التقوى، خيرُ زادٍ ليوم المعاد
(الجمعة 31 / 10 / 2014م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه وبليغ خطابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 102).
التقوى مفهومٌ إسلاميّ كبير، ومتعدِّد الجوانب، وقد حثَّ الله سبحانه وتعالى عليه في أكثر من آيةٍ من القرآن الكريم، واعداً لمُمارِسِيه بالمحبّة والرِّضوان. فما هي حقيقة هذا المفهوم؟
معنى التقوى
التقوى من الاتِّقاء، وهو التحرُّز من شيءٍ يُخاف منه على النَّفْس من الهَلَكة.
ومن هنا انطلق الفقهاء والعلماء في تعريفها ـ تبعاً لما يروُونه عن أهل البيت(عم) ـ بأنّها «أنْ لا يفقدك الله حيث أمرك وأن لا يجدك حيث نهاك»([1])؛ لأنّ في ممارسة هذا الأمر معصيةً لله سبحانه وتعالى، وتجرّؤاً عليه، بحيث يستحقّ الفاعل له العقاب الإلهيّ الموعود، وهو من الأمور التي يُخاف منها؛ لأنّ «القصاص هناك شديد ، ليس هو جَرْحاً بالمُدى ، ولا ضَرْباً بالسياط ، ولكنّه ما يستصغر ذلك معه»([2])، كما رُوي عن مولانا أمير المؤمنين(ع).
كما أنّه سبحانه وتعالى دعا إلى اتِّقاء ذلك اليوم، والتحضير له، وهذا ما يدلُّنا على عَظَمة خطر ذلك اليوم، حيث يقول عزَّ من قائلٍ: ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (البقرة: 281)، وقال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ﴾ (الحجّ: 1 ـ 2)، وقال أيضاً: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 197)، وقال أيضاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾ (الحشر: 18 ـ 20).
التقوى في القرآن والروايات
وهكذا نقرأ العديد من الآيات التي تدعو إلى تقوى الله، والخوف منه.
وهكذا لو استقرأنا خطب رسول الله(ص) والأئمّة الأطهار(عم) من بعده فإنّنا قلَّما نجد خطبةً تخلو من الدَّعْوة إلى التَّقْوى، حتّى أنّ أمير المؤمنين عليّاً(ع) في وصيَّته الأخيرة لولدَيْه الحسن والحسين(عما) يفتتح كلامه، الذي أراده خطاباً لنا، لا خطاباً مقتَصِراً عليهما فحَسْب؛ لأنّهما يعرفان ما سيقول، وسيطبِّقان ذلك؛ لأنّهما المعصومان، فيقول: «أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تَبْغَيا الدنيا وإنْ بَغَتْكما ، ولا تأسفا على شيءٍ منها زُوِي عنكما ، وقُولا بالحَقِّ ، واعْمَلا للأَجْر ، وكونا للظالم خَصْماً، وللمظلوم عَوْناً»([3]).
فكانت التقوى أولى وصاياه. وهذا ما يؤكِّد أهمِّيَّتها في حياة الإنسان المسلم ومصيره.
هذا وقد أوضح لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ما أعدَّه للمتَّقين، كلُّ ذلك ترغيباً في التَّقْوى وحثّاً على الالتزام بها، فها هو يقول: ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ (النحل: 128)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف: 35)، وفي آيةٍ ثالثة: ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾ (النور: 52)، وفي آيةٍ رابعة: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ (الزمر: 73 ـ 74).
ومَنْ أوفى من الله عهداً، ومَنْ أصدق من الله وَعْداً، والله لا يخلف الميعاد، وها هو يَعِدُنا بالجنّة والفَوْز، فهل نكون ممَّنْ يهيِّئ للجنَّة والفوز سببهما الرئيس، وهو التَّقْوى.
ما هي موارد التَّقْوى؟ وكيف يصدق على المَرْء أنّه من المتَّقين؟
التَّقْوى، أيُّها الأحبَّة، تشمل كلَّ جوارح الإنسان؛ فللقلب تقواه، وللعقل تقواه؛ وللسان تقواه؛ ولليد والرجل والعين والأذن تقواها.
فتقوى قلبك أنْ لا تَدَعَه ينبض بحبّ عدوٍّ لله؛ لأنّ قلبَك عرشُ الله، فلا تدخل إليه مَنْ لا يحبُّ اللهَ، ولا يحبُّه اللهُ، واعْلَمْ أنّ مصيرك، سواءٌ إلى جنّةٍ أو إلى نار، سيكون مع مَنْ كنتَ تحبّ وتتولّى: ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾(الإسراء: 71). إمامُك في الدنيا هو إمامُك في الآخرة، وخليلك في الدنيا هو خليلك في الآخرة، فاعْرِفْ كيف تختار إمامك، وكيف تتَّخذ خليلك.
