عاشوراء، دروس العزّة والإباء
(بتاريخ: الجمعة 24 / 10 / 2014م)(بتاريخ: الجمعة 7 / 10 / 2016م)
كَمْ يا هلالَ مُحَرَّمٍ تُشْجينا |
ما زالَ قوسُكَ نَبْلُهُ يَرْمِينا |
|
كلُّ المصائبِ قَدْ تَهُونُ سوى التي |
تَرَكَتْ فؤادَ محمَّدٍ مَحْزُونا |
أيُّها الأحبَّة المؤمنون الموالون، عظَّم الله أجورنا وأجوركم بمصابنا بسيِّدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين(ع)، فها هي عاشوراء تطلّ علينا هذا العام، وسرعان ما ستفارقنا، ويتعلَّم منها أقوامٌ فيفوزون، ويضيِّع فائدتَها وبركتها آخرون فيَهْلَكون، فتعالَوْا نتعلَّم بعض الدروس من عاشوراء سيِّد الشهداء أبي عبد الله الحسين(ع)، لعلَّنا نكون ممَّنْ سمع فوعى، ففاز في الآخرة والأولى.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾(التوبة: 36).
محرَّم وعاشوراء في التاريخ
عاشوراء في التاريخ تعني اليوم العاشر من شهر محرَّم الحرام، الذي هو أحد الأشهر الاثني عشر في السنة القمريّة، التي اعتبرها الإسلام رسميّاً في أحكامه وشعائره، من صيامٍ وإفطار وحجّ وغيرها.
وأسماء هذه الشهور عربيّةٌ قديمة منذ ما قبل الإسلام. وقد اعتبر العرب أربعةً من هذه الأشهر حُرُماً؛ تبعاً للشرائع السماويّة السابقة، فيتركون فيها الحرب والقتال والغزو والغارات وسفك الدماء، لينصرفوا إلى شؤونهم التجاريّة والزراعيّة والأدبيّة.
ولقد كان احترام العرب لهذه الشهور الأربعة: رجب وذو القعدة وذو الحجّة ومحرَّم، تقليداً دينيّاً؛ فلمّا ضعف الوازع الديني عند العرب الجاهليّين ضعف هذا التقليد، وصاروا يعملون بالحيلة فيها، فيستبدلون بعضَها بغيرها إذا اقتضت حاجتُهم ذلك، كأنْ يحاربوا في رجب، ويقعدوا عن القتال في شعبان، عِوَضاً عن ذلك. وهذا ما يُسمِّونه بالنَّسِيء الذي حرَّمه الإسلام، وندَّد به، في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾(التوبة: 37).
إذن فشهرُ محرَّم هو من الأشهر المحترمة منذ القِدَم، وأمّا عاشوراء فهو اليوم العاشر من ذلك الشهر، وكانوا يعتبرونه أقدس أيّام السنة وأكثرها خَيْراً وبركةً، يطعمون فيه الفقراء، ويتفقَّدون فيه المساكين والأرامل واليتامى، ويعملون فيه الخَيْر.
محرَّم وعاشوراء مع الأمويّين
هكذا كانوا يتعاملون مع هذا الشهر ومع ذلك اليوم إلى أن جاء الأمويّون إلى الحكم في العالم الإسلاميّ، فهتكوا حرمة هذه الأشهر في جملةٍ ما انتهكوا من المحرَّمات، وارتكبوا في الشهر المحرَّم، وفي يوم عاشوراء خاصّةً، أبشع جريمة عرفها التاريخ، وذلك بقتلهم سبط النبيّ(ص)، وابن فاطمة وعليّ(عما)، سيّد الشهداء أبا عبد الله الحسين(ع)، وذبحوا أطفاله، وشرَّدوهم، وسَبَوْا نساءَه من بلدٍ إلى بلد، يتصفَّح وجوههنَّ القريب والبعيد، وليس معهنَّ من حماتهنَّ حَمِي، ولا من رجالهنَّ وَلِي، وهُنَّ بناتُ رسول الله(ص).
وهكذا تبدَّل بفعلهم هذا معنى المحرَّم وعاشوراء، وتحوَّل مفهومهما عند المسلمين إلى أيّام حدادٍ وأسىً وحزن، وصار المحرَّم موسماً خاصّاً لإحياء ذكرى هذه الكوكبة الطاهرة، من العترة والأصحاب، الذين أقدموا على تحمُّل المآسي العِظام؛ دفاعاً عن الحقّ والعَدْل وحقوق الإنسان.
لماذا نحيي ذكرى عاشوراء؟
ولو سأل سائلٌ: لماذا نستمرّ في إحياء ذكرى هؤلاء الأبطال؟
فالجواب: لأنّ ذكرى شهداء كربلاء وأبطال العاشر من المحرَّم عام 61 للهجرة، واستعراض مواقفهم، تلقِّن الشباب دروس العزّة والكرامة والإباء، وتقوّي في أنفسهم روح التضحية والفداء في سبيل الله، سبيل الحقّ والعَدْل.
