27 مارس 2015
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬375 مشاهدة

التولّي والتبرّي، فوزٌ وسعادة في الدارَيْن

2015-03-27-منبر الجمعة-التولي والتبري، فوز وسعادة في الدارين1

(الجمعة 27 / 3 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

تمهيد

هما فرعان من فروع الدين، قد يُظَنّ لأوّل وهلةٍ أنّهما متضادّان متعاكسان، ولكنَّهما في الحقيقة متكاملان، يكمِّل أحدهما الآخر، ولا يكتمل إيمان المرء إلاّ بهما معاً. وهذان الفرعان هما: التولّي؛ والتبرّي. وكلُّ واحدٍ من هذين الفرعين نوعان: واجبٌ؛ ومحرَّم. فما هو المقصود من ذلك كلِّه؟

معنى الولاء وأقسامه

أمّا الولاء أو التولّي فله عدّة معانٍ، منها: النصرة، والحبّ، والانقياد الكامل.

وكلّ واحدٍ من هذه المعاني الثلاثة منه ما هو واجبٌ ومنه ما هو محرَّم.

الولاء الواجب

أمّا الولاء الواجب فهو الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، حيث يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55)، والجزاء هو الفلاح والنجاح والغَلَبة والأمن والاطمئنان، حيث يقول جلَّ وعلا: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْغَالِبُونَ﴾ (المائدة: 56)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس: 62).

الولاء المحرَّم

وأمّا الولاء المحرَّم فهو الانقياد لهوى النفس الذي يدعو إلى التكبُّر والترفُّع على الناس، حيث يقول عزَّ من قائلٍ: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النور: 11).

ومن الولاء المحرَّم أيضاً تولّي القوم المنحرفين الفاسقين الذين غضب الله عليهم، وقد توعَّد اللهُ مَنْ يوالي هؤلاء بالعذاب الشديد، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (المجادلة: 14 ـ 15).

وقد نهى الله سبحانه وتعالى ـ والنهي ظاهرٌ في التحريم ـ عن تولّي الكافرين الذين يضمرون للمؤمنين الكُرْه والحقد والبغضاء، ويعزمون على قتالهم متى سنحت لهم الفرصة، وواتتهم الظروف، فقال تقدَّست أسماؤه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (المائدة: 51)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ (المائدة: 80).

ومن الولاء المحرَّم الولاءُ للشيطان، باتّباع أوامره ونواهيه، التي هي معاكسةٌ تماماً لأوامر الله ونواهيه. وقد اعتبر الله تبارك وتعالى مَنْ يوالي الشيطان وينقاد له من الخاسرين خسراناً مبيناً، فقال جلَّ وعلا: ﴿وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً﴾ (النساء: 119).

عاقبة الولاء المحرَّم

ثمّ يحدِّثنا الله عن جزاء مَنْ يقوم بمثل هذا الولاء المحرَّم، فيعتبره ممَّنْ قد جعل نفسه تحت سلطة الشيطان وهيمنته، وأخرجها من تحت سلطة الله وتسديده ورحمته، فيقول: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ (النحل: 98 ـ 100).

ولا يتوقَّف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ مَنْ يقوم بمثل هذا الولاء المحرَّم يعيش الذلّ والحقارة والهشاشة والضعف والهوان، وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً﴾ (النساء: 139)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: 41).

هذا هو الولاء المحرَّم بقسمَيْه: الواجب؛ والمحرَّم. فما هما قسما البراءة؟

معنى البراءة وأقسامها

والبراءة تعني الهَجْر، والخِذْلان، وعدم المودّة. والبراءةُ قسمان: واجبةٌ؛ ومحرَّمة.

البراءة الواجبة

وهي أنواعٌ كثيرة، وأهمُّها:

البراءة من الأصنام والأوثان وكلّ ما يعبده ويلتزمه الناس من دون الله، سواءٌ كان حجراً أو بشراً أو عادةً أو خُلُقاً. فكلُّ عملٍ لا يوافق أوامر الله ونواهيه هو عملٌ ينبغي التبرُّؤ منه، والابتعاد عنه، وإدانته, وفي ذلك يقول عزَّ وجلَّ: ﴿قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ (الأنعام: 19)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (يونس: 41)، وفي آيةٍ ثالثة: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ (هود: 35).

البراءة من المشركين والكافرين؛ باعتبارهم أعداءً لله سبحانه وتعالى، والموالاةُ حبٌّ ونصرة والتزام، وليس من صفات المؤمن أن يحبّ أعداء الله، أو أن ينصرهم؛ فالمؤمن قدوته رسول الله(ص)، وهو بريءٌ من المشركين: ﴿وَأَذَانٌ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (التوبة: 3)، أي رسولُه بريءٌ منهم أيضاً.

وحيث حدَّثنا الله عن خليله إبراهيم(ع) اعتبر براءته من أبيه؛ لإصراره على الكفر، نوعاً من الإنابة والتقرُّب إلى الله، فقال جلَّ جلاله: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ (التوبة: 114).

