أخلاقٌ اجتماعية (4) / المجتمعات الاستهلاكيّة، إشكاليّةٌ وحلول
(الجمعة 1 / 4 / 2016م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
كيف يستطيع ربُّ الأسرة تلبية الحاجات المُلِحَّة للعائلة في ظلِّ إنتاجيّةٍ محدودة؟
أوّلاً: يجب على ربّ الأسرة (الزوج) أن يصرف على زوجته، حتَّى ولو كانت غنيّةً، فيجب عليه أن يؤمِّن لها متطلَّباتها المعيشيّة كافّةً، ولو قصَّر في ذلك بقي ذلك دَيْناً في ذمّته.
وأمّا الصَّرْف على الوَلَد فهو واجبٌ على الأب إذا كان الولد فقيراً لا يملك المال لتأمين حاجته، وأمّا لو كان غنيّاً فإنَّه لا يجب على الأب أن يُنْفق عليه، وإنَّما يتركه يصرف من ماله الخاصّ.
هذا مع الإشارة إلى أنَّ وجوب النفقة هو تكليف الأب الغنيّ، القادر على الإنفاق، أمّا إذا كان فقيراً فلا يجب عليه شيء، ولا يبقى للوَلَد في ذمّته شيء.
نعم، لا يُشترط غِنى الزوج في وجوب الإنفاق على زوجته، فحتَّى لو كان فقيراً غير قادرٍ على تأمين نفقتها تتحوَّل هذه النفقة إلى دَيْنٍ في ذمّته.
ومن هذا المبدأ نستطيع القول: إنَّ ربَّ الأسرة إذا كان له دخلٌ لا يكفي لتأمين متطلَّبات الحياة العصريّة، بضروريّاتها وكماليّاتها، فهو فقيرٌ بالنسبة إلى الكماليّات، وبالتالي لا يجب عليه تأمينُها.
ما هي الحاجات الضروريّة؟ وما هي الحاجات الكماليّة؟
قد لا نستطيع تعيين مصداقٍ ثابت للضروريّ والكماليّ؛ لأنّه قد يختلف من شخصٍ لآخر. ولكنْ الثابت واليقينيّ أنّ الطعام، والشراب، والمسكن، والملبس اللائق، والدراسة ولو في المدرسة أو الجامعة الرسميّة، هي من الضروريّات، التي ينبغي تأمينها.
وأمّا مستلزمات هذا العصر، والمعروف الشائع فيه، كالحاسوب (الكمبيوتر)، والتلفون الذكيّ، والبيت الواسع، والخادمة، والسيارة الحديثة الفارهة، والأثاث الفاخر، والدراسة في الجامعات الخاصّة، وصولاً إلى الزواج الثاني والثالث والرابع، وهو عاجزٌ عن الإنفاق على الزوجة الأولى، وغير ذلك كثير، هذه كلُّها من الكماليّات التي ينبغي التعامل معها على هذا الأساس.
كيف نجنِّب مجتمعاتنا التحوُّل إلى مجتمعات استهلاكيّة؟
أـ من خلال التشجيع والحثّ على الاقتصاد في المصروف. وقد تقدَّم منّا حديثٌ مفصَّل حول أهمّيّة الاقتصاد وضرورته، عَقْلاً وشَرْعاً.
ب ـ من خلال تربية الأولاد (الذين سيصبحون آباءً وأمّهات، أي أزواجاً وزوجات) على ضرورة الاكتفاء بالحاجات الضروريّة، والاستغناء عن الكماليّات، لا بالمطلَق، ولكنْ نقتني منها ما يرفع الحاجة الفعليّة (تلفون واحد، كمبيوتر واحد،…).
ج ـ من خلال ترشيد اقتناء السِّلَع الكماليّة، أي غير الضروريّة وغير الأساسيّة. فمثلاً: قد يقتني تلفوناً ذكيّاً، ولكنْ لا حاجة على الإطلاق لتبديله بالموديل الجديد فور توفُّره في الأسواق، وربما يتسابقون للحصول عليه ولو لم يتوفَّر بعدُ بشكلٍ طبيعيّ في السوق، وطبعاً قيمتُه في هذه الفترة أكثر من القيمة الحقيقيّة له.
وهكذا في السيارات، وألواح التصفُّح (الآيباد)، وأثاث المنزل، والحاسوب (الكمبيوتر)، و…
فإنْ أصرَّت الزوجة أو الأولاد على طلب الكماليّات بشكلٍ غير صحيح، من الناحية التربويّة والأخلاقيّة والشرعيّة، فلتكُنْ لربِّ الأسرة الجرأة الكاملة في أنْ يضعهم أمام الحقيقة: (لا يجب عليَّ تأمين هذه الأمور، اصْرِفوا على أنفسكم).
