14 يونيو 2012
التصنيف : مقالات فكرية
لا تعليقات
3٬621 مشاهدة

علماء الوعي والإصلاح هم الباقون، السيد محمّد باقر الصدر أنموذجاً

(بتاريخ: 16 ـ 4 ـ 2012م)

وتعود الذكرى في كلّ عامٍ مفعمةً بعبق الإيمان، وأريج الولاء، وعطر الشهادة. إنّها ذكرى الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله)، العالم الواعي والمصلح والمجدِّد، الذي شكَّل بحقٍّ حلقةً كبيرة في سلسلة علماء الوعي والإصلاح في تاريخ الأمّة الإسلاميّة.

نفتقده اليوم في خضمّ صراعٍ كبير بين نهجين مختلفين: نهج الوعي والإصلاح والجهاد؛ ونهج التخلُّف والخنوع.

إنّما هما نهجان

نقولها اليوم وبكلّ صراحة : إنّما هما نهجان: نهجُ خيرٍ؛ ونهجُ شرٍّ، نهجُ حقٍّ؛ ونهجُ باطلٍ. ومن الطبيعيّ أن نكون مع النهج الأوّل، وضدّ النهج الثاني.

مميِّزات النهج الأوّل

هو نهج العزّة والكرامة والإباء، نهج الوعي والواقعيّة والحركيّة الإسلاميّة، نهج الجهاد والثورة، والدفاع عن المستضعفين والمحرومين في العالم، نهج احترام الإنسان كلّه؛ لإنسانيّته، بعيداً عن العصبيّة، والمذهبيّة، والطائفيّة، ومظاهر التخلُّف والتعلُّق بالخرافات والأساطير.

هو النهج المحمديّ الأصيل المتمثِّل بنهج الثورة على المستكبرين والطواغيت، والجهاد ضد أعداء الدين، ومقاومة الغزاة المحتلّين، ونصرة المؤمنين والمستضعفين أينما وُجدوا، كما فعل ولا يزال السيد حسن نصر الله(حفظه الله).

هو نهج الحوار، بعيداً عن التكفير والتفسيق والتضليل.

هو نهج الانفتاح على الآخر، كلّ الآخر، بعيداً عن التقوقع والانغلاق على الذات، كما فعل السيد المغيَّب موسى الصدر(رحمه الله)، حين زار إحدى الكنائس في بيروت، وألقى فيها كلمةً طيّبةً مؤثِّرة.

هو نهج الوحدة الإسلاميّة، لا تمزيق المسلمين، بل المؤمنين، ومن هنا كان تحريم المرجع فضل الله(رحمه الله) والقائد الخامنئيّ(حفظه الله) التعرُّضَ بالإساءة لأمّهات المؤمنين والصحابة؛ احتراماً لرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحقناً لدماء كثيرٍ من الشيعة في كثيرٍ من البلدان.

هو النهج الحسينيّ الداعي إلى إقامة دولةٍ عادلةٍ يُقام فيها حكم الله، ولو أُريقت في سبيل ذلك الدماء، كما فعل إمام الأمّة الراحل السيّد روح الله الموسويّ الخمينيّ(رحمه الله).

هو النهج الفكريّ المتحرِّر من قيود السلفيّة والرجعيّة والنمطيّة والعبثيّة، يلقي بدلوه في قضايا العصر، ويبحث كلّ مسألة بحثاً علميّاً تحقيقيّاً، ويعلن ما توصَّل إليه، بكلّ شجاعة وجرأة، دون محاباة أو مداراة للعوام والجهلة، كما فعل ـ قديماً ـ السيد محسن الأمين(رحمه الله)، وكما فعل في عصرنا هذا السيد الأستاذ المرجع محمّد حسين فضل الله(رحمه الله).

إذاً هو نهجُ السيد محسن الأمين، والسيد موسى الصدر، والسيد محمّد باقر الصدر، والشيخ مرتضى مطهّري، والإمام روح الله الخمينيّ، والسيد القائد عليّ الخامنئيّ، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمّد حسين فضل الله، والسيّد المجاهد حسن نصر الله، وآخرون وآخرون، باقون ما بقي الدهر.

مميِّزات النهج الثاني

هو نهج الذلّة والخنوع، والاستكانة والخضوع، نهج استثارة العصبيّات المذهبيّة والطائفيّة، نهج نشر ودعم مظاهر التخلُّف، والترويج للخرافات والأساطير.

