مجلس عزاء حسيني: زينب الحوراء(ع) منقذة الثورة الحسينيّة
(17 ـ 5 ـ 2014م)
هي زينب بنت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) وبنت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(ع)، فهي حفيدة النبيّ الأكرم محمد(ص)، وأخت سيدَيْ شباب أهل الجنّة الحسن والحسين(عما).
ويكفيها ذلك فخراً، وإنْ لم يكن للنسب في الإسلام قيمةٌ ذاتيّة؛ لأنّه ليس باختيار المرء، وإنّما هو وضعٌ يجد نفسَه فيه فجأةً، وإنّما القيمة كلُّ القيمة للإيمان والعمل الصالح الذي يعكس مستوى ذلك الإيمان.
فها هو رسول الله الأكرم(ص) يلتفت إلى ابنته فاطمة ويقول: يا فاطمة، يا بنت محمد، اعملي لما عند الله؛ فإنّي لا أُغني عنكِ من الله شيئاً.
وها هو الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين(ع) يلتفت إلى ذاك الرجل الذي جاءه مستغرِباً تضرُّعَه وخشوعَه بين يدي الله؛ بحجّة أنّ له قرابةً من رسول الله(ص) تؤمنُه يوم القيامة، فقال: دَعْ عنك ذكر جدّي وأبي، يُدخل الله الجنّة مَنْ أطاعه ولو كان عبداً حبشيّاً، ويدخل النار مَنْ عصاه ولو كان سيداً قرشيّاً.
ومن هنا كان لزاماً أن نستعرض جملةً من صفات هذه السيدة الجليلة الطاهرة، التي تربَّت في بيت الوحي، وترعرعت في كَنَف الرسالة، لتكون الأسوة والقدوة لنا جميعاً، نساءً ورجالاً.
هي العالمةُ التي أدركت قيمة العِلْم، ولا سيّما ما يرتبط بالتعاليم الدينيّة. فقد نَهَلَتْ من معين أمّها الزهراء(ع) وأبيها وأخويها(عم) ما جعلها عالمةً ربّانيّةً، قد استقَتْ العِلْم وعَمِلَتْ به، ثمّ أخذَتْ في نشره بين المؤمنات، فكانت تقيم حلقات الدرس الدينيّ لهنَّ في المدينة المنوّرة.
وهذا، أيّها الأحبّة، يفتح لنا الباب للحديث عن أهمّيّة طلب العِلْم ونشره، في زمنٍ كثرت فيه وسائل اللهو، وتضييع الوقت باللعب واللغو من القَوْل والفِعْل. فانصرف الناس عن طلب العِلْم، وتركوا الاهتمام بالتعرُّف على أمور دينهم ودنياهم ممّا ينتفعون به في أُولاهم وأُخراهم.
بينما نقرأ في ما رُوي عن إمامنا جعفر بن محمد الصادق(ع) أنّه قال: لوددتُ أنّ السياطَ على رؤوس شيعتي حتَّى يتفقَّهوا في الدين.
وفي خطبةٍ لأمير المؤمنين(ع) يقول: ما أخذ الله على الجُهّال أن يتعلَّموا حتَّى أخذ على العلماء أن يعلِّموا. فهما تكليفان: تكليفٌ للجاهل أن يتعلَّم؛ وتكليفٌ للعالِم أن يتصدّى للتعليم والإرشاد، حيث تقتضي الحاجة، ويوجد الطالبُ الراغب.
وهي الزاهدة في مباهج هذه الحياة الفانية، التي لم تُغرِها كثرةُ الأموال التي كانت تصل إلى أبيها في فترة خلافته، فما امتدَّتْ يدُها إلى شيءٍ منها، كما كانت تفعل بنات الخلفاء والأمراء والملوك، ولا زِلْنَ.
نعم، هي حادثةٌ واحدة تنقلها كتب السيرة في هذا المجال، حيث طلبت مولاتُنا زينب(ع) من خازن بيت المال عِقْداً من لؤلؤٍ تتزيَّن به في يوم عيد الأضحى، وذلك على نحو العارية المضمونة المردودة (الاستعارة)، فرآه أمير المؤمنين(ع) عليها؛ فعرفه، فسألها عنه، فأخبرته بما فعلت، فاستدعى الخازن، وعاتبه، ثمّ قال:أولى (آه) لابنتي لو كانت أخذَتْ العقد على غير عاريةٍ مضمونة مردودة لكانت إذن أوّل هاشميّة قُطعت يدها في سرقة، فقالت(ع): يا أمير المؤمنين، أنا ابنتُك، وبضعةٌ منك، فمَنْ أحقُّ بلبسه منّي؟ فقال لها أمير المؤمنين(ع): يا بنت عليّ بن أبي طالب، لا تذهبِنَّ بنفسِك عن الحقِّ، أَكُلُّ نساء المهاجرين تتزيَّن في هذا العيد بمثل هذا؟
هكذا ربَّاها أبوها على أن تكون العَادلة التي لا تميِّز نفسها عن الآخرين، وأن لا تمدَّ عينَيْها إلى ما ليس لها بحقٍّ. وكانت نِعْم التلميذة الفَطِنة، ففازَتْ في الدنيا والآخرة، ونالَتْ رضا الله في كلِّ حياتها.
