تكذيبُ القرآن والنبيّ، كُفْرٌ وظُلْمٌ وهَوانٌ
(الجمعة 5 / 2 / 2016م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.
الكلمةُ الطيِّبة والخبيثة مصدرُ الخيرات والشرور
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾ (إبراهيم: 24 ـ 27).
ما هي هذه الكلمة الطيِّبة؟
قالوا: هي كلمة (لا إله إلاّ الله)، وهي كلمة التوحيد([1]).
كما يمكن أن يُقال: هي كلُّ كلامٍ طيِّب جميل، يقرِّب ولا يبعِّد، يصلح ولا يفسد، يعمِّر ولا يخرِّب.
وكلا المعنيين صحيحٌ.
فكلمةُ التوحيد (لا إله إلاّ الله) أساسٌ ثابت وراسخ لكلِّ عملٍ. وهي حصن الله المنيع، الذي مَنْ دخله كان آمناً. وقد ورد عن مولانا الرضا(ع)، في الحديث المشهور بـ «حديث سلسلة الذهب»، أنّه روى عن آبائه الطاهرين(عم)، مسنَداً إلى رسول الله(ص)، عن جبرئيل(ع)، عن الله تبارك وتعالى أنّه قال: «كلمة لا إله إلاّ الله حصني، فمنْ دخل حصني أَمِنَ من عذابي»، ثمّ عقَّب الإمامُ(ع) بقوله: «بشرطها وشروطها، وأنا من شروطها»([2])، أنا الإمام، أنا الحجّة على الخلق، أنا الحاكم بأمر الله.
إذاً هي كلمةٌ عظيمة وطيِّبة، بل هي أطيب الكلام، ومَنْ يقُلْها ويلتزم مضمونَها، كمَنْ فاء إلى شجرةٍ كبيرة، ذاتِ ظلٍّ وارف، وثمارٍ ناضجة، فهو في رَغَد عيشٍ ما دام في ظلِّ تلك الشجرة.
وأيضاً الكلامُ الطيِّب الهادئ، والموعظة بالتي هي أحسن، وخطابُ المحبّة والرَّحمة، هو الكلام الذي يستقرّ في نفوس المخاطبين، ويؤثِّر فيهم، وينفعهم ولو بعد حينٍ.
وفي مقابل ذلك هناك الكلام الذي يتضمَّن ألفاظاً نابية وفاحشة وبذيئة، وهناك خطاب الشَّتْم والسَّبّ واللعن. وهذا الصنف من الكلام عديمُ الفائدة، بل إنّ أثره مخالفٌ للمطلوب والمرتجى تماماً.
ومن هنا فقد مثَّل الله لهاتين الكلمتين بالشجرة، وهي نوعان: شجرة طيِّبة مثمرة مفيدة، يأنس بها صاحبها، ويحافظ عليها؛ لما تعود به عليه من المنافع والخيرات؛ وشجرة خبيثة مضرَّة، لا تعود على صاحبها بنفعٍ، بل تفسد عليه زَرْعه، فيكون مصيرها الاقتلاع، والرَّمْي بعيداً.
وعلى الناس أن يتذكَّروا ويتدبَّروا في ذلك كلِّه؛ لكي يحسنوا الاختيار.
وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى ورغَّبهم بالكلمة الطيِّبة، ولكنَّهم إذا شاؤوا أن يسيروا في المَسْلَك الآخر، فقد أتاحه لهم، وفتح لهم الباب، وترك لهم حرِّيّة الاختيار؛ لكي يتميَّزوا عمَّنْ سواهم من الكائنات المسيَّرة. ومن هنا صحَّتْ نسبة الإضلال إليه جلَّ وعلا، أي هو الذي أتاح وفتح باب الضلال، ولكنَّه لا يُجبر أحداً على الدخول فيه، وإنَّما يدخله المَرْء بمَحْض إرادته، وسوء اختياره، فيستحقّ بذلك الخِزْي والعار والعقاب.
المُكذِّبون بآيات الله في نُصُبٍ وعذاب
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ (الأعراف: 175 ـ 178).