هو نهج التكفير والتفسيق والتضليل، نهج تمزيق المسلمين، بل المؤمنين، ومن هنا كان التعرُّض بالإساءة لأمّهات المؤمنين والصحابة، دون أن يعير أصحاب هذا النهج أيّة عناية تُذكر لما سيكون عليه حال الشيعة في بلدانٍ كثيرةٍ في العالم؛ جرّاء مثل هذه التصرُّفات الرعناء.

هو نهج المعارضة القويّة لإقامة دولةٍ عادلةٍ يُقام فيها حكم الله؛ إذ سيُراق في سبيل ذلك دماء طاهرةٌ للمؤمنين والمؤمنات، ولن يكون بمقدور أيّ حاكم ـ مهما علا شأنه ـ أن يمنع وقوع الظلم، فهل نستبدل ظالماً بظالم؟! ويتناسى أصحاب هذا النهج أنّ الظلم لم يتوقَّف حتّى في عصر أمير المؤمنين وإمام المتّقين والحاكم العادل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، فكم كان يأتيه مَنْ يتظلَّم لديه من والٍ أو عاملٍ أو قاضٍ، فيعمد إلى إصلاح ذلك كلّه بالطرق المناسبة. هذا هو المعنى الصحيح لإقامة الحكومة العادلة؛ إذ لن يأتي يومٌ يطلب الناسُ كلُّهم فيه الحقَّ والعدل والإنصاف، وسيبقى في الناس مَنْ يظلم ويعتدي، ولكنّ وظيفة الحاكم العادل أن يأخذ للمظلوم من الظالم بحقّه، فلا يبقى مظلومٌ لا يستطيع أن يستعيد حقَّه الضائع، وهذا هو المعنى الصحيح لملء الأرض قسطاً وعدلاً. وهذا أمرٌ مقدورٌ عليه في دولةٍ إسلاميّة يرعى شؤونها فقيهٌ عادلٌ يستمع لأصوات المظلومين والشاكين.

هو نهج الاعتراض الشديد على أيّة حركةِ مقاومةٍ يُبتلى فيها المؤمنون بشيءٍ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، كما حصل في الحرب الإسرائيليّة في تمّوز 2006م على لبنان، حيث حمّل البعض السيد حسن نصر الله(حفظه الله) مسؤوليّة الدم الذي أُريق، بل وصل الأمر ببعضهم إلى أن يقول: (لا سامحه الله، فلقد أُرعب ابني بصوت القصف). فأين الصابرون؟ ﴿وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ﴾ (البقرة: 155 ـ 157). ويطالبه آخرون ـ كلّما سمعوا بإمكانية اندلاع حرب في لبنان أو المنطقة، وقد سمعنا ذلك منهم مباشرةً، وحفظناه ـ بأنْ يحقن دماء الشيعة، وأن لا يزجّ بهم في أتون الحرب الحارقة والمدمِّرة، فإنّهم ما عادوا يتحمّلون. ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الأحزاب: 13 ـ 16). هم لا يتحمّلون، أمّا المخلصون فقولُهم دائماً أبداً لا يحيدون عنه: اذهبْ أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، واللهِ لو خضتَ بنا هذا البحر لخضناه معك.

هو نهج محاباة ومداراة العوام والجهلة من الناس، فلا يُتعرَّض لعاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الشعبيّة بنقدٍ أو رفضٍ، وإنّما يُصنَّف ذلك كلُّه في دائرة الموضوعات التي لا أهمّيّة ولا مصلحة في البحث فيها.

هو نهج البكاء والنحيب على أطلال المجد المضاع، والهروب إلى السراديب والمحاريب المظلمة، حيث تمرّ الليالي والسنون، يوماً بعد يوم، وسنةً بعد سنة، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وإذا ما سمعوا بمفكِّرٍ حُرٍّ، يبحث في قضايا العصر وشؤونه، بأفقٍ رحبٍ، ونظرةٍ حديثة وشاملة، سمَّوْه (التقاطيّاً)، كما فعلوا مع السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رحمه الله).

هو النهج السلفيّ الشيعيّ الذي يعتبر كافّة المشاريع التجديديّة على مستوى واحدٍ مع المخطَّطات الاستعماريّة، ويشرِّع العنف في مكافحة الرموز التجديديّة التي لا تنفكّ عن مشروع جهاد المستعمر الأجنبيّ[1].

