستكشاف الغيب، وإنَّما هي لطلب الخير، وسؤال الله التوفيق للمصلحة، والإبعاد عن المفسدة. وعليه يتَّضح حالُ مَنْ ينبئك عند الاستخارة بما سيكون، فهذا لا مصداقيّة له، وتجربةٌ واحدةٌ مقابل عشرات التجارب لا تُثْبتُ صَحَّة ما يُدْلُون به.
أيُّها الأحبّة، بعد أن عرفنا حكمَ الاستخارة، وأنواعَها، ومواردَها، قد يَرِدُ في الذِّهْن هذا السؤال: ماذا نفعل لو كانت الاستخارة عَكْسَ رغبتنا؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه.
2ـ ماذا تفعل لو كانت الاستخارة عَكْسَ رغبتك؟
مشاهدينا الكرام، في هذا التقرير ثمّةَ جوابٌ ذكيّ، حيث أبرز التنافي بين الحِيرة، وهي مورد الاستخارة الاستشاريّة ـ وهي الشائعة اليوم بين الناس ـ، ووجود الرغبة في طَرَف معيَّن. فإنْ كنتَ محتاراً حقّاً فهذا يعني أنّه لا رغبة لك في طَرَفٍ أكثر من الطرف الآخر، وإنْ كنتَ ترغب في أحدهما أكثر من رغبتك في الآخر فهذا يعني أنّك لستَ في حِيرة، ولا يَحْسُن أن تستخير.
ويمكن أن يُقال في الجواب عن هذا السؤال: عندما تعزم على الاستخارة، سواءٌ كانت بالدعاء ثمّ المضيّ في العمل؛ أم بالتعرُّف على اختيار الله من خلال السُّبْحة أو الرِّقاع أو المُصْحَف أو ما يُلقى في القَلْب، أم بما يصدر عن لسان أحد المخلوقين بقُدرة الله، فهذا يعني أنّك تؤمن بأنّ الله عزَّ وجلَّ هو المدبِّر والميسِّر والموفِّق والعالِم بأسرار الأشياء، ولذلك تلجأ إليه لتحديد ما فيه المصلحة ممّا فيه المفسدة. فإذا ما خرجَتْ النتيجةُ فما معنى أن لا ترغب فيها، ولا ترضى بها؟ أَفَهل زال إيمانُك المتقدِّم؟!
ومن هنا يُطرح موضوع تكرار الاستخارة، فهل يجوز تكرار الاستخارة على موضوعٍ واحد؟
أمّا الاستخارة الدعائيّة فيجوز تكرارُها؛ إذ هي محضُ دعاءٍ بالتوفيق لما فيه الخير والمصلحة، وتكرارُ الدعاء محبوبٌ على الدوام.
وأمّا الاستخارة الاستشاريّة فإنْ كانت بانتظار ما يُلقى في القلب، ولم يُلْقَ فيه شيءٌ؛ أو كانت بانتظار خروج الآية في المُصْحَف، ولم يفهَمْ منها شيءٌ، ولو بمساعدةِ غيره، فحينئذٍ لا مانع من تكرارها.
أمّا لو حصَّل جواباً فقد ارتفع التحيُّر، وبالتالي لا تشرع الاستخارة الاستشاريّة في غير موارد الحِيرة.
وأمّا إذا تغيَّر الموضوع، كما لو مضى زمانٌ معتدّ به، أو طرأت حيثيّات جديدة، فلا مانع من تكرار الاستخارة.
وبعض الناس يحاولون تغيير الموضوع بالتصدُّق، فإذا خرجت الاستخارة مَنْعاً من الفعل، تصدَّقوا، ثمّ أعادوا الاستخارة برجاء أن تكون المفسدة قد ارتفعت؛ بسبب الصَّدَقة.
وهذا غيرُ صحيح؛ إذ الصَّدَقة لا تعدو كونها مقتضياً لدفع البلاء والمفسدة، وليست علَّةً تامّة.
وعليه فالاستخارة الثانية ـ حين لا يجوز التكرار ـ لا تلغي الأولى، وبالتالي لا حِيرة بعدهما؛ إذ لا أَثَرَ للثانية أصْلاً، وعليه فالاستخارة الأولى رفعَتْ الحِيرة، وينبغي أن يكون المعوَّل عليها.
هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ تكرار الخيرة ليس حراماً بالمعنى الفقهيّ، ولكنَّه لا أَثَرَ له.
وعادةً ما تكون الاستخارة على الفِعْل، ولكنْ عُرفت بين بعض المؤمنين الاستخارة على التَّرْك. ولا دليلَ على شرعيّة مثل هذه الاستخارة؛ إذ النصوص كلُّها تدلّ على مشروعيّة الاستخارة على الفِعْل.
وأمّا النيابة في الاستخارة فلا حديثَ صريحاً في مشروعيّتها.
وقد يُقال: إنّها من باب الوكالة.
والجواب: الوكالة مفهومٌ عقلائيّ، يستخدمه البَشَر في معاملاتهم، فهل يصحّ لنا إسقاطه على علاقة العَبْد بربِّه، فأوكِّل مَنْ يُخاطبه عنِّي؟!
فضلاً عن أنّ أحداً من أهل البيت(عم) وأصحابهم لم يفعلها، فلم يُعهَد في سيرتهم(عم) أنّهم كانوا يتوكَّلون في الاستخارة عن أحدٍ من أصحابهم.
إذاً الاستخارة الدُّعائيّة والاستشاريّة بما لهما من بُعْدٍ قُرْبِيّ توسُّليّ دُعائيّ لا تصحّ فيهما الاستنابة.
ولعلَّ للمباشرة خصوصيّةً في هذا المقام، إذ يتوجَّه صاحب الحاجة الملهوف إلى الله بقلبه وكلِّ جوارحه، راكعاً ساجداً، لاهِجاً بذكره، متعرِّضاً بحاجته، راجياً لفضله ورحمته، فيسمع الله نداءَه واستغاثتَه، فيمُنُّ عليه بواسع لطفه ورأفته. وأين هذا من شخصٍ يحضُر عند عالمٍ أو يهاتفه طالباً للاستخارة، وربما يكون غارقاً في المعصية والإِثْم والمُنْكَر.
3ـ هل الإنسان ملزَمٌ بنتيجة الاستخارة؟
مشاهدينا الكرام، بناءً على ثبوت واقعٍ وحقيقة للاستخارة الاستشاريّة فإنَّها لا تعدوكونها إرشاداً إلى المصلحة، وليست تكليفاً، وعليه يجوز مخالفتها، وإنْ كان في ذلك سوءُ أدبٍ مع الله.
وكذلك الحال في الاستخارة بالمَشُورة.
وأمّا الاستخارة الدُّعائيّة والاستخارة بما يُلقى في القَلْب فإنَّ مخالفتَها إنَّما تكون بالإعراض عن أَصْل العَمَل، وإلاّ فإنَّ ما يحدث للمستخير رغبةٌ فيه هو مصداقٌ لما أُلْقِيَ في قَلْبه، وهو مصداقُ ما يسَّرَه الله له، وبالتالي فلا مخالفةَ في الالتزام به.
والسلام عليكم ـ مشاهدينا الكرام ـ ورحمة الله وبركاته.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) روى الكليني في (الكافي 3: 472، باب صلاة الاستخارة، ح6)، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن حديد، عن مرازم قال: قال لي أبو عبد الله(ع)….
([2]) روى الكليني في (الكافي 5: 256، باب ركوب البحر للتجارة)، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن أسباط قال: كنتُ حملتُ معي متاعاً إلى مكّة، فبار عليَّ، فدخلتُ به المدينة على أبي الحسن الرضا(ع)، وقلتُ له: إنّي حملتُ متاعاً….
([3]) روى أحمد بن محمد البرقي في (المحاسن 2: 598، باب الاستخارة، ح1)، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة قال: سمعتُ أبا عبد الله(ع) يقول:….
([4]) رواه الطبراني في (المعجم الأوسط 6: 365)، قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن عثمان بن حمّاد بن سليمان بن الحسن بن أبان بن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري: حدّثنا عبد القدّوس بن عبد السلام بن عبد القدوس: حدّثني أبي، عن جدّي، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله(ص):….
([5]) نهج البلاغة 4: 41.