15 يونيو 2012
التصنيف : كتيّبات: مفاهيم إسلامية
لا تعليقات
3٬369 مشاهدة

إعجاز القرآن الكريم

(بتاريخ: 2 ـ 2 ـ 2006م)

(اختصاراً لما كتبه الشهيد الشيخ مرتضى مطهَّري في هذا الموضوع / نشر مركز الإمام الخمينيّ الثقافيّ)

الأسئلة التمهيديّة:

1ـ ما هي معجزة النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأساسيّة؟

2ـ كيف عرفنا بإعجاز القرآن الكريم؟

3ـ ما هي وجوه الإعجاز القرآنيّ؟

4ـ كيف بيَّن القرآن الكريم مفهوم التوحيد؟

5ـ كيف بيَّن القرآن الكريم علاقة الإنسان بالله؟

***************

تمهيد

تحدَّثنا فيما سبق عن المعجزة بشكلٍ عامّ، ونتحدَّث في هذا البحث عن المعجزة بشكلٍ خاصٍّ، أي عن معجزة نبِيٍّ من الأنبياء (عليهم السلام) بعينِه، وسنجعل الكلام حول معجزة النبِيّ الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخالِدة، ألا وهي القرآن الكريم.

تحدّي القرآن

لقد تحدّى القرآن الكريم بنفسه، ومنذ أوّل نزوله، البشر جميعاً أن يأتوا بمثله، فقال: ﴿قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾ (الإسراء: 88).

ولم يكتفِ بذلك، بل تحدّاهم أن يأتوا بعشر سورٍ مثله، بل بسورةٍ مثله، فقال: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (هود: 13)، وقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (يونس: 38).

فقابل دعواهم أنَّه مفترىً بالتحدّي أن يأتوا بسورةٍ مثلِه، وهو ما لم يستطيعوه أبداً، الأمر الذي يعني أنَّه كلامٌ فوقُ بشرِيّ، وليس بمقدور أحدٍ أن يحاكيه، وبالتالي فهو كلام الله (عزّ وجلّ)، الدالّ على أنَّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبِيٌّ مرسَلٌ من عند الله تعالى، وهو المعجزةُ الخالِدة لذلك النبِيّ.

والمُلفِت هاهنا أنَّ القرآن الكريم لم يتحدَّ بعضاً من الناس دون البعض الآخر، ولم يصرِّح بكون إعجازه في بُعدٍ معيَّنٍ دون بُعدٍ آخر، بل كان تحدّيه الإنسَ والجِنَّ بأن يأتوا بمثل القرآن مطلَقاً شامِلاً لكُلِّ فردٍ من أفراد الإنس والجِنّ، العامّة والخاصّة، الجاهل والعالم، الرجل والمرأة،…إلخ.

كما أنَّه لم يُقيِّد التحدّي بالإتيان بمثل القرآن في جهةٍ من الجهات، بل كان تحدّيه بالإتيان بمثلِ القرآن مطلَقاً.

وكُلُّ ذلك يُظهر أنَّ القرآن يدّعي عمومَ إعجازِه من جميع الجهات.

ميزة القرآن

ويتميَّز القرآن عن غيره من معجزات الأنبياء بأنَّه كلامٌ، وطبيعة الكلام تختلف عن طبيعة غيرِه بأمرَيْن:

أوّلاً: إنَّه يدلُّ على المتكلِّم أكثر من أيِّ فعلٍ آخر.

ثانياً: إنَّه قابِلٌ للبقاء دون غيرِه.

ومن هنا نرى أنَّ معجزات الأنبياء كانت وقائع حدثت في زمنٍ ما، وشاهدها عددٌ محدودٌ من الناس، وأمّا الآخرون فينبغي لهم الاطّلاع عليها بالنقل.

في حين أنَّ القرآن الكريم، الذي هو عبارة عن كلام الله (عزّ وجلّ)، بقي خالِداً، تتناقله الأجيال فيما بينها، كمعجزةٍ حاضرةٍ لكُلِّ الناس، وفي كُلِّ زمانٍ ومكانٍ.

بعض جهات إعجاز القرآن

1ـ الفصاحة والبلاغة

الفصاحة من مقولة الجمال، وهو يرتبط بالقلب والمشاعر، لا بالعقل والفكر.

والقرآن فيما يرتبط بإعجازه من جهة الجمال هو نصٌّ جذّابٌ، ويتعاطى مع الإحساس المعنويّ للإنسان، أي مع تلك الأحاسيس التي تحرّك الإنسان، وتدفعه صوب العالم العلوِيّ.