هو نهج السبّ والشتم واللعن، والتكفير والتضليل، والتُّهم الجاهزة والإشاعات الكاذبة، حتّى أنّهم ليفترون ويكذبون في ما لا مجال فيه للافتراء والكذب.

هو نهج البذيء من القول والفعل، الذي يؤدّي ـ في ما يؤدّي إليه ـ إلى تشنُّج الطرف الآخر لا هدايته، ونقمته لا استمالته، فيغدو سبعاً ضارياً، سرعان ما يبطش بأتباع أهل البيت عليهم السلام المنتشرين في أصقاع العالم.

وما الذي حصل في بلجيكا مؤخَّراً من إحراق بيت الله (المسجد)، وقتل الشيخ عبد الله دهدوه حرقاً بالنار، سوى نزرٍ يسير ممّا يحصل في العالم؛ حيث اتّخذ القاتلُ من توتُّر الخلاف المذهبيّ ذريعةً لارتكاب جريمته. وقد تناهى إلى أسماعنا[2] أنّ بعض الشيعة ـ هداهم الله ـ يجلسون في بعض المساجد فيتحدّثون بما يسيء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهل البيت عليهم السلام، من قبيل أنّ إحدى زوجات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد تزوَّجت بعد وفاته. ومن هذا القبيل أيضاً ما يدّعيه بعض الشيعة ـ هداهم الله ـ من أنّ أمير المؤمنين عليّ عليه السلام قد طلَّق إحدى زوجات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته. وإلى غير ذلك من الافتراء على الله ورسوله وأهل بيته عليهم السلام. وليس ما فعله ياسر الحبيب في السنة الماضية من ذلك ببعيدٍ.

وهنا أتوجَّه بالنصيحة لإخوتنا في الدين، على اختلاف مشاربهم ومواقعهم الدينيّة والسياسيّة، لأقول: يا مَنْ تدّعون وصلاً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ودفاعاً عن عليّ عليه السلام، وحبّاً للزهراء عليها السلام، وولاءً لأهل البيت عليهم السلام، ومع ذلك تقومون بما تقومون به، ممّا تقدّم ذكره، أنتم ـ ومن حيث لا تشعرون ولا تريدون، ولكنّه واقعٌ لا مفرّ منه ـ شركاء في سفك هذه الدماء الطاهرة البريئة، التي ستلقى الله يوم القيامة صارخةً: يا عدلُ، يا حكيمُ، احكم بيننا وبين فلان وفلان، فلقد حرّض وأذكى فتنةً كنتُ وقودَها، ويأتي النداء من ربّ السماء: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾. فالرحمة الرحمة بأنفسكم، والشفقة الشفقة بأرواحكم.

وإذا كنتم تحبّون رسولَ الله وعليّاً وفاطمةَ الزهراء وأهلَ البيت عليهم السلام فعليكم بالاقتداء بسيرتهم، في المحبّة والرحمة والشفقة والدعوة إلى الله وإلى الحقّ بالتي هي أحسن، وإلاّ فإننا نخشى أن يصدق فيكم قول الشاعر: والدعاوى إنْ لم تُقيموا عليها بيِّناتٍ أصحابُها أدعياءُ.

العلاقة بين النهجين

ويتصارع هذان النهجان في سبيل البقاء؛ ويحتدّ الصراع تارةً؛ ويخبو تارةً أخرى.

ولقد تعرَّض بعضُ أصحاب النهج الأوّل لحملاتٍ مشبوهةٍ، فيها الكثيرُ الكثير من التشويه والافتراء والانتقاص، ولكنْ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.

المفكِّر المظلوم السيد محمد باقر الصدر(رحمه الله)

اتَّهم البعضُ السيد محمّد باقر الصدر بالتسنُّن؛ لأنّه كان يسعى للتقريب بين السنّة والشيعة، ويدعوهم جميعاً إلى المحبّة والأخوّة، حتّى وصل الأمر بأحدهم أن صنّفه (شيعيّاً التقاطيّاً)؛ تحقيراً وإهانةً له، فكأنه يقول: لا علم عنده، وإنّما هي أفكارٌ سرقها من هنا وهناك، وألبسها لباساً شيعيّاً.

