المال والبنون: نعمةٌ أو نقمة؟
(بتاريخ: 16 ـ 5 ـ 2014م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ (الكهف: 46) (صدق الله العليّ العظيم).
هي الدنيا بما فيها من ملذّاتٍ وشهوات تُغري الإنسان وتأسِره، وتُوقِعُ به في شِباكها، فيعمى عن التفكُّر في مصيره ومآله.
وأبرزُ هذه الملذّات المالُ والنساءُ والبنون، حيث يقول جلَّ وعلا: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).
ورُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال: «حُبِّب إليَّ من الدنيا: النساءُ؛ والطِّيبُ؛ وقُرَّةُ عيني في الصلاة»([1]).
فأيُّ هذه الملذّات أفضلُ من الآخر؟ هذا ما نجيب عنه، ولكنْ بعد أن نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه.
1ـ أيُّهما أفضل: المال أم البنون؟
مشاهدينا الكرام، وكما جاء في التقرير، لا يستطيع الإنسان أن يُطْلِق الحُكْمَ بأفضليّة المال أو البنين؛ فإنَّ لكلٍّ منهما مكانةً ومساهمةً في تلبية حاجات هذه الدنيا، ولا تتيسَّر من دونهما.
وكم هي كثيرةٌ الحاجات الإنسانيّة الملحّة التي لا يمكن تحصيلها إلاّ من خلال المال والاقتدار المادّيّ؟!
كما يُعتبر البنون والبناتُ امتداداً طبيعيّاً لحياة الإنسان، واستمراراً مهمّاً لمشاريعه وتطلُّعاته ونهجه في الحياة.
ومن هنا نجد بعضَ الأنبياء يطلبون من الله الوَلَد، ولو على كِبَر سنِّهم.
فها هو نبيُّ الله زكريّا(ع) يسأل الله الوَلَد الصالح: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنْ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 38 ـ 40)
وفي آيةٍ أخرى: ﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً﴾ (مريم: 2 ـ 6).
وفي آيةٍ ثالثة: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ ( الأنبياء: 89 ـ 90).
وخليلُ الله إبراهيم(ع) لم يرزقه الله بالوَلَد من زوجته سارة، حتَّى تزوَّج من هاجر، فوَلَدت له إسماعيل(ع)، ثمّ منَّ الله على سارة بأنْ حَمَلت بإسحاق(ع).
وها هو أمير المؤمنين(ع) يخاطب وَلَدَه الإمام الحسن(ع) فيقول: «ووجدتُك بعضي، بل وجدتُك كُلِّي، حتَّى كأنَّ شيئاً لو أصابكَ أصابني، وكأنَّ الموتَ لو أتاكَ أتاني، فعناني من أمركَ ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبتُ إليكَ مستظهِراً به إنْ أنا بقيتُ لكَ أو فَنيتُ»([2]).
وعلى هذا الأساس نجد أنّ الإسلام قد شجَّع على طلب الرزق والمال، وأرشد إلى بعض الأعمال التي من شأنها أن تدرّ على الإنسان العامل مالاً وفيراً، كما في التجارة، حيث رُوي عن مولانا جعفر بن محمد الصادق(ع) أنّهقال: «مَنْ طلب التجارة استغنى عن الناس وإنْ كان مُعيلاً؛ إنَّ تسعة أعشار الرزق في التجارة»([3]).
وقد حثَّ الإسلام على الإنفاق في سبيل الله، ووعد بمضاعفة المال أضعافاً كثيرة، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 261).
ووعد المستغفرين بأنّه سيمدُّهم بالأموال والبنين، فقال في ما جاء على لسان نبيِّ الله نوح(ع) يدعو قومه: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾ (نوح: 10 ـ 12).
هذا وقد أضاف الله سبحانه وتعالى المال إلى نفسه فقال: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ (النور: 33).
وهذا كلُّه يكشف أنّه ليس للإسلام موقفٌ رافضٍ لتحصيل المال أو إنجاب الأطفال، بل الإكثار منهما، كيف وقد رُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال: «تزوَّجوا بِكْراً وَلوداً، ولا تزوَّجوا حسناءَ جميلةً عاقراً؛ فإنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة»([4])؟!
ولكنْ كيف نفسِّر بعض الآيات التي توهِم أنّ طلب المال والبنين أمرٌ مذمومٌ؛ لأنّهما فتنةٌ، حيث قال عزَّ من قائل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (التغابن: 14 ـ 15)؟ فهل المال والبنون نعمةٌ أم نقمة؟ هذا ما نتعرَّف إليه، ولكنْ بعد أنْ نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى ما جاء في هذا التقرير، فلنتابِعْه.