في حديثه عن المكذِّبين بآيات الله يضرب لهم القرآن الكريم مَثَلاً واضحاً يلحظه كلُّ إنسانٍ بيُسْرٍ وسهولة.
فلقد آتى الله بني آدم آياتِه واضحةً جليّة، ودعاهم إلى التفكُّر في آياته في هذا الكَوْن الفسيح، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ﴾ (الروم: 8)، وقال: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)، وقال: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ (الغاشية: 17 ـ 21)، وأقام لهم أعلامَ هدايةٍ، يفسِّرون لهم ما خَفِي عليهم من معاني آيات الله.
ولكنَّ بعض الناس اختار لنفسه طريقاً آخر، فأعرض عن آيات الله، واتَّبع هواه، مستَكْبِراً بعلمه، ومختالاً بفكره. وهكذا أعلن تكذيبه لآيات الله، ورفضه الامتثال لما جاء فيها، وعزمه على عدم اتِّباعها، فلا تراه يرتدع عن غيبةٍ، أو نميمة، أو فتنة، أو سفور، أو شرب خمر، أو خيانة، أو فاحشة، أو ظلم، أو معصية من معاصي الله.
كما أنّه لا يلتزم بطاعةٍ أو عبادة، فلا هو يقيم الصلاة، ولا يؤتي الزكاة، ولا يصوم، ولا يحجّ، ولا يجاهد…
لقد وسوس لهم الشيطانُ فاتَّبعوه، وأغراهم بالمعصية فأطاعوه.
لقد ركنوا إلى الدنيا، وغرَّتهم زينتُها وشهواتها، فاتَّبعوا أهواءهم، وحكَّموا آراءهم، غافلين عن أنّ «حبَّ الدنيا رأس كلِّ خطيئةٍ»، وكأنَّهم لم يسمعوا قولَ أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب(ع): «إنّ أخوفَ ما أخاف عليكم اتِّباعُ الهوى، وطولُ الأَمَل»([3]).
مَثَل هؤلاء في هذه الحياة الدنيا كمَثَل الكَلْب، يلهث دائماً، وكأنَّه تَعِبٌ عطشان. وهؤلاء في حالة تعطُّشٍ دائمٍ لمزيدٍ من الشَّهوات ولذائذ الدنيا.
ويقولون: إنّ هذه الآية نزلَتْ في شخصٍ معيَّن من بني إسرائيل. ورُبَما كان ذلك صحيحاً، ولكنَّها قابلةٌ للانطباق على كلِّ مَنْ كذَّب بآيات الله، من الأوَّلين والآخرين. وقد رُوي عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: «الأصلُ من ذلك بَلْعَم [بن باعوراء]، ثمَّ ضربه الله مَثَلاً لكلِّ مُؤْثِرٍ هواه على هوى الله من أهل القبلة»([4]).
المُكَذِّبون للأنبياء(عم) في خوفٍ وجوع دائمَيْن
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النحل: 112 ـ 117).
قيل، وما أصدقه من قولٍ!: «نعمتان مجهولتان: الصحّة؛ والأمان»([5]).
والإنسانُ لا يعرف قدر هاتين النِّعمتين ـ كما غيرهما ـ إلاّ أن يفقدهما، وحينها لا تنفع معرفةٌ أو عِلْم أو نَدَم.
ولقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يبيِّن للناس عاقبةَ معصيته، وهي سنّةٌ إلهيّة لا تتخلَّف متى وُجد المقتضي لها، وتوفَّرت كلّ شروطها، وارتفعت الموانع أجمع.
وهكذا ضرب الله مَثَلاً للمكذِّبين بآياته، المُعْرِضين عنها، المتمرِّدين عليها، وهو قريةٌ كانت آمنةً مطمئنّة، تعيش في أمنٍ وسلام، وبحبوحةٍ واستقرار، تحمد الله وتشكره على عظيم نِعَمه، وهي كثيرةٌ، فإذا بها ـ أو بأغلبها، ولا يعترض الآخرون ـ قد كفرَتْ بأنعم الله، وتركَتْ شُكْرَه، قَوْلاً وعَمَلاً، فلا عابدَ فيهم ولا ذاكرَ، ولا مطيعَ ولا شاكرَ، بل يلهثون خَلْفَ المال الحرام، والطعام الحرام، والعمل الحرام.