وللحقيقة نقول: إنّ ما أنتجه السيد محمّد باقر الصدر لا يستطيع هؤلاء أن يفهموه، فضلاً عن أن يقيِّموه أو يعطوا رأيهم فيه. فأيّة أصالة شيعيّة ينفيها هؤلاء عن السيد الشهيد؟! ـ وللحديث تتمّة ـ.

والأنكى من ذلك أنّ هذا الشخص نفسَه يُدعى بعد كلّ ما فعله لإلقاء المحاضرات الإسلاميّة في مركز تابعٍ لجهة إسلاميّة جهاديَة وثوريّة في مدينة قم المقدّسة، فكأنّه لا حرمة للعلماء الأبرار يجب الحفاظ عليها، ومحاربة منتهكيها.

لقد حرص الشهيد الصدر على العلماء، فمنع أحدَ المشايخ من تأليف كتاب بعنوان (مثالب العلماء)، ولكنّهم غدروا به وبنهجه، واستباحوا منه المحرَّمات…

نعم، لقد قابل السيد محمد باقر الصدر كلّ الإساءات التي وُجِّهت إليه مسالماً، وبكامل التقدير والاحترام، فما كان من المسيئين إلاّ أن حاربوه بكلّ وسيلة تمكَّنوا منها، وأكثرُها غيرُ شريف.

لقد أضاع من عمره الشريف 16 سنةً يدرّس فيها كتاب الطهارة بالنحو التقليديّ؛ عسى أن يعترفوا به مجتهداً ومرجعاً كلاسيكيّاً، فيكون التغيير من الداخل الحوزويّ، لا من خارجه؛ لما لذلك من حساسيّة في الوسط الحوزويّ، ولم يقبلوا به مرجعاً، ولا مجتهداً، حتى أنّ أحد الأعلام في النجف الأشرف قد عارض ـ مؤخَّراً ـ بشدّة تدريس الحلقات الثلاث للشهيد الصدر في أصول الفقه، قائلاً لجلسائه: (إذا أقررتموها في منهج التدريس فسأكون خصمكم يوم القيامة).

ولو أنّ السيد الصدر(رحمه الله) درّس بعض المطالب المهمّة والجديدة، كالاقتصاد الإسلاميّ، والأحكام الاجتماعيّة في الإسلام، بشكل موسَّع ومتخصِّص لأسَّس لفقهٍ يمتدّ لمئات السنين، ولاستفاد من عبقريّته الفذّة السافرة لكلّ ذي عينين السنّة والشيعة على السواء. فألفُ ألفُ أسفٍ على ما ضاع.

لقد كان السيد محمد باقر الصدر يدعو منذ أكثر من 30 سنة ـ ويبدي استعداده لذلك لو توفَّر له المال اللازم  ـ إلى إنشاء محطّةٍ تلفزيونيّة وإذاعةٍ ودار نشرٍ في النجف الأشرف، ما يحوِّلها إلى عاصمةٍ للثقافة بحسب المتيسِّر والمتاح آنذاك، واليوم هناك مَنْ سعى جاهداً لإلغاء إعلان النجف عاصمة للثقافة في العام 2012م؛ بحججٍ وذرائع واهية، علماً أنّ هذا لا يتيسَّر بسهولة، بل دونه موانع وعقباتٌ كثيرة، حتّى أنّ إيران حجزت دورها في ذلك منذ هذا العام(2012م)، حيث ستكون مشهد المقدَّسة عاصمة للثقافة في العام 2017م.

فشتّان بين الرؤيتين والخيارين والعقليّتين: عقليّة الثقة بالنفس، فنستضيف كلّ أحدٍ، ونحاوره ويحاورنا، ونقنعه بطروحاتنا؛ وعقليّة الخوف من الآخر، فلا نجرؤ على اللقاء به، ومواجهته وجهاً لوجه.

علماً أنّ إعلان النجف الأشرف عاصمةً للثقافة سيجعل مئات بل آلاف المثقَّفين يَفِدون إلى وادي السلام، حيث المرقد الطاهر لأمير المؤمنين وإمام العلم والبيان عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وتعمد (المرجعيّة الرشيدة) إلى استضافتهم، وتعريفهم بعملاق الفكر البشريّ، وصوت العدالة الإنسانيّة. وكنّا نرجو أن تعمد هذه المرجعيّة إلى المسارعة في طباعة عشرات آلاف النسخ من كتاب (نهج البلاغة)، وباللغات الأساسيّة في العالم، وتوزيعها على هؤلاء الوافدين؛ ليعرفوا مَنْ هم الشيعة؟ ومَنْ هو إمامُهم؟، وليعرفوا عظمة الإسلام، ويتعرّفوا على التعاليم الدينيّة الحقّة من خلال ذلك كلّه، وهكذا تكون الدعوة إلى الله.