ألا ترى كيف يعتبر الخبراء أنّ نشر أنباء الأبطال والقادة المبرَّزين، أصحاب المواقف والمبادئ، أكبرُ خدمةٍ اجتماعيّة وتربويّة تقدَّم للمجتمع؟ فلننظر إلى العادات الجارية عند كافّة الشعوب والأمم، حيث يحتفلون بين حينٍ وآخر بذكرى ثوراتهم الوطنيّة، وبأبطالهم الثائرين، وقادتهم المحرِّرين، ويقيمون لهم التماثيل، ويرفعون صورهم في الشوارع والساحات العامّة؛ تخليداً لذكراهم. فلماذا يفعلون ذلك؟
إنّهم يعلِّلون ذلك بأنّه أداءٌ لحقِّهم وتقديرٌ لصنيعهم، هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ في ذلك تشجيعٌ وتشويق للشباب للاقتداء بهم، والسَّيْر على مبدئهم، والقيام بمثل أعمالهم.
يقول أهل الخبرة في هذا المجال: لولا هذه الذكريات لماتت روح التضحية في نفوس الناس، وسادت روح الأنانيّة والفرديّة.
فإذا كان الأمر كذلك أليس يجدر بثورة الحسين(ع) وموقفه يوم عاشوراء أن يُشاد بذكراها في كُلِّ زمانٍ ومكان؟ فأيُّ ثورةٍ وطنيّة في العالم بلغت، في عمقها وشمولها ونبل أهدافها وبركة نتائجها، مبلغ ثورة الحسين(ع)؟ إنّها لم تخدم الشيعة فحَسْب، ولا المسلمين فقط، بل خدمت الإنسانيّة والحقّ العالميّ. وعليه فالمحرَّم وعاشوراء مدرسةٌ يتلقّى الناس كلُّهم فيها الدروس العمليّة في التضحية والفداء لتأييد الحقّ وإعلاء كلمته، واستنكار الباطل وهزيمته، وكلّ ذلك من سيرة أبي الأحرار الحسين بن عليّ بن أبي طالب(ع).
فهذه أبواب المدارس الحسينيّة مفتوحةٌ، فادخلوها بسلامٍ آمنين. إنّ مدرسة الحسين(ع) يجب أن تُفتح في كلِّ مكانٍ، وذكراه يجب أن تُقام في كلِّ زمانٍ، تماماً كما صوَّرها ذلك الشاعر، حيث قال:
كأنَّ كلَّ مكانٍ كربلاء لدى |
عيني وكلّ زمان يوم عاشورا |
محاولاتٌ للنَّيْل من مدرسة عاشوراء
ولقد حاول أعداء الصلاح والإصلاح، ولا زالوا، وسيبقَوْن، أن يخلقوا بعض المبرِّرات لكي يتَّخذوا من أيّام المحرَّم أعياداً ومناسبات فرح وسرور لا أساس لها في الواقع.
ومن ذلك: زعمهم أنّ هجرة النبيّ الأكرم(ص) إلى المدينة المنوَّرة كانت في أوّل يوم من المحرَّم، فهم لذلك يتَّخذون من ذلك اليوم عيداً، وأسمَوْه (عيد الهجرة)، مع العلم أنّ هجرة النبيّ(ص) كانت في أوائل شهر ربيع الأوّل، حَسْب إجماع المؤرِّخين؛ فضلاً عن أنّها لا تستلزم فَرَحاً.
وقالوا: إنّ يوم عاشوراء يومٌ مقدَّس مبارَك، ولذلك اتَّخذوه عيداً يظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون فيه الجديد وثياب الزينة، ويقدِّمون فيه التهاني، مع العلم أنّ القُدْسيّة والبركة لا يستلزمان التعيُّد، وإظهار الزينة، وتبادل التهاني.
وعلى أيّ حال لا يوجد أيُّ مبرِّر لاتّخاذ أيّام المحرَّم أو بعضها أعياداً بعد أن وقعَتْ فيها تلك المأساة الخالدة، والكارثة الإنسانيّة العظمى، التي راح ضحيّتها العشرات من ذرّيّة رسول الله(ص) وأبنائه وأهل بيته الطاهرين، في تلك المجزرة الرهيبة التي لم يسبق لها نظيرٌ.
عاشوراء في نظر أهل البيت(عم)
ورُوي في الحديث عن مولانا عليّ بن موسى الرضا(ع) أنّه قال: «إن المحرَّم شهرٌ كان أهل الجاهليّة يحرِّمون فيه القتال، فاستُحِلَّت فيه دماؤنا، وهُتكَتْ فيه حرمتنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهِب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرْعَ لرسول الله(ص) حرمةٌ في أمرنا. إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذلَّ عزيزنا، بأرض كربٍ وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء. فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون؛ فإنّ البكاء يحطّ الذنوب العظام. ثم قال(ع): كان أبي [أي مولانا موسى بن جعفر الكاظم](ع) إذا دخل شهر المحرَّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين(ع)»([1]).
السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين، الذين بذلوا مُهَجَهم دون الحسين(ع)، وعلى مَنْ تبعهم في هذا العصر، وبذلوا مُهَجَهم دفاعاً عن الإسلام والمستضعفين، في وجه أمريكا وإسرائيل وأعوانهما.
والسلام عليكم، أيُّها الأحبّة، ورحمة الله وبركاته، وآخر دعوانا ان الحمد لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه الصدوق في الأمالي: 190 ـ 191، عن جعفر بن محمد بن مسرور(ر)، عن الحسين بن محمد بن عامر، عن عمِّه عبد الله بن عامر، عن إبراهيم بن أبي محمود، عن الرضا(ع).