البراءة المحرَّمة

وهي البراءة من الله ورسوله وشريعته وأوليائه؛ لأنّ في مثل هذه البراءة إعلانٌ للخروج عن طاعة الله، وكلُّ مَنْ يخرج عن طاعة الله فهو يمارس عملاً محرَّماً سوف يُعاقَب عليه في نار جهنَّم. وقد أكَّد الله سبحانه وتعالى حرمة هذه البراءة حين أجاز لمَنْ يخضع لضغوطٍ لا تُطاق تريد منه أن يرجع عن معتقده الإسلامي أن يتلفَّظ بالكلمات التي توحي بتراجعه المطلوب، بشرط ان يكون قلبُه ثابتاً على الحقّ ومطمئنّاً بحقيقة الإيمان. وهذا ما حصل مع الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر، الذي أُكره وأُجبر على التلفُّظ بما يسيء إلى النبيّ(ص)، ولمّا أُفرج عنه أسرع إلى النبيّ(ص) يسأله عمّا يفعله كفّارةً لخطيئته، فأخبره(ص) بنزول قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل: 105 ـ 106)، ثمّ قال(ص) له: «يا عمّار، إن عادوا فعُدْ فقد أنزل الله عزَّ وجلَّ عذرَك، وأمرك أن تعود إنْ عادوا»([1]).

ولاية عليٍّ(ع): سلمٌ لمَنْ سالمكم، وحربٌ لمَنْ حاربكم

وهذا المعنى أكَّده أمير المؤمنين(ع) بعدما انتشر في البلاد شتمُ على المنابر، وصار مَنْ لا يشتمه معرضاً لملاحقة السلطات الأمويّة، فقال(ع) لأصحابه، والجيل القادم من شيعته: «أما إنّه سيظهر عليكم بعدي رجلٌ رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد. فاقتلوه، ولن تقتلوه. ألا وإنّه سيأمركم بسبّي؛ والبراءة منّي. فأمّا السبّ فسبّوني؛ فإنّه لي زكاةٌ، ولكم نجاةٌ؛ وأمّا البراءة فلا تتبرّؤوا منّي؛ فإنّي ولدْتُ على الفِطْرة، وسبَقْتُ إلى الإيمان والهِجْرة»([2]).

والتزم بعضُ أصحابه هذه الوصيّة، فلم ينحرفوا، ولم يعدلوا، ولم يتبرَّؤوا منه، برغم كلّ ما لاقَوْه من العذاب والاضطهاد والتنكيل.

وإنّ أروع مَثَلٍ يُضرَب لمَنْ وفى بهذه الوصيّة هو حجر بن عديّ الكندي، هذا الصحابيّ الجليل الذي عرف فضل عليٍّ(ع) ومكانته، وسمع مقالته، عرض عليه معاوية بن أبي سفيان أن يتبرّأ من عليٍّ(ع) أو يُقتَل، فرفض البراءة، وأمر به إلى القتل، فطلب من الجلاّد أن يقدِّم ولده أمامه؛ ليُقتَل بين يدَيْه، وتعجَّب الحاضرون من قساوة قلب هذا الأب، فقال لهم: ليس الأمر كما تظنّون، بل هو عكس ذلك تماماً، فأنا أحبّ ولدي، ولا أريد له أن يكون بعيداً عنّي يوم القيامة، وأنا أخشى إنْ قُتلتُ قبله أن يرقَّ قلبُه، وتضعف عزيمته، فيتراجع عن ولاية عليّ بن أبي طالب(ع) فيكون من أصحاب النار. لذا أطلب أن يُقتَل أمامي؛ لنلتقي جميعاً في الجنّة مع أمير المؤمنين(ع). وهكذا قدَّم فلذة كبده شهيداً بين يدَيْه، ولم يتبرّأ من عليٍّ وليِّ الله.

اللهُمَّ، إنّا نسألك إيماناً لا أجل له دون لقائك، أحْيِنا ما أحيَيْتَنا عليه، وتوفَّنا إذا توفَّيْتَنا عليه، وأبْرِئ قلوبَنا من الرياء والشكِّ والسُّمْعة في دينك، أنّك أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) راجِعْ ما رواه الكليني في الكافي 2: 219، عن عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، قال: قيل لأبي عبد الله(ع): إن الناس يروون أن عليّاً(ع) قال على منبر الكوفة: أيها الناس، إنكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثم تدعون إلى البراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي، فقال: ما أكثر ما يكذب الناس على عليٍّ(ع)، ثم قال: إنما قال: إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثم ستدعون إلى البراءة منّي، وإنّي لعلى دين محمدٍ، ولم يقُلْ: لا تبرّؤوا منّي. فقال له السائل: أرأيت إنْ اختار القتل دون البراءة؟ فقال: واللهِ، ما ذلك عليه [والأصحّ: إليه]، وما له إلاّ ما مضى عليه عمّار بن ياسر، حيث أكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيه: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾، فقال له النبيّ(ص) عندها: يا عمّار، إن عادوا فعُدْ فقد أنزل الله عزَّ وجلَّ عذرَك، وأمرك أن تعود إنْ عادوا.

([2]) نهج البلاغة 1: 105 ـ 106.



أكتب تعليقك