البدران المنيران: القائد الخامنئيّ(حفظه الله) والمرجع فضل الله(رحمه الله)

لقد قلتُ مراراً وتكراراً، وأُصِرُّ على ما قلتُه: إنّ ما تعرّض له سيّدنا الأستاذ السيد محمد حسين فضل الله(رحمه الله) هو حملاتٌ مشبوهةٌ، وهو حلقةٌ في سلسلة المؤامرة الكبرى على الخطّ الجهاديّ، ورموز الإسلام الحركيّ والمحمّديّ الأصيل.

فلقد أزعج الكثيرين أن يرَوْا في سماء الأمّة الإسلاميّة بدرَيْن منيرَيْن، عنيتُ بهما السيد محمد حسين فضل الله(رحمه الله) في لبنان وقائد الثورة الإسلاميّة المباركة في إيران السيد عليّ الخامنئيّ(حفظه الله)، ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور: 35)، يديران دفّة الفُلْك الإسلاميّة الجارية بأمر ربّها في بحرٍ لجّيٍّ متلاطم الأمواج، أمواج الجهل والتخلُّف والخرافة والغلوّ والعصبيّة المذهبيّة المقيتة.

نعم، «وجد المغرضون أنّ المرجعيّة الحركيّة الواعية ستمتلك هذه المرّة قوّةً هائلةً؛ فالتقارب الفكريّ والسياسيّ واضحٌ بين السيّدَيْن الخامنئيّ وفضل الله، وهما متَّحدان في التوجُّهات الاستراتيجية، والوعي الحركيّ، والنظرة الشموليّة لمشاكل الأمّة، والفهم الدقيق لموقع الإسلام في معركته الحضاريّة ضدّ قوى الاستكبار. كل هذا يعني أن الاتّجاه الحركيّ في المرجعيّة سيكون هو الغالِب في عالم الشيعة. وهذا يعني في المقابل أنّ الاتجاه التقليديّ سينحسر في القريب»[3].

نعم، إنّ التقارب الفكريّ والسياسيّ للسيّدَيْن الجليلَيْن لا يخفى على ذي عينين، فهما معاً في حركة التجديد الفقهيّ والأصوليّ والمنهجيّ، ومعاً في الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين كافّةً، بعيداً عن السباب والشتائم، وعن التكفير والتفسيق والتضليل.

ألم يُفْتِ السيد القائد الخامنئيّ(حفظه الله) بثبوت الهلال بالعين المسلَّحة؟ وهذا مخالفٌ للمشهور عند «علماء الشيعة». وكان السيد فضل الله(رحمه الله) قد أفتى من قبلُ بثبوت الهلال إذا أخبر الفلكيّون الخبراء والموثوقون بإمكانيّة الرؤية ـ ولو بالعين المسلَّحة ـ. وأنا أعتقد أنّنا سنشهد قريباً جدّاً اليومَ الذي يفتي فيه المرجع القائد الخامنئيّ بذلك أيضاً.

ألم يُفْتِ السيد القائد الخامنئيّ(حفظه الله) بحرمة سبّ الصحابة وأمّهات المؤمنين «زوجات النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم»؟ وكان السيد فضل الله(رحمه الله) قد سبقه إلى ذلك منذ أكثر من عشر سنين.

ألم يُفْتِ السيد القائد الخامنئيّ(حفظه الله) بحرمة التطبير (ضرب الرؤوس بالسكاكين والسيوف)؟ وقد أفتى السيد فضل الله(رحمه الله) بحرمة التطبير أيضاً، وحرّم كذلك ضرب الجسد بالسلاسل والجنازير، المشفَّرة وغير المشفَّرة.

إذاً هما في خطٍّ فكريٍّ واحد، ولو قُدِّر لهما أن يمسكا بزمام الأمور في هدوء بالٍ، وتنسيقٍ مستمرٍّ، وتواصلٍ دائمٍ، لكانت الأمّة على غير ما هي عليه الآن.