أـ القرآن والتعبير الشعرِيّ

لم يعتمد القرآن في تعابيره على ما شاع عند الفصحاء والبلغاء من أنَّ الجمال قد يكون في الكذب، بحيث ترى الشعراء يتفنّنون في تضمين أشعارهم بعض الصور الفاقعة الكذب، وذلك كنوعٍ من إضفاء مسحة من الجمال على قصائدهم، وقد قيل في الشعر: أعذبه أكذبه.

ولكنَّ القرآن الكريم رفض هذا المنطق، ولم يستخدمه بتاتاً، فهو من هذه الناحية يختلف مع الشعر تماماً، وإنْ كان يتفق معه من نواحٍ أخرى، كقابليّته للنغم، وستأتي الإشارة لهذا فيما بعد إنْ شاء الله تعالى.

ب ـ القرآن والتشبيهات

لم يستخدم القرآن التشبيه كثيراً، بل التشبيهُ فيه قليلٌ جدّاً.

ولعلّ السرّ في ذلك أنَّ القرآن كتابُ هدايةٍ، ومن هنا لم يكن تركيزه على الجمال، بل ذكر المسائل التي يذعن لها عقلُ الإنسان بعيداً عن الخيال.

ومع ذلك فهو جميلٌ واستثنائيٌّ، حيث كانت كلماتُه وتعابيرُه وتصويراتُه فائقة الجمال.

ومن هنا نخلص إلى القول بأنَّ القرآن معجزةٌ، بمحتوياته، وبلفظه، وجماله وشكله معاً[1].

وبعبارةٍ أخرى: لقد كان القرآن الكريم الوسيلة الوحيدة التي اتَّخذها النبِيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لجذب الناس إلى دعوته، ومواجهة المناوئين، وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعداء الرسالة آنذاك، إلاّ أنَّهم عزوه إلى السحر، وإلى أنَّ فيه طلسماً هو الذي يضفي عليه قوّة الجذب.

2ـ الإعجاز العلميّ والفكريّ للقرآن

وهو يرتبط بمحتويات القرآن، ولا علاقة له بلفظه وظاهره.

ونحن لو أخذنا بعض الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن، كالتوحيد مثلاً، فسنرى أنَّ مقاربة القرآن لها كانت بنحوٍ يفوق بكثيرٍ ما كان سائداً ومألوفاً في العالم برمّته، حتّى ما كان سائداً عند اليونان والرومان.

وهذا خيرُ دليلٍ على إعجازه، ولا سيّما أنَّه صدر من رجلٍ عربيٍّ أُمِّيٍّ.

وهكذا هو الحال في المسائل الأخرى، كالأخلاق، والتربية، والتعاليم، والقوانين، فهي في القرآن الكريم بمستوى يفوق كلّ مستوى كانت أو تكون عليه، حتّى إنَّه يُلحظ أنَّ ما جاء في القرآن حول هذه المواضيع أرقى وأسمى ممّا جاء في الروايات والفقه الإسلامِيّ حولها؛ وذلك لتواتر القرآن، وتدخُّل الأيدي البشرِيَّة في الروايات والفقه.

فكيف تكون مقاربةُ هذه الموضوعات بهذا الرقيّ وهي صادِرةٌ من رجلٍ أُمِّيٍّ؟!

هذا ولا شكَّ يثبت لنا أنَّ القرآن من عند الله وحده لا شريك له.

وقد ذكر القرآن الكريم مسائل عديدة في مجال الطبيعة، كالذي ذكره حول الريح، والمطر، والأرض، والسماء، والحيوانات، ولا زال العلم يصل بين فترةٍ وأخرى إلى حقائق قد أثبتها القرآن منذ 1400 سنة، ولكنَّها لم تكن مفهومةً آنذاك، وكانت تُعتَبَر من الموارِد المتشابِهات.

وقابلِيّةُ الكشف هذه في القرآن الكريم قد وردت في كلام النبِيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمّة (عليهم السلام)، الذين ذكروا أنَّ القرآن معجِزٌ بلفظه ومعناه، وأنَّه جديدٌ على الدوام لا يبلى، وأنَّه لا يختصُّ بزمان دون زمان[2].