وتقوى عقلك أنْ لا يقودك عقلُك لتنفتح على ظالمٍ في ظُلْمه، بل انفتح عليه لتخرجه من الظلام الذي هو فيه؛ فإنْ لم يستجِبْ فاسحَبْ منه تأييدك، واحجِبْ عنه دعمَك.
أمّا المؤمنون والمخلصون والمجاهدون فإنّ عليك أن تقف معهم؛ لتدافع عنهم، وتساعدهم حَسْب طاقتك، وتوفِّر لهم إمكانيّة البقاء والاستمرار، فإنّك بذلك تكون التقيَّ في موقفك بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل، التقيّ الذي لم يُؤْثِر على الجنَّة شيئاً، واختارها مع أنّ طريقها مليءٌ بالأشواك والعَقَبات. ومَنْ يُؤْثِرون الجَنَّة على ما سواها قليلٌ قليلٌ؛ لأنّ الأكثريّة تبهرهم زخارف الدنيا وبهارجها، فيطلبونها على حساب دينهم وآخرتهم، فيصبحون ممَّنْ خسروا الآخرة، ولم يربحوا الدنيا. ولله درُّ الشاعر يصوِّر حالهم فيقول:
نرقِّعُ دنيانا بتمزيقِ دينِنا |
فلا دينُنا يبقى ولا ما نرقِّعُ |
وأمّا تقوى اللسان فأن لا تستعمله في ما حرَّم الله، من غيبةٍ أو نميمة أو فتنةٍ أو استهزاء بالله وبدينه وبرسوله أو كذب على الله ورسوله وأهل بيته(عم)، وأن لا تستعمله في كلام فُحْشٍ أو سباب أو سخرية أو ما إلى ذلك ممّا حرَّمه الله عزَّ وجلَّ. وأن لا تكتم ما أنزل الله من البيِّنات، وأن لا تسكت عن بدعةٍ، ولا تقرّ منكراً، بل اصدَحْ بالحقّ، واْمُرْ بالمعروف.
وأمّا تقوى الأذن فأن لا تستمع بها إلى ما حرَّم الله سبحانه وتعالى من غناءٍ وموسيقى ولهو حديث، وغيبةٍ أو نميمة أو فتنة أو استهزاء بالله وبدينه وبرسوله وبأوليائه والمؤمنين، وأن تصغي إصغاءً واعياً لكلّ ما يرضي الله من دروسٍ فقهيّة، ومواعظ أخلاقيّة، ومحاضرات تربوية، وقراءات قرآنيّة: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(الأعراف: 204).
وتقوى العين كفُّ بصرها عن الحرام، وتوجيهه إلى ما ينفع الناس، ويصلك بربّك، من قراءة كتابِ عِلْمٍ تنتفع به، وتنفع الآخرين، وقراءة قرآنٍ تنفتح به على ربِّك، لتشعر به يخاطبك ويعلِّمك، وقراءة دعاءٍ تتقرَّب به إلى ربِّك، فتسأله ما تحتاج إليه، وهو القائل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾(غافر: 60).
وأمّا تقوى رجلك فأنْ لا تسعى بها إلى غير الله سبحانه وتعالى لتطوف على ظالمٍ هنا ومستكبرٍ هناك، بل اجعَلْ طوافَك وسعْيَك لله عزَّ وجلَّ، تطوف ببيته، وتسعى لطاعته، مهما كلَّفك ذلك من مشقّةٍ وتعب. وبعبارةٍ مختَصَرة: أن لا تقدِّم رجلاً، ولا تؤخِّر أخرى، حتّى تعلم أنّ ذلك لله رضا.
وأمّا تقوى يدك فأنْ تحفظها عن ما يُدَنِّسها من سَرِقةٍ وقَتْلٍ وضَرْب بغير حقّ، لتستعملها في ما أوجبه الله عليك من جهادٍ في سبيله، وكدٍّ في طلب الرزق، تحفظ بهما نفسَك وأهلَك من الذُّلِّ والهَوان والمَوْت والهَلاك.
نسأل الله أن يوفِّقنا للتقوى في كلّ مجالات الحياة، إنّه أرحم الراحمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه ابن فهد الحلّي في عدّة الداعي: 285، معلَّقاً عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه سُئل عن تفسير التَّقْوى؟ فقال(ع): أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك.