التفكُّر والتدبُّر، عبادة الأحرار
(الجمعة 24 / 4 / 2015م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
تمهيد
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 191).
هي دعواتٌ كثيرة للنظر والتدبُّر، للتأمُّل والتعقُّل والتفكُّر، لا تكاد تخلو منها صفحةٌ من القرآن الكريم. ففيمَ نتدبَّر؟ وفيمَ نتفكَّر؟
هو الحثُّ على التدبُّر والتفكُّر في كلّ شيء خَلَقه الله سبحانه وتعالى، ممّا تدركه الأبصار، وتناله الأسماع، وتحيط به العقول: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحجّ: 46).
وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ﴾ (الأعراف: 179).
﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 191).
وحين نشهد هذا الاهتمام الكبير بالدعوة إلى التفكُّر والتدبُّر فمن الطبيعيّ أن نتساءل: ما هي فائدة التفكُّر؟
ما هي فائدة التفكُّر؟
إنّ التفكُّر والتدبُّر يقودنا إلى الإيمان بعظمة الله وقوَّته وقُدْرته وسلطته، فنعرف من أين؟ وفي أين؟ وإلى أين؟ ونتعرَّف على النِّعَم التي وهبنا إيّاها اللهُ سبحانه وتعالى؛ لتكون عَوْناً لنا في طاعته وعبادته، وعلى رأسها العَقْل، وهو النِّعمة الكبرى، التي ميَّز الله بها بني آدم، وعلى أساسها يحاسبُهم يوم القيامة، فلا يجوز تعطيلُها بحالٍ من الأحوال.
أيُّها الأحبَّة، التفكُّر المطلوب والمحبوب هو التفكُّر في خَلْق السماوات بما فيها من كواكب تتحرَّك وتدور، فتنتج نظاماً زمنيّاً دقيقاً، حيث الليل والنهار، والفصول الأربعة، وظواهرَ كونيّةً رائعة، كما في الكسوف، والخسوف.
هو التفكُّر في الرياحِ الهادئة الطيِّبة تارةً؛ والعاصفة أخرى؛ لأهدافٍ وغايات شتّى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ (الحجر: 22)، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 57)، ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 81)، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الروم: 46).
هو التفكُّر في السَّحابِ الثِّقال بالماء الطاهر المطهِّر المبارَك الفُرات الثَّجّاج الغَدَق، ينزل شراباً للناس والحيوان، وسَقْياً للزَّرْع، ﴿فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجّ: 63)، ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ (النحل: 65)، ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ﴾ (الزمر: 21)، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ (الرعد: 17).
ويترافق ذلك مع البرقِ والرَّعد في توليفةٍ إلهيّة دقيقة ذاتِ حِكْمةٍ بليغة، فسُبْحان الخالق المدبِّر: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ (الرعد: 12 ـ 13).
ويبقى للسماء حديثُها الخاصّ، وحكايتُها المستمرّة إلى ما شاء الله، في فصولٍ متلاحقة، مع أجيالٍ متعاقِبة، إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها.
وهي الدعوة القرآنيّة للتفكُّر في قصصِ الأمم الغابرة التي عاشَتْ فوق هذه الأرض بكلِّ ما فيها من أحداثٍ، وما يمكن استخلاصُه من عِبَرٍ: ﴿فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 176)، ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي البِلاَدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ (ق: 36 ـ 37).
ثمّ التفكُّر في خَلْق الحيوان، وما تحويه حياتُها وأجسادُها من أسرار وخصائص: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ (الغاشية: 17 ـ 21).
وفي خَلْقِ الإنسان، هذا الكائن العاقل ذو الإرادة والشعور، يتقلَّب في أطوارٍ مختلفةٍ، ليخرج بعد ذلك في أبهى صورةٍ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (غافر: 67)، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21).
وفي خَلْقِ الجبال والأنهار والبحار، وما أودعه الله فيها من النِّعَم والكُنوز، لتكون عَوْناً لخليفته في أرضه إذا أحسن الاستفادةَ منها: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَاناً﴾ (النحل: 81)، ﴿وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ (فاطر: 27)، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾ (النبأ: 6 ـ 7)، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ (النمل: 88).
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرعد: 3).
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 14).
ويبقى التفكُّرُ في ما بعث اللهُ به أنبياءَه(عم) من كتبٍ وتشريعاتٍ وأحكام ومبادئ هو الأهمُّ والأنفع: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44)، ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر: 21)، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82)، ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24).
وهكذا تنكشف لنا أهمّيّة التدبُّر في كتاب الله العزيز؛ لاستجلاء معانيه، واستكشاف أسراره وخباياه، والوقوف على إعجازه وتفوُّقه على كلِّ كتاب، سواءٌ في ما طرحه من قضايا العقيدة أو أحكام الشريعة، أو أخبر به من قصص الأمم الغابرة، أو ضربه من أمثالٍ، أو ألقى به من حِكَمٍ ومواعظ. بعيداً عن كلِّ دعوةٍ ـ ولو كانت مبطَّنةً ـ إلى تغييب كتاب الله من المشهد، وإخراجه من الساحة. فالحَكَمُ والمرجع والمعيار والمقياس هو كتابُ الله الكريم في ما يتيسَّر للناس فهمُه منه، وهو كثيرٌ، بالقياس إلى ما يحتاج إلى تفسيرٍ أو تأويل.
وإذا كان التفكُّر في الخَلْق مُهمّاً إلى هذه الدرجة فهل يصل إلى مستوى أن يكون عبادةً لله عزَّ وجلَّ؟
هل التفكُّر في الخلق عبادة؟
قد يُقال: إنّ التفكُّر في خلق الله عبادةٌ.
وقد جاء في الرواية عن رسول الله(ص) أنّه قال: «تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من قيام ليلةٍ»([1]).
وفي الحديث عن مولانا جعفر بن محمد الصادق(ع) أنّه قال: «تفكُّر ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنةٍ»([2]).
وفي الخبر عن صادق آل محمد(ع) أنّه قال: قال أمير المؤمنين(ع): «[إنّ] التفكُّر يدعو إلى البِرِّ والعمل به»([3]).
وليس في هذه الروايات ما يدلّ على أنّ التفكُّر عبادةٌ، وإنْ كان له من الأَجْر والثواب ما يفوق ما يحصل عليه الإنسان من الصلاة والصيام والحجّ والخمس والزكاة في سنةٍ كاملة.
فبالتفكُّر والتدبُّر يتعرَّف الإنسان على خالقه وصفاته، ويميِّز بين الخير والشرّ، ويتحسَّس نِعَم الله عليه، وهو ما يستوجِب الشُّكْر والطاعة والعبادة. إذن هو طريقٌ موصِلٌ إلى العبادة، وهو مقدِّمةٌ لازمة للعبادة الواعية، لعبادة الأحرار، عبادة الأنبياء والأوصياء والأولياء والصالحين، كما كان يعبِّر أميرُ المؤمنين(ع): «إلهي ما عبدتُك خَوْفاً من نارك، ولا طَمَعاً في جنَّتك، بل وجدتُك أَهْلاً للعبادة فعبدتُك»([4]).
وقال(ع): «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار؛ وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد؛ وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار»([5]).
وبالتفكُّر يدرك الإنسان حقيقةَ نفسه، وأنّه ليس سوى مخلوقٍ ضعيف، وكائنٍ محتاج على الدوام، وأنّه خُلِق من التراب في أصل خِلْقته، ثمّ من ماءٍ مهين (نطفةٍ قذرة)، ومآلُه إلى جيفةٍ نتنة، فعلامَ يتكبَّر ويتجبَّر ويُفسد ويَطغى؟!
إذن التفكُّر مقدِّمةٌ موصِلةٌ إلى العبادة والتقوى والوَرَع.
إلاّ أنّه جاء في الخَبَر عن إمامنا أبي عبد الله الصادق(ع): «أفضلُ العبادة إدمانُ التفكُّر في الله، وفي قدرته»([6]).
وفي المرويّ الصحيح عن مولانا أبي الحسن الرضا(ع) أنّه قال: «ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم، إنّما العبادةُ التفكُّر في أمرِ الله عزَّ وجلَّ»([7]).
وهذا تصريحٌ واضحٌ بأنّ التفكُّر في الله وفي قدرته وفي أمره وخَلْقه لهو العبادة الحَقّ.