3ـ الإعجاز اللفظِيّ

أـ صيغة البيان القرآنيّ

يمتاز القرآن الكريم بصيغةٍ بيانيّةٍ لا يضاهيها فصاحةً وبلاغةً أيُّ كلامٍ آخر، حتّى كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والإمام عليّ (عليه السلام)، فمع ما عليه نهج البلاغة من بلاغةٍ وفصاحةٍ إلاّ أنَّه لو ضُمِّنت بعض خطبه خطباً أخرى لالتبس الأمر على القارئ، ولم يميِّز كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن كلام غيره، بينما لا يحصل هذا الأمر في القرآن أبداً، فهو عصِيٌّ على التقليد، ممتنِعٌ على المعارَضة، رغم أنَّ كثيرين حاولوا معارضته، لكنَّهم فشلوا فشلاً ذريعاً، حتّى قيل فيهم بالصّرْفة، بمعنى أنَّ الله عاقبهم؛ لمعارضتهم القرآن، بأن جعل كلامهم منحطّاً حتّى عن مستوى الكلام العاديّ.

ب ـ قابليّة القرآن للنغم

من الواضح أنَّه ليس كلّ النصوص الأدبيّة قابلةً للحن والنغم، فقد تسالموا على قابليّة الشعر وحده لذلك، ومعنى القابلِيّة للحن هو أن يكون أداؤه بنغمٍ ولحنٍ موسيقِيٍّ أفضل في بيانه وتأثيره من أن يؤدّى بغير نغمٍ ولحنٍ.

ويمتاز القرآن الكريم عن غيره من النصوص النثريّة بقابليّته للنغم، فمع أنَّه ليس شعراً؛ إذ لا وزن فيه، ولا قافية، ولا يعتمد الخيال والتشبيهات الشعرِيّة، نراه يقبل اللحن والنغم، وتأثيره معهما أكبر من تأثيره من دونهما، ومن هنا كانت الوصيّة منهم (عليهم السلام) بتلاوة القرآن بالصوت الحَسَن[3]، وفي بعض الأخبار: «تغنَّوْا بالقرآن».

وهنا ينبغي الإشارة إلى أنَّ الغناء هو كُلُّ لحنٍ لطيفٍ يثير الأحاسيس، ولكنَّه ليس مذموماً بشكلٍ مطلَقٍ، بل المذموم منه هو الذي يحرِّك الأحاسيس الشهويّة في الإنسان، وأمّا المثير للأحاسيس الرفيعة واللطيفة في الإنسان، بحيث يغدو العقلُ أقوى، وأمضى بصيرةً، والضمير أكثر استيقاظاً، فتجري الدموع، ويدفع الإنسان إلى ذكر الله، فهو غناءٌ غير مذموم، وهو ما حثَّت عليه الروايات.

وقد أولى النبِيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عنايةً خاصّةً لتلاوة القرآن بالصوت الحسن، فرغم أنَّ القرآن قد نزل عليه هو فقد كان يستدعي ذوي الصوت الحسن من أصحابه، ويطلب منهم أن يقرؤوا القرآن في محضره، ويتأثَّر بقراءتهم، وما ذلك إلاّ لالتذاذه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بسماع تلاوة القرآن، الأمر الذي يُعَدُّ مظهراً من مظاهر إعجازه اللفظِيّ.

ويُلاحظ المتأمِّل في القرآن أنَّ لحن القرآن ونغمه يختلف من آيةٍ إلى أخرى باختلاف موضوعاتها.

ففي الوقت الذي نرى فيه الآيات الداعية إلى التدبُّر، والتأمُّل، والتفكير، والتذكُّر، والموعظة، طويلةً هادئةً، كقوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: 16)؛ إذ لا بدَّ وأن تُلقَّن هذه الكلمات للقلب بهدوءٍ وتأنٍّ، نرى آيات العذاب، والإنذار، والتخويف، قصيرةً شديدةً، كقوله تعالى: ﴿وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ (الطور: 1 ـ 8).

والهدف من هذا السجع القصير، والضغط الشديد، التأثير في الروح بشكلٍ متَّصِلٍ، لا انفصال له، بحيث تنقلب بعد هذا الكلام من حالٍ إلى حالٍ.

وخيرُ دليلٍ على أنَّ من إعجاز القرآن قابليّته للنغم واللحن ما نشاهده من رواج تلاوة القرآن بالأنغام المختلفة في كلّ الراديوهات والتلفزيونات تقريباً، وما ذلك إلاّ لكون المستمعين، حتّى من غير المسلمين، يلتذّون بألحان القرآن، الأمر الذي يدفعهم لدراسته، والوقوف على مضامينه، وهو ما سيؤدّي بهم إلى الإيمان به، والالتزام بتعاليمه، وهذا هو ما يبتغيه القرآن في هدايته للناس.

ومن الطبيعيّ أنَّ هذا الكلام إنَّما يصدق في القرآن الكريم باللغة العربيّة، دون ما لو تُرجِم إلى لغاتٍ أخرى، ومن هنا ينبغي التركيز في ربط الناس، ولا سيّما الأجانب منهم، بالقرآن على أن يقرأوه باللغة العربيّة، فيتعلَّمونها ولو لأجل أن يقرأوا القرآن بها، وأمّا أن نقلِّل من أهمّيّة ذلك فهذا ما سيجعل اطّلاعهم على القرآن وإعجازه ناقصاً ومشوَّهاً.

وهُنا لا بدّ من الالتفات إلى مسألةٍ مهمّةٍ، وهي أنَّ القرآن الكريم قد تناول موضوعاتٍ لا تدركها الأحاسيس العاديّة والطبيعيّة للإنسان، الأمر الذي يزيد من صعوبة بيانها بهذا الشكل الجمالِيّ الرائع الموجود في القرآن.

بيانُ ذلك: حين يريد البعض، ومنهم علماء في الفقه والعرفان، أن يصفوا أمراً معنويّاً يفعلون ذلك في إطار الغَزَل؛ لأنَّ الغَزَل ميدانٌ فسيحٌ للبيان، ويعتمدون المصطلحات الغَزَلِيَّة المادِّيَّة، إلاّ أنَّهم يشيرون بها إلى تلك الأمور المعنوِيَّة التي يريدونها، فيصير الشَّعْر كنايةً لشيءٍ، والعين كنايةً لشيءٍ، وهكذا.

والذي يجعل من القرآن معجزةً هو أنَّه تعرَّض لأمورٍ معنويّةٍ كثيرةٍ، بيد أنَّه لم يسلك السبيل الذي سلكه هؤلاء، فنراه يصف الله وبكلّ بساطةٍ فيقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الفاتحة: 1)، و﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ (التوحيد: 1 ـ 4).

4ـ الإعجاز المنطقيّ في القرآن

إنَّ بعض الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن الكريم لم تكن مطروقةً من قبلُ في تاريخ الفكر الإنسانيّ، وهذه علامةٌ على أنَّ هذا الكتاب قد أطلّ على البشر من أفقٍ أعلى، ولعلّ هذا ما تشير الآية: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (البقرة: 23)، بناءً على أنَّ الهاء في قوله: «من مثله» راجعةٌ للنبِيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ صدور هذا القرآن بهذا الجمال، وهذه الموضوعات الجديدة، من رجلٍ أُمِّيٍّ، يفتقر إلى القراءة والكتابة، وقد عاش في مجتمعٍ وبيئةٍ لا يعرفان شيئاً عن هذه الموضوعات، لهو شيءٌ مدهشٌ للغاية، ودليلٌ على أنَّ هذه الكلمات قد صدرت من أفقٍ أعلى من أفق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ومن هذه الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن المنطق.

وهنا نذكر مقدّمة، وهي:

عرف العالم نوعَيْن من المنطق:

أحدهما: المنطق الأرسطيّ، ويُسمّى أيضاً منطق الصورة؛ لسعيه وراء شكل تصميم الصورة، فهو يركِّز على كيفيّة ترتيب المقدّمات ترتيباً صحيحاً لنصل إلى النتيجة الصحيحة، ولكنَّه لم يُعِرْ أيَّ أهمِّيَّةٍ للتأكُّد من صحّة هذه المقدّمات، الأمر الذي أوصل الكثير من أصحاب هذا المنطق إلى أفكار خاطئة.

وثانيهما: منطق المادّة، ولا نعني به المنطق الماديّ، وفرقٌ كبيرٌ بينهما.

وقد سعى أصحاب هذا المنطق وراء شرط سلامة الموادّ الفكرِيّة وصحّتها.

وبعبارةٍ أخرى: صبّوا اهتمامهم على كون الفكرة ـ المقدّمة صحيحةً للوصول إلى نتائج صحيحةٍ، واستخفّوا بالمنطق الأرسطيّ، معتبرين أنَّ كُلَّ إنسانٍ بفطرته يدرك الكيفيّة الصحيحة لترتيب المقدِّمات، فالمهمّ إذاً هو صحّة هذه المقدّمات، وإلاّ فستكون النتيجة خاطئةً.

ومن أركان هذا المنطق: «بيكون»، و«ديكارت»، حيث حاولا اكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة.

فذهب «بيكون» إلى أنَّ من أسباب خطأ المادّة الفكريّة وجود الأصنام الفِرقِيّة (الطائفيّة)، والشخصِيّة، والاجتماعِيّة، والاقتصاديّة، وغيرها من الأصنام الشكلِيَّة، مثالُ ذلك: إنَّ للأهواء النفسيّة تأثيراً في الفكر والعقيدة، فبعضُ ما تقوله أحياناً هو تعبير عن الهوى النفسيّ، وليس عن لغة الفكر والعقل.