كثيرةٌ هي الأمور التي لا يمكن للإنسان أنْ يُدركها حقَّ إدراكها قبل أن يجرِّبها، فدَعْه يجرِّب ما معنى تبذير المال في مثل هذه الأمور. حين يعرف معنى التَّعَب والجُهْد في تحصيل المال، ثُمَّ يشعر بخسارته في تلك الأمور، سيُدرك أهمّيّة الاقتصاد، والادِّخار لأوقات الحاجة الحقيقيّة، و…
لماذا باتت الكماليّات أكثر من ضرورةٍ في حياتنا؟
تقدَّم أنّ الإنسان مجبولٌ مفطور على حُبِّ متاع الحياة الدنيا، والاستزادة منه، ويتمّ ذلك بالإكثار من الشراء والاستهلاك، من قِبَل جميع أفراد الأسرة، كالزوج، والزوجة، والأولاد.
يُضاف إلى ذلك ما تبثّه وسائل الإعلام (بما فيها وسائل التواصل الاجتماعيّ وغيرها)، والدعايات التسويقيّة الهادفة والناجحة، من تشويق إلى السِّلَع. وكلُّ ذلك سيساهم حَتْماً في تحوُّل مجتمعاتنا إلى مجتمعاتٍ استهلاكيّة.
والأساس في نجاح مثل هذه الدعايات غياب التوجيه الصالح. فالفرد والمجتمع ليسا محصَّنين تجاه مثل هذه الإغراءات، وسُرعان ما يسقطون في فخّ الدعاية والترويج الإعلانيّ. والعذرُ موجودٌ على الدَّوام.
عمل المرأة في الميزان
وهنا أرى لِزاماً عليّ أن أشير إلى ما تركه عمل المرأة من تأثيرٍ سلبيّ على المجتمع. ومن ذلك تحويله إلى مجتمعٍ استهلاكيّ، يطلب الكماليّات.
عملُ المرأة من حيث المبدأ لا إشكال فيه، فهي صِنْو الرجل، وشريكته في الحياة، وذات عقلٍ كامل، وهِمّةٍ عالية، وقدرةٍ على النجاح والتألُّق في أكثر من مجالٍ. وعليه لا يُمانع الدين (الإسلام وغيره) من حيث المبدأ في أن تكون المرأة عاملةً، ضمن ضوابط وحدود ذاتيّة وشرعيّة، بعيداً عن أجواء الانحراف والفساد.
وقد يشكِّل العمل ضرورةً في بعض الحالات، كما لو فُقد المُعيل، سواءٌ كان هو الأب أو الزوج أو الولد، فتضطرّ المرأة (البنت، أو الزوجة ـ الأرملة ـ، أو الثَّكْلى) للعمل لتأمين قوتها، ونفقات حياتها.
ولكنّ هذا الدين الحنيف جاء ليستنقذ المرأة ممّا كانت تعيشه من إرهاقٍ في العمل، فوضع عنها كثيراً من المسؤوليّات خارج البيت، بل أشار إلى ضرورة وأهمِّيّة واستحباب مساعدتها في بعض أعمال المنزل أيضاً، فواعجباً لها ترضى بإرهاقها في العمل الخارجي. بل هي التي تطالب به، وتسعى إليه، وتفتعل المشاكل من أجله!!!
نعم للعمل، ولكنْ في بعض المجالات الضروريّة، كـ:
أـ الولادة: حيث يجب أن تستأثر النساء بالنساء، ولا يجوز أن يكون ذلك بواسطة الرجال ما أمكن ذلك.
ب ـ التعليم: حيث تحتاج العمليّة التعليميّة التربويّة إلى صبر المرأة وجَلَدها ورحمتها وشفقتها، فهي الأقدر في التربية.
كما أنّه يحسن في مراحل محدَّدةٍ اجتناب الاختلاط بين النساء والرجال ما أمكن، فيتعيَّن أن تكون الهيئة التعليميّة في مدارس البنات من النساء، وفي مدارس البنين من الرجال.
ج ـ الطبابة: حيث لرحمتها وعواطفها الأثر الكبير في اكتمال العلاج. كما أنّ بعض المحظورات الشرعيّة، كملامسة الرجل للمرأة، تقتضي أن يكون في السلك الطبّي مجموعةٌ كبيرة من النساء، الطبيبات والممرِّضات.
ومع ذلك فإنّ هذا العمل لا ينبغي أن يتعارض مع كونها ربَّةَ أسرةٍ ناجحةً، وقائمةً بكامل مسؤوليّاتها الإنسانيّة. ومن هنا ينبغي ان يكون دوام العمل قصيراً، ولو اقتضى ذلك أن يكون الأجر قليلاً.
هذا كلُّه إذا نظرنا إليها كفردٍ، فلا محذور في عملها، إذا كانت تأمن على نفسها من الوقوع في الحرام.