وهكذا أخذ البعض على السيد القائد الخامنئيّ(حفظه الله) دعوتَه إلى الوحدة الإسلاميّة ورصّ الصفّ الإسلاميّ، وتحريمَ السبّ والإهانة للصحابة وزوجات النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فشكَّكوا في علميّته واجتهاده، وحكمته وقراراته، وصولاً إلى مقاطعته، وعدم اتّخاذ أيّ موقفٍ من شأنه أن يصبّ في صالح توجُّهاته.

كما عمدوا إلى اتّهام المرجع فضل الله(رحمه الله) بشتّى أنواع التُّهَم، من ضلالٍ، وانحرافٍ، وتسنُّنٍ، ومعاداةٍ للزهراء وأهل البيت(عليهم السلام)، حتّى أنّهم حرّموا الذهاب إلى الحجّ في قافلة يرعاها ويديرها مَنْ يحبُّه ويحترمه أو يتّبعه ويقلِّده.

غير أنّ سنن الله في الكون لا تتبدّل ولا تتغيَّر، مهما كان السعي لتغييرها وتبديلها كبيراً: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ﴾ (الرعد: 17). فلقد تجذَّر الخطّ الواعي في الأرض ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم: 24 ـ 25)، وذاع صيتُه في الآفاق، وكانت صدارة المرجعيّة الدينيّة في العالم الإسلاميّ للسيدَيْن الجليلَيْن القائد الخامنئيّ(حفظه الله) والمرجع فضل الله(رحمه الله)، (وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى) (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً).

وهنا أجد من واجبي الشرعيّ التنبيه إلى أنّه من المغالطات الكبرى أن يُقال: إنّ السيد فضل الله مختلف جوهريّاً مع السيد القائد الخامنئيّ، فيا مَنْ تدّعون وصلاً وقرباً من السيد الخامنئيّ اعلموا واعرفوا أنّكم قريبين جدّاً من السيد فضل الله، وأنّ ما تسيئون به إليه اليوم، من قولٍ فاحشٍ، وألفاظٍ نابيةٍ، سيكون غداً منطبِقاً على السيد الخامنئيّ، وهذا ما لم نرضَه من قبل، ولن نرضاه، ولن نقبل به أبداً.

واجعلْ أفئدةً من الناس تهوي إليهم

روجيه غارودي يغامر بنفسه للقاء السيد الشهيد محمّد باقر الصدر(رحمه الله)

فبعد اطّلاعه على كتب الشهيد الصدر القيِّمة (اقتصادنا) و(فلسفتنا) نالت إعجابه، ورغب في ان يلتقي بالسيد الشهيد. واستغلّ حضوره في مؤتمرٍ في العراق لزيارة السيد الصدر في النجف الأشرف، غير أنّه فوجئ بأحد المسؤولين في وزارة الخارجيّة العراقيّة آنذاك ينكر وجود شخص باسم (محمد باقر الصدر) في العراق أصلاً. غير أنّ غارودي التائق للقاء السيد الشهيد رفض هذا الكلام، وأخبر المسؤول أنّه قد جرت بينهما مراسلةٌ، وأنّ السيد الصدر موجودٌ في النجف الأشرف حتماً، ولم يجد المسؤول بدّاً من مسايرة غارودي في طلبه، فأخذه إلى النجف، وبالتحديد إلى كلّيّة الفقه، وأحضر له عدداً من الطلبة (أزلام النظام)، فشهدوا له أنّ لا وجود لهذا الشخص في النجف، فبقي مندهشاً متحيِّراً، وأُسقط في يده أخيراً[4].