وهي الصابرة، التي شاهدَتْ بأمّ عينَيْها ما جرى على آل رسول الله(ص) من بعده، وكيف اغتصبوا الخلافة قَسْراً من أبيها أمير المؤمنين(ع)، وسكت عن حقِّه؛ لا جُبْناً ولا خوفاً، ولا طلباً للسلامة الشخصيّة أو العلاقات الاجتماعيّة؛ وإنَّما سكت عن حقّه لوصيّةٍ من رسول الله؛ ولأنّ سلامة الإسلام تقتضي منه السكوت.
وهكذا شهدت وفاةَ أمّها الصدّيقة الطاهرة، وهي غاضبةٌ على مَنْ ظلم زوجها حقَّه في الخلافة، وغصب حقَّها في فَدَك.
ثمّ عايَنَتْ أباها مخضَّباً بدمائه على يد أشقى الأوّلين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم المرادي.
ثمّ حضرت شهادة أخيها الإمام الحسن(ع) مظلوماً مسموماً بيد زوجته الخبيثة جعدة بنت الأشعث.
وصولاً إلى ما عايشَتْه ورافقَتْه من أحداث ثورة أخيها الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، بَدْءاً من خروجه من المدينة المنوَّرة، رافضاً البيعة ليزيد، الفاسق الفاجر، متوجِّهاً تلقاء مكّة، حاملاً معه عياله وأطفاله، وقد سُئل(ع) عن ذلك فأجاب: شاء الله أن يراني قتيلاً، وشاء أن يراهنَّ سبايا.
وكأنّي بالحسين(ع) يستهدف من اصطحابه لنسائه، وعلى رأسهنَّ الحوراء زينب(ع)، أمرَيْن اثنين:
أوّلاً: التأكيد على الدور المهمّ للمرأة المسلمة في قضايا المجتمع كافّةً. فصحيحٌ أنّ المرأة لا يجب عليها القتال بالسيف، وخوض غمار الحروب العسكريّة، ولكنّها قادرةٌ أن تكون عوْناً للرجال في ساح الوغى، تقدِّم لهنّ ما تستطيعه من خدمات التمريض وسَقْي العطاشى و…، وصولاً إلى ما يمكنها القيام به لو كانت نتيجة المعركة العسكريّة لغير صالح الرجال، فإنَّه يمكنها أن تكون صوت الثورة الصادح بالحقّ والدفاع عن مبادئ النهضة أمام الطغاة والمستبدّين.
وهذا ما قامت به مولاتُنا زينب(ع) خيرَ قيامٍ، فكانت أهمّ وأفضل من أيِّ وسيلةٍ إعلاميّة ترافق الثورة، وتواكب حركتها ومسيرتها. لقد شكَّلت الصوتَ العالي الذي هزَّ عروشَ الطغاة، ودكَّ حصونَهم، بعد أن لم يعبأوا بتلك المعركة العسكريّة غير المتكافئة؛ نتيجة جهل الناس، وخوفهم وجبنهم، وطمعهم، فكانت قلوبُهم مع الحسين(ع)، وسيوفُهم عليه ومع بني أميّة. وقُتِل الحسين(ع)، وكان يمكن لثورته أن تنتهي هاهنا، ولكنَّ قيادة زينب(ع) للثورة أعطاها بُعْداً إضافيّاً جديداً. وهكذا أخذ الناس يستفيقون، ويدركون حجم الكارثة والمصيبة التي حلَّت بالمسلمين، وهو الوعيُ الذي أسَّس لثوراتٍ متعاقبة، أَنْهَتْ الوجودَ الخبيث لدولة بني أميّة المشؤومة.
وثانياً: الإيحاء لكلِّ مَنْ ودَّعهم في المدينة، أو لقيهم بعد ذلك في الطريق أو في مكّة وغيرها من المنازل التي مرَّ بها، أنّه لم يخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا ظالماً ولا مُفسِداً، وأنّه لا يريد عَمَلاً عسكريّاً، وإنّما فُرِض عليه ذلك الأمر فَرْضاً. فقد أصرُّوا على أخذ البَيْعة منه بالقُوَّة والإكراه، وهو ما رفضه الحسين(ع)؛ لأنّه عملٌ غير جائزٍ. فالبَيْعة والانتخاب والتصفيق والتهليل للقاتل والظالم والسارق والفاسد حرامٌ، ولا يجوز لمَنْ يؤمن بالله واليوم الآخر أنْ يُقدِم عليه، تحت أيِّ مسمّى، وفي أيِّ ظَرْفٍ.
فكأنِّي به(ع) يقول للناس كافّةً: إنّ هؤلاء القوم قد أصرُّوا على أخذ البَيْعة، ولم يسمحوا لي بالامتناع عنها، فها أنا ذا أخرج من مدينة جَدِّي وحَرَم رسول الله(ص)، حاملاً عيالي وأطفالي وأخواتي، مهاجِراً في أرض الله الواسِعة؛ حفاظاً على ديني، لا أطلب شيئاً آخر، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أَوْلى بالحقّ، ومَنْ ردَّ عليَّ أصبر حتّى يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين.
وقد رَدَّ عليه القومُ دعوتَه، وأبَوْا إلاّ تنازُلاً وتسليماً. وحاشا لابنِ عليٍّ وفاطمة أن يرضى بذُلٍّ وهَوان:
طَمِعَتْ أنْ تَسومَه القومُ خَسْفاً |
وَأَبى اللهُ والحُسامُ المنيعُ |
|
كيف يَلْوي على الدَّنِيَّةِ جِيداً |
لِسِوى اللهِ ما لواهُ الخُضوعُ |
|
فَأَبى أنْ يعيشَ إلاّ عَزيزاً |
أَوْ تَجلَّى الكِفاحُ وهُوَ صَريعُ |