وأمّا إذا نظرنا إلى عملها من الناحية الاجتماعيّة والاقتصاديّة العامّة، أي بلحاظ مصلحة المجتمع ككُلٍّ، فلا أتصوَّر أنّ عملها سيكون ذا أثرٍ إيجابيّ بالشَّكْل الذي يُصَوِّره لنا دعاةُ العمل، وخروج المرأة إلى جميع الساحات، و…
تعمل المرأة، ورُبَما سيُطالبون يوماً ما بـ (كوتا نسائيّة) في الوظائف، هذا يعني ارتفاع معدَّل البطالة عند الرجال؛ لأنّه لا توجد فرص عملٍ كافيةٌ للجميع، ومع ذلك الرجل ملزَمٌ بالإنفاق على الزوجة والأولاد، وأمّا راتبُ المرأة فيذهب في شراء الثياب، والعطور، والزينة، والذَّهَب، وسيارة خاصّة، وخادمة، وحضانة للأولاد، وهذه ممّا يُستغنى عنه كُلِّياً أو جُزْئيّاً إذا كانت المرأةُ غيرَ عاملة.
تعمل المرأة، وترضى بالراتب البسيط، فمَنْ من أرباب العَمَل سيدفع راتباً عالياً لرجلٍ كي يعمل عنده؟! إلاّ إذا احتاج إلى عملٍ لا تقدر عليه المرأة. ومع ذلك يبقى هذا الأمر كالسيف فوق رأسه. والحديث في اختلاف أجور النساء عن الرجال طويلٌ ومتشعِّبٌ، حيث يتمّ استغلال رغبتهنَّ في العمل، ورضاهنَّ بالقليل، فلا يُعطَيْنَ أجور الرجال، وتضيع فرص العمل من الرجال، وهكذا يقلّ الدَّخْل الفردي، لحساب أرباب العمل وحيتان المال.
ولا أريد أنْ أتوسَّع في ذكر سَلْبِيَّات عمل المرأة، مع التأكيد على أنَّ عَمَلَها في بعض المجالات ضروريٌّ، بل واجبٌ أحياناً.
تعمل المرأة وتقبض راتبها، قليلاً أو كثيراً، فتصرفه في حاجاتها الخاصّة، وأغلبُها من الكماليّات، وإذا بقي منه شيءٌ تصدَّت لشراء الكماليّات التي يطلبها أولادها، فيعتادون على اقتناء مثل هذه الأشياء، بل رُبَما أخذ الوَلَد في المقارنة بين تصرُّف أمِّه وتصرُّف أبيه، غافلاً عمّا يتحمَّله الأب من مصروفٍ كبير على العائلة أجمع.
ما هي وسائل العلاج؟
هما طريقان ناجعان جدّاً: استنطاق العَقْل؛ والتزام الشَّرْع.
1ـ استنطاق العقل: بقليلٍ من التفكير المتأنّي، والتدبُّر الحكيم، يتَّضح أنَّ معظم هذه الكماليّات إنَّما تُطلَب للاستعلاء والتفاخر، وليست مورد حاجةٍ ماسّة، بل يمكن الاستغناء عنها بكلِّ يُسْرٍ، وبلا حَرَج.
فإذا أُضيف إلى ذلك أنّ هذه السُّمْعة الرفيعة، التي حصَّلها من خلال اقتناء هذه الأشياء، قد تزول في أيِّ لحظة؛ بسبب العجز عن أداء الدَّيْن المتراكِم، فيُفتضح الحال، وتظهر حقيقة اقتناء هذه الأشياء، حينها سيتخلّى العاقلُ الحكيم عن طَلَب هذه الكماليّات؛ لصالح نفسه وأسرته. وسيعمل بالمَثَل الشعبيّ الذهبيّ القائل: «على قَدِّ بْساطَك مُدَّ رِجْلَيْك». وسيستحضر دائماً القولَ الحكيم: «نأكل لنعيش، لا نعيش لنأكل». وهكذا في كلِّ المتطلَّبات؛ فهي لتأمين استمراريّة العيش، وليست هَدَفاً بحدِّ ذاتها.
2ـ التزام الشَّرْع: فها هو كتاب الله يدعو إلى التواضع، ويعِدُ عليه الجنَّة: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (القصص: 83).
وها هو القرآن الكريم يمنع من الصدقة والإنفاق في سبيل الله إذا أثَّر سَلْباً على معيشة الإنسان، وحاجاته الضروريّة، فكيف سيكون موقفه من الكماليّات؟!: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ [أي الوَسَط، فلا تنفق كلّ ما عندك، ولو كان هذا الإنفاق في سبيل الله] كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة: 219)؛ ﴿وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (البقرة: 195).
وأخيراً، لا نستبعِدُ أن يكون هذا الإغراق في طَلَب الكماليّات، ما يستلزِم انشغالَ كلِّ أفراد الأسرة في العَمَل والإنتاج؛ لتأمينها، بعيداً عن التواجد في ساحات العِلْم والإبْداع والتفوُّق والاختراع، خُطَّةً سياسيّة خبيثة، تهدف لجعل الجميع يعملون ويعملون، ويصرفون ما يُنتجون، فلا تفوُّق وإبداع، ولا مدَّخرات ورساميل يمكن أنْ تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد الوطنيّ. وتبقى الساحة خاليةً لحيتان المال الكبار، ليتحكَّموا بمصائر الناس في أَمْنِهم واقتصادِهم وسياستِهم. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.