2ـ المال نعمةٌ أم نقمة؟
مشاهدينا الكرام، اتّفقت أغلبُ الاستصراحات في هذا التقرير على أنّ المال في حدِّ ذاته يمثِّل نعمةً إلهيّة كبرى، ولكنَّ ابتداء النقمة والغَضَب والعذاب إنّما يكون في آليّة تحصيل هذا المال، وحين يُستعمَل هذا المال في ما لا يرضي اللهَ عزَّ وجلَّ.
﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، أي امتحانٌ واختبارٌ لإيمانكم والتزامكم. فها أنتم تدَّعُون الإسلام والإيمان، فهل يتوثَّق هذا الادّعاء بالعمل الصالح في كلِّ ساحةٍ تتحرَّكون فيها في هذه الحياة، وكلُّها تحتاج إلى اقتدارٍ مادّيّ، يوفِّره المالُ؛ أو اقتدارٍ اجتماعيّ، يؤمِّنه الوَلَدُ والأهل والعشيرة؟
المالُ نعمةٌ، وطلبُه محبوبٌ، ولكنْ بشرط أنْ تكون النيّةُ سليمةً، وهو ما سيؤثِّر على اختيار سُبُل الحصول عليه، فلا يطلبه من طريقٍ حرام، كالرِّبا، والسَّرِقة، والرَّشْوة، وبيع ما حرَّم الله، كالمِيتة والخَمْر؛ وما إلى ذلك من سُبُلٍ محظورة شَرْعاً، وإنَّما يسعى لتحصيله ممّا أحلَّه الله وارتضاه، كالزراعة، والصناعة، والتجارة، وصيد البرِّ والبحر، وما إلى ذلك.
وبشرط أن يتمّ إنفاقه في الخَيْرات الدنيويّة والأخرويّة؛ في قضاء حوائج المؤمنين، وفي التوسعة على الأهل طَلَباً للعَيْش الكريم، وفي مساعدة الفقراء والمساكين، وفي بناء اقتصادٍ قويّ، ومجتمعٍ سليم.
فها هو نبيّ الله سليمان(ع) يدعو ربَّه أن يُؤْتيَه مُلْكاً عظيماً، بما يتوفَّر عليه من مالٍ وجاه وقوّة: ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (ص: 35). واستجاب له ربُّه؛ فذلك طموحٌ مشروع لا محذورَ فيه.
وها هو رجلٌ يقول لسيِّدنا ومولانا أبي عبد الله الصادق(ع): «واللهِ، إنّا لنطلب الدنيا، ونُحبُّ أنْ نؤتاها، فقال: تحبّ أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصِلُ بها، وأتصدَّق بها، وأحجُّ وأعتمر، فقال(ع): ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلبُ الآخرة»([5]).
إذن ليس حبُّ المال وطلبُه أمراً ممنوعاً في الإسلام، وإنّما الممنوع هو الإفراط في هذا الحبّ، حتَّى يتحوَّل حبّاً أعمى، يصدّ المرء عن كلّ خيرٍ، ويصرفه عن كلّ إحسانٍ: ﴿كَلاَّ بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً﴾ (الفجر: 17 ـ 20).
ويدفعه إلى الطغيان، والإفساد، وارتكاب المحرَّمات: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6 ـ 7).
ويدعوه إلى طلب الزيادة في المال، ولو من طريق الحرام، ليتباهى بما مَلَك، ويتفاخَر به على الضعفاء والفقراء من الناس: ﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً﴾ (الكهف: 34 ـ 35).
ويمنعه من ذكرِ الله المُنْعِم المُفْضِل المحْسِن الرازق، فيظنّ أنّه هو الذي جنى هذا المال بعِلْمه وقوَّته، وله أن يتصرَّف فيه كيف يشاء، وتلك هي زلّةُ قارون وسقطتُه: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾ (القصص: 76 ـ 78).
وهكذا هو حال طلبِ الوَلَد وحبِّه، فهو قرّةُ عَيْنٍ لأبوَيْه وللعائلة أجمع: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ﴾ (الفرقان: 74).
وحين شاهدت امرأةُ فرعون (آسية) موسى(ع) خاطبَتْ زوجَها، وهي التي لم تنعَمْ بوَلَدٍ، فقالت: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ (القصص: 9).
إذن فالممنوع هو التكاثُر في الأموال والأولاد، وذلك هو طلبُ الدنيا المذموم: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20).
ويتبيَّن ذلك في قول الله عزَّ وجلَّ، ذامّاً ما كانت عليه فئةٌ من الناس في الجاهليّة: ﴿أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 1 ـ 2).
وبعد أنْ عرفنا أنّ المال والبنين نعمةٌ إلهيّةٌ كبرى، لمَنْ أحسن الاستفادة منهما كما يحبّ اللهُ ويرضى، يحضر السؤال: كيف يسخِّر المسلمُ نعمةَ المال والبنين لتحصيل رضا الله؟ هذا ما نجيب عنه، ولكنْ بعد أنْ نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه.