وذهب «ديكارت» إلى أنَّ خطأ العلماء والفلاسفة يرجع في الأكثر إلى تعجُّلهم في الفصل في الأمور، وبعبارةٍ أخرى: إلى اعتمادهم على ما يحصل لهم من ظنٍّ في فكرةٍ ما، وقبل أن يصل الأمر إلى حدّ القطع واليقين.

ونأتي الآن لذكر مناشئ الخطأ الذهنِيّ بحَسَب القرآن الكريم.

يعتبر القرآن الكريم أنَّ من سبل الخطأ في الفكر اتّباع الظنّ.

ومن هنا كان تشديده على النهي عن الظنّ، فقال: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ (الإسراء: 36).

واستنكر قول الذين قالوا: مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ، فقال: ﴿وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ﴾ (الجاثية: 24).

وقال: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116).

ونسأل: أليس هذا هو ما وصل إليه «ديكارت» بعد مئاتٍ من السنين، فكيف عرفه نبيّ الرحمة محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك الوقت؟!

وكذلك يركِّز القرآن على تقليد الماضين كسبيلٍ من سُبُل الخطأ في الفكر، وهو عينُه ما سمّاه «بيكون» الصنم الفِرقيّ والاجتماعيّ، وقد حذَّر جميع الأنبياء أممَهم من هذه السبيل المهلِكة، وهي: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 23).

وممّا عدَّه القرآن الكريم من سبل الخطأ في الفكر السرعة في القضاء، فنراه يُحذِّر الإنسان من الوقوع في هذه الآفة الخطيرة، عبر تذكيره إيّاه بأنَّه فُطِر على حبّ العَجَلة، فيقول: ﴿خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ (الأنبياء: 37)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾ (الإسراء: 11).

ويُؤكِّد له في أكثر من آيةٍ إلى أنَّ ما أوتِيَه من العلم ليس إلاّ القليل، الذي لا يخوِّله معرفة الحقّ بشكلٍ سريعٍ، فيقول: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 85)، ويقول: ﴿…وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 6 ـ 7).

وهذا هو عين ما ذهب إليه «ديكارت».

ومن سُبُل الخطأ في الفكر، بحَسَب القرآن أيضاً، هوى النفس، حيث قال تعالى: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ﴾ (النجم: 23).

وهذا هو بعينه ما يُعبِّر عنه «بيكون» بالصنم الشخصيّ.

ومنها بحَسَب القرآن أيضاً اتّباع الكُبَراء، أصحاب المدارس والمذاهب، فقد بيَّن تعالى أنَّ اتِّباع الكُبَراء والسادات هو من المُهلكات، فقال: ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ﴾ (الأحزاب: 66 ـ 67).

وهذا هو ما عبَّر عنه «بيكون» بالأصنام الشكلِيَّة.

أفَلا يُعَدُّ هذا كلّه إعجازاً منطقِيّاً للقرآن، وهو يصدر من رجلٍ أُمِّيٍّ؟!

5ـ إعجاز البحث التوحيديّ في القرآن

إنَّ ما انطوى عليه القرآن في شأن التوحيد والمعارف الإلهيّة يتجاوز حدود فكر إنسانٍ، مهما كان نابغةً، بلحاظ البيئة التي نزل فيها القرآن، بل إنَّ معارف القرآن في التوحيد والإلهيّات تبقى متميِّزةً بشكلٍ استثنائيٍّ، بلحاظ مصادر مثل هذه المعارف، كالتوراة، والإنجيل، والأوستا[4]، والأفكار العلميّة والفلسفيّة السائدة آنذاك، فقد رسم القرآن الكريم لله صورةً تختلف تمام الاختلاف عمّا هو عليه في التوراة، والإنجيل، وبقيّة الكتب السماويّة المحرَّفة.

فالله المجرَّد المنزَّه هو من خصائص القرآن الكريم وحده، ويؤكِّد القرآن الكريم على تنزيه الله بشكلٍ كبيرٍ، فينزِّهه عن الوصف، والجسميّة، وكلّ نقصٍ، حيث يقول: ﴿ لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ (الأنعام: 103)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنعام: 100).

وكذلك فعلت الروايات الشريفة، ومؤدّى ذلك كلّه أنَّ الفهم البشريّ قاصرٌ عن إدراك الله بكنهه.

وفي الوقت نفسه تؤكِّد الآيات القرآنيّة على ثبوت صفات العظمة والجلال له سبحانه كأفضل ما تكون عليه هذه الصفات، فـ ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الحديد: 3)، و﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ (فصّلت: 54)، ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 115)، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الحديد: 4)، و﴿أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً﴾ (البقرة: 165)، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجمال.

فهل أنَّ هذه الأوصاف والنعوت قد صدرت من أُمِّيٍّ، في بيئةٍ لم تكن تعرف أمثال هذه الصفات، وإنَّما كانت تعتمد المحسوسات كأساسٍ في التوصيف؟!

ولو أردنا أن نقارن بين القرآن والاتّجاهات الفلسفيّة العالميّة التي تؤمن بالله في مضمار وصف الله لوجدنا أنَّ القرآن يفوق في وصف عظمة الله هذه الاتّجاهات جميعاً.

فقد ذهب الفلاسفة إلى أنَّ الله هو عِلّة العِلَل، وليس لديهم ما هو أكثر من ذلك.

أمّا الله الذي تحدّث عنه الأنبياء عامّةً، والإله الذي عرضه القرآن للبشر، فهو إلهٌ جميلٌ، جديرٌ بحبّ البشر، فالقرآن يُعرِّف الله بالأسلوب الذي يجعل حبّه يلتهب في داخل الإنسان، فينبض بالحركة صوب الله.

فالقرآن لا يقنع بجعل الله وراء الخلقة، بل يريد القول بأنَّ الإنسان في حياته كلّها يتحرّك نحو الله، فهو منبثقٌ منه، وراجِعٌ إليه، وكُلُّ شيءٍ في هذا الكون صائرٌ إليه، مسلِمٌ له، وعبدٌ له، ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ (آل عمران: 83)، و﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً﴾ (مريم: 93).

ومثل هذا المنطق، الذي يجعل الله أجمل وأحسن محبوبٍ، وأفضل مطلوبٍ، هو ممّا يختصّ به الأنبياء، بحَسَب لغة القرآن الكريم، وعليه فهو من مختصّات القرآن نفسه.

وهنا نسأل: لماذا لم يذكر أفلاطون، أو أرسطو، أو سقراط، مثل هذه الصيغة في البيان حيال الله، مع كونهم تربّوا وسط بيئةٍ علميّةٍ ثقافيّةٍ؟

والجواب: لأنَّ هؤلاء ينبثقون من طاقاتهم البشريّة الفرديّة.

وبهذا يتّضح أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يفيض من مصدرٍ آخر، ولا ينطق من عنده، بل يحكي لسان الوحي.

وقد وصف القرآن علاقة الإنسان مع الله بشكلٍ فائق الجمال؛ إذ يُعرِّف القرآن الكريم الإنسان بوصفه كائناً يتوق إلى الحقيقة، ويُنشِد الكمال، بحيث لا يهدأ مهما كانت المرتبة التي وصلها، إلاّ أن يصِل إلى الله، فأيُّ جمالٍ أكبر من جمال قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28)، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27 ـ 30).

فمن أين أتى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذا؟! وهل كان في محيطه سابقةٌ لهذا؟!

لا، وألفُ لا، بل هو وحيٌ يوحى.

والجديرُ بالالتفات هو أنَّ القرآن يُعرِّف الله للإنسان بأقوم الصيغ المنطقيّة معقولِيّةً.

ففي حين يفصل المسيحيّون الإيمان عن العقل والعلم نجد القرآن لا يفصل بين الإيمان والعلم البشريّ، فيحثّ البشر ويدعوهم دائماً للتأمُّل في آثار الخلقة، والتفكير فيها أكثر، وبهذا يعتبر القرآن العلم مبدأً للإيمان، ومن ذلك قولُه تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 164).

والقرآنُ هو الكتاب الوحيد الذي يُعَدُّ كلّ ما جاء به في مجال الإلهيّات صحيحاً، غير مختَلِطٍ بأيِّ كلامٍ خاطئٍ وغير صحيحٍ.

وهذا خيرُ دليلٍ على أنَّه ليس كلام البشر، بل هو كلام الله تعالى، أنزله على رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأظهره للناس بأمرِه، واعتَبَره معجزةً ودليلاً على حقّانِيَّة رسالته.

خلاصة الدرس

القرآن الكريم هو معجزة النبِيّ الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الخالِدة.

وقد تحدّى القرآن الكريم الإنسَ والجِنَّ بأن يأتوا بمثل القرآن، بل بعشر سورٍ مثله، بل بسورةٍ مثله، وكُلُّ ذلك بشكلٍ مطلَقٍ وشاملٍ، الأمر الذي يعني أنَّ القرآن ـ بنَظَر القرآن نفسه ـ معجِزٌ من جميع الجهات.

ويمتاز القرآن الكريم، الذي هو عبارة عن كلام الله (عزّ وجلّ)، عن معجزات الأنبياء أنَّه بقي خالِداً، تتناقله الأجيال فيما بينها، كمعجزةٍ حاضرةٍ لكُلِّ الناس، وفي كُلِّ زمانٍ ومكانٍ.

ومن جهات إعجاز القرآن الكريم:

1ـ الفصاحة والبلاغة: غير أنَّ القرآن الكريم رفض المنطق السائد في الشعر، وهو «أعذبُه أكذبُه»، ولم يستخدمه بتاتاً، فهو من هذه الناحية يختلف مع الشعر تماماً، كما أنَّه لم يستخدم التشبيه كثيراً، ومع ذلك فهو في غاية الفصاحة والبلاغة، حيث كانت كلماتُه، وتعابيرُه، وتصويراتُه، فائقة الجمال. وقد أقرّ بجاذبيّته وتأثيره أعداءُ الرسالة أنفسهم، وما ذلك إلاّ لفصاحته وبلاغته وجماله الساحر.

2ـ الإعجاز العلميّ والفكريّ: فقد تطرَّق القرآن الكريم للتوحيد بنحوٍ يفوق بكثيرٍ ما كان سائداً ومألوفاً في العالم برمّته.

وهكذا هو الحال في المسائل الأخرى، كالأخلاق، والتربية، والتعاليم، والقوانين، فهي في القرآن الكريم بمستوى يفوق كلّ مستوى كانت أو تكون عليه.

وقد ذكر القرآن الكريم مسائل عديدة في مجال الطبيعة، كالذي ذكره حول الريح، والمطر، والأرض، والسماء، والحيوانات، ولا زال العلم يصل بين فترةٍ وأخرى إلى حقائق قد أثبتها القرآن منذ 1400 سنة.

فهل يمكن لرجلٍ أُمِّيٍّ أن يُقارب هذه الموضوعات بهذا النحو الراقي؟!

لا، وهذا ما يثبت لنا أنَّ القرآن من عند الله (عزّ وجلّ).

3ـ الإعجاز اللفظِيّ: يمتاز القرآن الكريم بصيغةٍ بيانيّةٍ لا يضاهيها فصاحةً وبلاغةً أيُّ كلامٍ آخر، حتّى كلام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والإمام عليّ (عليه السلام)، فهو من هذه الجهة عصِيٌّ على التقليد، ممتنِعٌ على المعارَضة.

ويمتاز القرآن الكريم عن غيره من النصوص النثريّة بقابليّته للنغم واللحن، وتأثيره معهما أكبر من تأثيره من دونهما.

ويُلاحظ المتأمِّل في القرآن أنَّ لحن القرآن ونغمه يختلف من آيةٍ إلى أخرى باختلاف موضوعاتها.

وهذا الكلام إنَّما يصدق في القرآن الكريم باللغة العربيّة، دون ما لو تُرجِم إلى لغاتٍ أخرى.

4ـ الإعجاز المنطقيّ: تطرَّق القرآن الكريم لموضوعاتٍ عديدةٍ لم تكن مطروقةً من قبلُ في تاريخ الفكر الإنسانيّ، وهذه علامةٌ على أنَّ هذا الكتاب قد أطلّ على البشر من أفقٍ أعلى.

ومن هذه الموضوعات التي تطرَّق لها القرآن المنطق، فقد ذكر القرآن الكريم بعض مناشئ الخطأ الذهنِيّ، أو سبل الخطأ في الفكر، ومنها: اتّباع الظنّ، تقليد الماضين، السرعة في القضاء، هوى النفس، واتّباع الكُبَراء.

وهذه الأمور هي بعينها التي ذكرها «بيكون» و«ديكارت»، حين حاولا اكتشاف السبل التي تفضي إلى خطأ المادّة الفكريّة.

5ـ إعجاز البحث التوحيديّ: انطوى القرآن الكريم في شأن التوحيد والمعارف الإلهيّة على ما يتجاوز حدود فكر الإنسان مهما كان نابغةً.

بل إنَّ معارف القرآن في التوحيد والإلهيّات تبقى متميِّزةً بشكلٍ استثنائيٍّ، بلحاظ مصادر مثل هذه المعارف، كالتوراة، والإنجيل، والأوستا، والأفكار العلميّة والفلسفيّة السائدة آنذاك.

فقد رسم القرآن الكريم لله صورةً تختلف تمام الاختلاف عمّا هو عليه في التوراة، والإنجيل، وبقيّة الكتب السماويّة المحرَّفة.

فاللهُ في القرآن الكريم مجرَّدٌ منزَّهٌ، وهو إلى ذلك متَّصِفٌ بصفات العظمة والجلال كأفضل ما تكون عليه تلك الصفات.

وفي حين ذهب الفلاسفة إلى أنَّ الله هو عِلّة العِلَل، ولم يكن لديهم ما هو أكثر من ذلك، عرَّف القرآن الله بالأسلوب الذي يجعل حبّه يلتهب في داخل الإنسان، فينبض بالحركة صوب الله.

ومثل هذا المنطق، الذي يجعل الله أجمل وأحسن محبوبٍ، وأفضل مطلوبٍ، هو من مختصّات القرآن نفسه.

ويُعرِّف القرآن الكريم الإنسان بوصفه كائناً يتوق إلى الحقيقة، ويُنشِد الكمال، بحيث لا يهدأ مهما كانت المرتبة التي وصلها، إلاّ أن يصِل إلى الله.

وهكذا نجد أنَّ القرآن يُعرِّف الله للإنسان بأقوم الصيغ المنطقيّة معقولِيّةً.

ففي حين يفصل المسيحيّون الإيمان عن العقل والعلم نجد القرآن لا يفصل بين الإيمان والعلم البشريّ، فيحثّ البشر ويدعوهم دائماً للتأمُّل في آثار الخلقة، والتفكير فيها أكثر، وبهذا يعتبر القرآن العلم مبدأً للإيمان.

فهل يُعقل أن يكون هذا كلُّه صادراً من خيال رجلٍ أُمِّيٍّ؟!

لا، ومن خلال ذلك كلِّه يتّضح أنَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يفيض من مصدرٍ آخر، ولا ينطق من عنده، بل يحكي لسان الوحي.

الهوامش


[1] ولا بُدَّ هُنا من الإشارة إلى أنَّ القرآن الكريم لا يضاهيه في فصاحته وبلاغته وجاذبيّته أيُّ كلامٍ آخر، حتّى كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحتّى نهج البلاغة للإمام علِيّ (عليه السلام)، الذي يُعتَبَر في مرتبة عالية جدّاً من الفصاحة والبلاغة، ومع ذلك فإنَّك لو كنت تقرأ إحدى خطبه، ثمّ اعترضتك فيها آيةٌ من القرآن، لشعرتَ بسعة الفرق بين كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلام القرآن، فلاحظ الخطبة رقم 225 من نهج البلاغة، وهي في التنفير من الدنيا، حيث يقول (عليه السلام): «دَارٌ بِالْبَلاَءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لاَ تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلاَ يَسْلَمُ نُزَّالُهَا».

ثمّ يذكر ما فعلته هذه الدنيا بمَنْ مضى من الناس، ولا سيما الأغنياء والملوك.

ثمّ يقول: «وَكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَاروا إِلَيْهِ، وَارْتَهَنَكُمْ ذلِكَ الْمَضْجَعُ، وَضَمَّكُمْ ذلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ، فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الأُمُورُ، وبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ؟! ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْس مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يفْتَرُون﴾».

فلاحظ كم أنَّ التعبير عن الله في الآية بـ «مولاهم الحقّ» هو أمرٌ مدهشٌ يعجز عنه الوصف، فالإنسان يرجع إلى مولاه الحقيقِيّ، لا إلى ما يعبد في هذه الدنيا، ويتّخذه مولىً يطيعه.

فهذه الصياغة التعبيرِيّة لا يمكن أن تكون من صياغة وإنشاء رجلٍ أمِّيٍّ لا اطِّلاع له، كان ينبغي أن يغرق ـ وفق المقاسات المألوفة ـ في الأوهام والخرافات.

[2] راجع الخطبة 18 من نهج البلاغة، حيث يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ،…».

[3] راجع: وسائل الشيعة 6: 210 ـ 212، باب 24 من أبواب قراءة القرآن، وهو بعنوان باب تحريم الغناء في القرآن واستحباب تحسين الصوت به بما دون الغناء والتوسُّط في رفع الصوت، الأحاديث 2، 3، 4، 5، 6، وفي الحديث الخامس منها: mورجِّعْ بالقرآن صوتك، فإنَّ الله (عزّ وجلّ) يحبّ الصوت الحسن يرجَّع فيه ترجيعاًn.

[4] «الأوستا» هو الكتاب المقدَّس عند المجوس.



أكتب تعليقك