لا يتورَّعون عن أكل الرِّبا، أو مال اليتيم، أو مال بعضهم البعض بغير حقٍّ، ولا يتجنَّبون لَحْمَ الميتة أو الخنزير أو الخمر، ولا يبالون بإسرافٍ أو تبذير، أو إتلافٍ للنِّعمة، أو سرقةٍ أو رَشْوة، أو نصرة ظالمٍ مفسد، أو خذلان مظلوم.
وكلُّ ذلك تكذيبٌ بآيات الله؛ لأنّها ممّا نهى اللهُ عنه صريحاً في كتابه وسنّة نبيِّه وأوليائه(عم).
فماذا كانت النتيجة؟
لقد جعل الله كُفرانَ النِّعمة مقتضياً لزوالها، وهكذا أحاط أولئك الذين كفروا بنعمته، وكذَّبوا بآياته ـ وهي أهمّ نعمةٍ إلهيّة ـ، بالجوع والخوف، كما يحيط اللباسُ بالبَدَن، فيستوعبه، كذلك استوعب الجوع والخوف ونقص الأموال والثمرات حياةَ أولئك كلَّها. فلا يخرجون من مشكلةٍ إلاّ ليدخلوا في أخرى أشدَّ وأدهى.
أيُّها الأحبَّة، انتبهوا لطعامكم وشرابكم جيِّداً، فلقد حرَّم الله عليكم جملةً من الأمور، وجعل عاقبة مَنْ يرتكبها ما ذكرناه من الجوع والخوف.
وقد رُوي عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه قال: «كان أبي [أي الإمام الباقر(ع)] يكره أن يمسح يده بالمنديل وفيه شيءٌ من الطعام؛ تعظيماً له، إلاّ أن يمصّها، أو يكون إلى جانبه صبيٌّ فيمصّها له، قال: وإنِّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقَّده، فيضحك الخادم»، ثمّ قال: «إنّ أهل قرية ممَّنْ كان قبلكم كان الله قد أوسع عليهم حتَّى طعنوا، فقال بعضُهم لبعضٍ: لو عمدنا إلى شيءٍ من هذا النقيّ فجعلناه نستنجي به كان ألْيَنَ علينا من الحجارة؟ قال: فلما فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد، فلم يدَعْ لهم شيئاً خلقه الله يقدر عليه إلاّ أكله، من شجرٍ أو غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كان يستنجون به فأكلوه، وهي القرية التي قال الله: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾»([6]).
تاركو العَمَل بالشَّريعة، تعبٌ بلا طائل
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الجمعة: 5).
حين تتحدَّثُ عن بني إسرائيل ـ وهم اليهود ـ فعليكَ أن تستحضر كلَّ مفاهيم السُّوء والشرّ، من الجَوْر والعدوان، والقتل والخداع، والحِقْد والفتنة، والمَكْر وكُفْران النِّعمة….
بنو إسرائيل في هذه الآية المباركة مثالٌ لكلِّ الذين يُحَمَّلون العِلْم والهُدى والشَّريعة الحَقّ، فلا يتحمَّلونها، ويُعْرِضون عنها.
تأمرهم بما فيه مصلحتُهم، وما يجلب لهم كلَّ خيرٍ ونفع، وتنهاهم عن كلِّ ما فيه مفسدتهم، وما يجنِّبهم الشرّ والأسواء، فيتمرَّدون على كلِّ الأحكام، ويتملَّصون منها بأعذار واهيةٍ، هي كما يقول المَثَل: «عُذرٌ أقبحُ من ذَنْبٍ»([7]).
وفي تقريبٍ للفكرة إلى أذهان الناس كافّةً، على اختلاف مستوياتهم الفكريّة والإدراكيّة، يضرب الله للناس مَثَلاً يصوِّر فيه هؤلاء على حقيقتهم.