التفكُّر والتدبُّر في الروايات والأخبار
وفي الختام أجِدُ من الضرورة بمكان الإشارة إلى أنّه ممّا أُمرنا بالتدبُّر والتفكُّر فيه الأخبار والروايات التي تُنسَب إلى المعصومين(عم). فقد رُوي عن أمير المؤمنين(ع) أنّه قال: «اعْقِلوا الخَبَرَ إذا سمعتموه عقلَ رعايةٍ، لا عقلَ روايةٍ؛ فإنّ رواةَ العلم كثيرٌ، ورُعاتَه قليلٌ»([8]).
وهذا منهجٌ علميٌّ إلزاميٌّ للمؤمن، يجب عليه أن يتَّبعه؛ كي لا يقع، عن قصدٍ أو غير قصدٍ، في التقوُّل على المعصوم(ع)، والكَذِب على الله عزَّ وجلَّ ورسوله وأوليائه(عم).
وكم من أحاديثَ نقبلها حين نسمعها، وهي تتضمَّن شبهةً عقائديّة أو شرعيّة أو أخلاقيّة.
ألا يُتْحفنا بعضُ مرتَقي المنابر الحسينيّة بين الحين والآخر بأخبارٍ تخالف ما تسالم عليه العلماءُ من عقائدَ وأحكامٍ وقِيَم.
ففي حديث المعراج: «…ثم أوحى الله إليَّ: يا محمد، ادنُ من صاد، فاغسِلْ مساجدَك، وطهِّرْها، وصلِّ لربِّك، فدنا رسول الله(ص) من صاد، وهو ماءٌ يسيل من ساق العرش الأيمن، فتلقّى رسول الله(ص) الماء بيده اليمنى، فمن أجل ذلك صار الوضوء باليمين…»([9]).
فهل لله حيِّزٌ ومكانٌ، وهو العَرْش، ذي الساق الأيمن، والساق الأيسر، وله يمينٌ، ويسار؟! تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
وهكذا نرفض هذه الرواية وأمثالها([10]) بعد التدبُّر في مضمونها الفاسد والباطل. وإنْ كنّا نؤمن بفريضة الوضوء، والكيفيّة الصحيحة له، الواردة في الروايات الصحيحة عن النبيّ(ص) وأهل بيته(عم).
وأخيراً نسأل اللهَ أن يوفِّقنا للتفكُّر والتدبُّر في كلِّ ما نبصره أو نسمعه أو نتعقَّله، وأن لا يجعلنا ممَّنْ قال فيهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ (الفرقان: 44). وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه البرقي في المحاسن 1: 26، عن بنان بن العبّاس، عن الحسين الكَرْخي، عن جعفر بن أبان، عن الحسن الصيقل، عن أبي عبد الله(ع)، مرفوعاً.
ورواه الكليني في الكافي 2: 54 ـ 55، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن أبان، عن الحسن الصيقل، عن أبي عبد الله(ع).
([2]) رواه العيّاشي في تفسيره 2: 208، معلَّقاً عن أبي العبّاس، عن أبي عبد الله(ع).
([3]) رواه الكليني في الكافي 2: 55، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد [بن عيسى]، عن إسماعيل بن سهل، عن حمّاد، عن ربعي، عن أبي عبد الله(ع).
([4]) رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي 1: 404، معلَّقاً.
([6]) رواه الكليني في الكافي 2: 55، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله(ع).
([7]) رواه الكليني ـ بإسنادٍ صحيح ـ في الكافي 2: 55، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن معمر بن خلاّد، عن أبي الحسن الرضا(ع).
([9]) رواه الكليني في الكافي 3: 485، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أُذَيْنة، عن أبي عبد الله(ع)، مرفوعاً.