3ـ كيف يسخِّر المسلم نعمة المال والبنين؟
مشاهدينا الكرام، لقد أصبح واضحاً، وذُكر في التقرير أيضاً، أنَّ المالَ والوَلَد يمثِّلان نعمةً إلهيّة كُبْرى، وهي تتطلَّب قَدْراً من المسؤوليّة في التعامل معها.
فالمسؤوليّة تجاه المال أن يطلبه من حِلِّه، دون الطُّرُق الحرام.
ثمّ إنّ عليه أن يتحرَّى إنفاقَه في مواضعِه التي أرادها الله.
فللسائل والمحروم نصيبُهما، سواءٌ عبر الصدقات الواجبة، كالخمس والزكاة؛ أم الصدقات المستحبّة.
وللمجاهدين في سبيل الله نصيبُهم، دَعْماً لهم بالمال، وهو نوعٌ من الجهاد لا يقِلُّ أهمّيّةً عن الجهاد بالنفس.
ولأعمال البِرّ كافّةً نصيبُها، وذاك هو الإنفاق في سبيل الله، والله يضاعفُه لمَنْ يشاء.
وأمّا المسؤوليّة تجاه الوَلَد فتتجلَّى في أمرَيْن اثنين:
1ـ تربيةٍ دينيّة سليمة، تشكِّل اللَّبِنَة الأساس لعلاقته بربِّه، علاقة العَبْد بسيِّدِه وخالقه ورازقه ومدبِّر شؤونه كلِّها؛ ولحياته كفردٍ في هذا المجتمع البشريّ الكبير، فينشأ على احترام الآخرين، وحبّ الخير، وإقامة العَدْل، ورفض الظلم والباطل.
2ـ تعليمٍ عصريّ، يجعل منه عنصراً فاعلاً في المجتمع، فلا يكون كَلاًّ على غيره، سواءٌ كانوا أفراداً أو أُمَماً.
وفي ختام هذا الحديث أجِدُ لِزاماً وضروريّاً الإشارة إلى ما هو شائعٌ في بعض البيوت والعائلات والبلاد من التمييز بين البنين والبنات؛ فتراهُم يهلِّلون فَرَحاً لمقدَم الصَّبِيّ، وأمّا الأنثى فيستقبلون ولادتها بفتورٍ وخجل، على طريقة: «الحمد لله، الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه».
وهذا أيّها الأحبّة سلوكُ أهل الجاهليّة، كما حدَّثنا القرآن الكريم عنه، فقال: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (النحل: 58 ـ 59)، ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ (الزخرف: 17).
وهذا سلوكٌ ظالِمٌ وغيرُ مرضيٍّ لله؛ فاللهُ هو الذي أنعم عليكَ بهذه النِّعْمة، فهل تعترض على نعمته؟! وهو الذي ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ (الشورى: 49 ـ 50).
وأكثرُ ما يثير الشَّفَقة أنْ ترى امرأةً (والدةً، أو جدّةً، أو خالةً، أو عمّةً، أو أختاً، أو…) تكره ولادة البنات، وتنسى أنَّها كانت ذات يومٍ كهذه المولودة حديثاً، فهل تكره نفسَها؟!
أو ذاك الشابّ (أباً، أو جدّاً، أو خالاً، أو عمّاً، أو أخاً، أو…) الذي يكره ولادة البنات، وهو لا يُطيق صَبْراً عن أنثىً يتَّخذها زوجةً يسكن إليها، وتُؤْنِس وحدتَه، ويتبادلان الحبَّ والمودَّة والرحمة، فلو لم تولَد بناتٌ فكيف تكون له زوجةٌ؟! أيُّ جهلٍ هذا؟!
﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (البقرة: 201)، ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً﴾ (الفرقان: 74).
والسلام عليكم ـ مشاهدينا الكرام ـ ورحمة الله وبركاته.
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه الصدوق في الخصال: 165، قال: حدَّثنا أبو أحمد محمد بن جعفر البندار الشافعي بفرغانة قال: حدَّثنا أبو العباس الحمادي قال: حدَّثنا صالح بن محمد البغدادي قال: حدَّثنا عليّ بن الجعد قال: أخبرنا سلام أبو المنذر قال: سمعت ثابت البناني ـ ولم أسمع من غيره ـ يحدِّث عن أنس بن مالك، عن النبيّ(ص).
([2]) نهج البلاغة 3: 38، وصيّةٌ لولده الحسن(ع).
([3]) رواه الكليني في الكافي 5: 148، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد الزعفراني، عن أبي عبد الله(ع).
([4]) رواه الكليني في الكافي 5: 333، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد وسهل بن زياد جميعاً، عن الحسن بن محبوب، عن العلاء بن رزين، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر(ع)، مرفوعاً.
([5]) رواه الكليني في الكافي 5: 72، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله(ع).