إنّه يشبِّههم بـ (الحمار) ـ وهو ذاك الحيوانُ الصبور، القادر على حمل الأثقال ونقلها من بلدٍ إلى بلدٍ ـ، فهم شِبْهُ ذاك الحيوان (الحمار) وقد حُمِّل كتباً علميَّة كثيرة، فإنَّه لا ينتفع منها بشيءٍ، ولا يناله منها سوى التَّعَب والعذاب.
إنّ كلَّ ما في تلك الكتب من العلوم والمعارف لن يستنقذ ذلك الحيوان الأصمّ ممّا هو فيه من العذاب والشقاء؛ لأنّه لا يتفاعل معها كما ينبغي، فهو يحملُها على ظهره، وينقلها من مكانٍ إلى آخر، ولكنَّه لا يتوسَّل الطريقَ الصحيح للاستفادة منها، فهو لا يقرأ منها شيئاً، ولا يتدبَّر في محتوياتها، فأنَّى له أن ينتفعَ بها؟!
وكذلك هي حالُ أولئك الذين أرسل اللهُ الأنبياءَ والرُّسُل ـ في سلسلةٍ متَّصلة ـ لينقلوا إليهم ـ بكلِّ أمانةٍ ـ تعاليمَ الله وأحكامه، وليستنقذوهم ممّا يتخبَّطون فيه من عاداتٍ وتقاليد جاهليّةٍ، قد جرَّتْ عليهم الوَيْلات. فكيف تعاملوا معهم؟
لقد كذَّبوهم، وعذَّبوهم، وقتلوهم، وأذاقوهم ألواناً من الأذى والبلاء.
لقد كذَّبوا بآياتِ الله، فحرموا أنفسهم ممّا تحويه من نَفْعٍ وخير: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمْ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: 33).
أيُّها الأحبَّة، ليس في وُسْع أحدٍ من الناس اليوم أن يقول: لم يصِلْني بلاغٌ؛ فالعِلْمُ مطروحٌ في كلِّ مكانٍ، ووسائلُ التواصل أصبحَتْ في متناول الجميع، والكلُّ قادِرٌ على السؤال والتحرّي عن الحقيقة كاملةً غير منقوصة.
مَنْ لا يؤمن بالنبيِّ الخاتَم، الذي هو مكتوبٌ ومنعوتٌ في التوراة والإنجيل، فمَثَله كمَثَل الحمار يحمل أسفاراً، لا يستفيد منها في شيءٍ: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ﴾ (الأعراف: 157).
وكذلك هو مَثَلٌ لمَنْ يدَّعي الإسلام وهو لا يعمل بما جاء في مصادر الأحكام ـ من قرآنٍ كريم وسنّةٍ شريفة ـ. فالقرآن الكريم ليس كتاب بركةٍ؛ لكي نزيِّن به مكتبات بيوتنا، أو لنقرأه على أمواتنا ومرضانا، أو لنحمله ونتوسَّل به إلى الله في بعض عباداتنا، وإنَّما هو كتابُ عقيدةٍ وشريعة، إنّه كتابُ حياةٍ لمَنْ قرأه، وتدبَّر في آياته، وعمل بأحكامه، وذلك هو الحامل للقرآن بحقٍّ، ومَنْ عداه فمَثَله كمَثَل الحمار يحمل أسفاراً.
اللهُمَّ، لا تجعل الحقّ والباطل متشابهَين علينا، فنتّبعَ هوانا بغير هُدىً منكَ، يا لطيفاً بالمؤمنين. اللهُمَّ، آمِنّا في أوطاننا، لا تسلِّطْ علينا مَنْ لا يخافُك ولا يرحمنا، واجعَلْ عاقبةَ أمرنا خيراً. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.
**********
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) وهذا القول منسوبٌ إلى عبد الله بن عبّاس، فراجع: الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير جوامع الجامع 2: 282؛ الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 6: 74.