([10]) كالذي رواه الصدوق في الخصال: 481 ـ 482؛ وفي معاني الأخبار: 306 ـ 308، عن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحسين بن إبراهيم بن يحيى بن عجلان المروزي المُقْرئ، عن أبي بكر محمد بن إبراهيم الجرجاني، عن أبي بكر عبد الصمد بن يحيى الواسطي، عن الحسن بن عليّ المدني، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب(عم) قال: إنّ الله تبارك وتعالى خلق نور محمد(ص) قبل أن خلق السماوات والأرض والعرش والكرسيّ واللوح والقلم والجنّة والنار، وقبل أن خلق آدم ونوحاً…، ثمّ أظهر عزَّ وجلَّ اسمَه على اللوح، وكان على اللوح منوِّراً أربعة آلاف سنة، ثم أظهره على العرش، فكان على ساق العرش مثبَتاً سبعة آلاف سنة، إلى أن وضعه اللهُ عزَّ وجلَّ في صلب آدم…
وكالذي رواه الصدوق في الخصال: 638 ـ 639، عن أبيه(رض)، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الحميد العطّار، عن محمد بن راشد البرمكي، عن عمر بن سهل الأسدي، عن سهيل بن غزوان البصري قال: سمعْتُ أبا عبد الله(ع) يقول: إنّ امرأة من الجنّ كان يقول لها عفراء…، [سألها النبيّ(ص)]: يا عفراء أيَّ شيءٍ رأيتِ؟ قالت: رأيتُ عجائب كثيرة، قال: فأعجب ما رأيتِ؟ قالت: رأيتُ إبليس في البحر الأخضر على صخرةٍ بيضاء مادّاً يدَيْه إلى السماء، وهو يقول: إلهي إذا برَرْتَ قَسَمَك وأدخَلْتَني نارَ جهنَّم فأسألك بحقّ محمدٍ وعليّ وفاطمة والحسن والحسين إلاّ خلَّصتني منها وحشرتني معهم، فقلتُ: يا حارث، ما هذه الأسماء التي تدعو بها؟ قال لي: رأيتُها على ساق العرش من قبل أن يخلق الله آدم بسبعة آلاف سنة…
وكالذي رواه الصدوق في كمال الدين وتمام النعمة: 254 ـ 256، عن الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، عن فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، عن محمد بن عليّ بن أحمد بن الهمداني، عن أبي الفضل العبّاس بن عبد الله البخاري، عن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن عليّ بن موسى الرضا(ع)، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب(عم) قال: قال رسول الله(ص) [في حديث المعراج]:…فقلتُ: يا ربِّ، ومَنْ أوصيائي؟ فنُوديت يا محمد، إنّ أوصياءك المكتوبون على ساق العرش، فنظرتُ ـ وأنا بين يدي ربّي ـ إلى ساق العرش، فرأيتُ اثني عشر نوراً، في كلّ نورٍ سطرٌ أخضر مكتوب عليه اسم كلّ وصيٍّ من أوصيائي، أوّلُهم عليّ بن أبي طالب، وآخرُهم مهديّ أمّتي…
وكالذي رواه الصدوق في معاني الأخبار: 108 ـ 109، عن أحمد بن محمد بن الهيثم العجلي(رض)، عن أبي العبّاس أحمد ين يحيى بن زكريا القطّان، عن أبي محمد بكر بن عبد الله بن حبيب، عن تميم بن بهلول، عن أبيه، عن محمد بن سنان، عن المفضَّل بن عمر، قال: قال أبو عبد الله(ع) [في قصّة خلق آدم وحوّاء وما جرى معهما في الجنّة]:…فقال الله جلَّ جلاله: ارفعا رؤوسكما إلى ساق عرشي، فرفعا رؤوسهما، فوجدا اسم محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة بعدهم صلوات الله عليهم مكتوبةً على ساق العرش بنورٍ من نور الجبّار جلَّ جلاله…
ورواياتٌ كثيرة مماثلة.
ولا يسَعُنا سوى أن نرفض هذه الروايات وأمثالها ـ ولعلّها كلَّها ضعيفةٌ سنداً ـ بعد التدبُّر في مضمونها العقائديّ الفاسد والباطل، وهو القولُ بالتجسيم، وأنّ لله عرشاً مادّيّاً ذا يمينٍ وشمال وساق، وإنْ كنّا نؤمن بفضل النبيّ(ص) وأهل بيته(عم)، وأنّهم خيرُ عباد الله قاطبةً، والمكرَّمون لديه، وأنّهم أوصياء النبيّ الأكرم محمد(ص) حقّاً، أوّلهم عليّ(ع)، وآخرهم المهديّ(عج)، لا يتقدَّمهم إلاّ مارقٌ، ولا يتأخَّر عنهم إلاّ زاهقٌ، والتابعُ لهم لاحقٌ.