بكاء السيد حسن نصر الله(حفظه الله) لوجع المرجع فضل الله(رحمه الله)

يقول مستشار المرجع فضل الله(رحمه الله) الحاج هاني عبد الله: عندما أُدخل المرجع فضل الله ـ وكان مريضاً جدّاً ـ إلى مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، في تشرين الثاني من العام 2009م، زاره أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، مطمئنّاً إلى صحّته، فما كان من السيد فضل الله إلاّ أن بادره بالقول: لِمَ أتيتَ؟ كيف تعرِّضُ نفسك للخطر؟ فأجابه: هذا واجبي. ويضيف: إن السيد فضل الله كان مريضاً جدّاً ومتألِّماً، وقد لاحظ السيد نصر الله الأمر، فغصّ بدموعه، حتّى لم يَعُدْ قادراً على مجاراة الحديث. وقد أعاد هذا اللقاء إلى الأذهان اللقاء الوحيد أيّام العدوان الإسرائيليّ على لبنان في حرب تموز 2006م، وقد حضر فيه السيد نصر الله إلى السيد فضل الله، الذي كان يرفض هذه الزيارة؛ خوفاً على حياة ابنه الروحيّ، لكنّ السيد نصر الله أصرَّ حينها على اللقاء، وقد تعانق فيه الرجلان لمدّة طويلة، في مشهد مؤثِّر، كما يرويه مقرَّبون[5].

غسّان بن جدّو يرثي المرجع فضل الله(رحمه الله)

لمّا رحل المرجع فضل الله رثاه الإعلاميّ التونسيّ الكبير غسّان بن جدو، الذي اتّخذ من العلمانيّة مذهباً، ويجاهر بذلك، ولا يدَعُ مناسبةً إلاّ ويدعو إلى العلمانيّة ـ وكلُّنا يعلم أن العلمانيّين لا يعتنون كثيراً برجال الدين، بل ينظرون إليهم بدونيّة ـ، فقال: «أقول: إنّي فقدتُ أباً وأستاذاً وصديقاً. أن يُحتَرَم رجلُ دين في بيئة تكره رجال الدين أمرٌ في غاية الأهمّيّة. وهذا كان من مميِّزات السيد فضل الله»[6].

ناصر قنديل يقبِّل يد القائد الخامنئيّ(حفظه الله)

في المؤتمر الخامس لدعم الانتفاضة الفلسطينيّة، الذي انعقد في العاصمة الإيرانيّة طهران بتاريخ السبت 1/تشرين الأول/2011م، ألقى القائد المرجع السيد عليّ الخامنئيّ كلمةً افتتاحيّةً، ثمّ نزل من على المنبر، وأخذ يصافح الحضور واحداً واحداً، والكلّ يتسارعون إليه، ويتسابقون للسلام عليه، وما هي إلاّ دقائق قليلة حتّى كان النائب اللبنانيّ السابق ناصر قنديل ـ وهو المتجاهر بعلمانيّته أيضاً ـ ينحني على يد السيد القائد الخامنئيّ ويقبّلها، وقد التقطت كلّ عدسات كاميرات الإعلام هذا المشهد ذا الدلالات الكبيرة.

هذا غيضٌ من فيض من سيرة ثلّةٍ من أصحاب النهج الأوّل، وأترك الحديث عن أصحاب النهج الثاني إلى وقت آخر؛ إذ الحديث هناك يطول.

غير أنّي أقول: هكذا يكون القادة، ولمثلهم تكون السيادة، شاء مَنْ شاء، وأبى مَنْ أبى.

الهوامش


[1] مجلّة الاجتهاد والتجديد، العدد 20 ـ 21: 71، مقالة بعنوان: «قراءة في المشروع التجديديّ للسيد فضل الله حول الإشكالات النفسيّة للشخصيّة الإسلاميّة ودورها في إذكاء التخلُّف»، للدكتور أحمد محمد اللويمي.

[2] من خلال التقرير الشهريّ الصادر عن (مركز الإسلام الأصيل / قسم الرصد)، نقلاً عن بعض المواقع الإلكترونيّة.

[3] حسين بركة الشامي، الفقيه المجدِّد المقدَّس السيد محمد حسين فضل الله، من الذات إلى المؤسَّسة: 131.

[4] أحمد عبد الله أبو زيد العاملي، محمد باقر الصدر، السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق 3: 160 ـ 161 (باختصار).

[5] انظر: الموقع الإلكتروني لشبكة الفجر الثقافية، مقال بعنوان: «في لقاءه الأخير بالمستشفى.. نصر الله باكياً في حضرة المرجع فضل الله»(10ـ10ـ2010م) (بتصرُّف).

[6] انظر: الموقع الإلكتروني لشبكة الفجر الثقافية، مقال بعنوان: «غسان بن جدو: أقسم أنّني بكيت على السيد فضل الله أكثر ممّا بكيت على والدي»(8ـ2ـ2011م).



أكتب تعليقك