([2]) رواه الصدوق في الأمالي: 305 306، عن محمد بن موسى بن المتوكِّل(ر) ، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن يوسف بن عقيل، عن إسحاق بن راهويه عن أبي الحسن الرضا(ع).
ورواه الصدوق أيضاً في ثواب الأعمال: 6، عن محمد بن موسى بن المتوكِّل، عن أبي الحسن الأسدي، عن محمد بن الحسين الصوفي، عن يوسف بن عقيل، عن إسحاق بن راهويه، عن أبي الحسن الرضا(ع).
ورواه الصدوق أيضاً في عيون أخبار الرضا(ع) 1: 144، عن محمد بن موسى بن المتوكل,، عن أبي الحسين محمد بن جعفر الأسدي، عن محمد بن الحسين الصولي، عن يوسف بن عقيل، عن إسحاق بن راهويه، عن أبي الحسن الرضا(ع).
ورواه الصدوق أيضاً في عيون أخبار الرضا(ع) 1: 146، عن أحمد بن الحسن القطّان، عن عبد الرحمن بن محمد الحسيني، عن محمد بن إبراهيم بن الفزاري، عن عبد الرحمن بن بحر الأهوازي، عن أبي الحسن عليّ بن عمرو، عن الحسن بن محمد بن جمهور، عن عليّ بن بلال، عن عليّ بن موسى الرضا(ع)، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب(عم)، عن النبي(ص)…، الحديث إلى قوله: من عذابي.
([3]) نهج البلاغة 1: 72، من خطبةٍ له(ع) في إدبار الدنيا وإقبال الآخرة…؛ نهج البلاغة 1: 92 93، من كلامٍ له(ع) في اتّباع الهوى، وفي إدبار الدنيا…: «أيُّها الناس، إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتِّباع الهوى؛ وطول الأمل».
([4]) رواه الطوسي في التبيان في تفسير القرآن 5: 32، معلَّقاً.
([5]) اعتبره الشيخ محمد مهدي الحائري في شجرة طوبى 2: 368 خبراً (أي حديثاً). وبعد التتبُّع وجدتُ الحديث بهذه الصيغة: «نعمتان مجهولتان: الأمن؛ والعافية». وقد رواه الفتّال النيسابوري في روضة الواعظين: 472، معلَّقاً مرفوعاً.
([6]) رواه العيّاشي في التفسير 2: 273 274، معلَّقاً عن زيد الشحّام، عن أبي عبد الله(ع).
([7]) هو مَثَلٌ مشهورٌ على الألسنة، ولكنْ لم نعثر عليه في مصدرٍ أصل. ولهذا المَثَل قصّةٌ طريفة، خلاصتها: يقول الرواة: إنّ هارون الرشيد طلب من الشاعر أبي نواس، وهو يسامره ذات ليلة، أن يعطيه مثالاً يوضِّح كيف يمكن للمرء أن يعتذر عن ذنبٍ ارتكبه بما هو أقبحُ من الذنب نفسه، فوعده أبو نوّاس أن يعطيه هذا المثال، على أن يمهله بضعة أيام… وبعد أن مرَّت عدّة أيام رأى أبو نواس هارون الرشيد واقفاً عند نافذةٍ يتأمَّل جمال الحديقة أمام قصره، فاقترب منه بخفَّةٍ، وغافله، وضربه بلطفٍ على قفاه. فالتفت إليه هارون الرشيد، ويده على مقبض سيفه، وقال له غاضباً: ويل أمِّك، كيف تجسر على ما فعلت؟ فقال أبو نواس: لا تغضب يا مولاي، فقد ظننتُك سيِّدتي زينب، فاستشاط هارون الرشيد غضباً، وقال: ويلك أيُّها الفاسق القبيح، وهل تجسر على أن تفعل مثل ذلك مع سيِّدتك؟ فردَّ عليه أبو نوّاس قائلاً: يا مولاي، هذا هو المثال الذي طلبتَه منّي على العُذْر الذي يكون أقبح من الذنب. فضحك هارون الرشيد وعفا عنه.