الإنسان، الحيوان، والطبيعة، علاقاتٌ عادلةٌ
(الجمعة 5 / 8 / 2016م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
2ـ علاقة البشر مع الحيوانات وعلاقة الحيوانات مع البشر
يتصوَّر البعض أن تكليف الإنسان بتحقيق العدالة إنّما هو في الوسط البشريّ لا غير، ولكنّ الحقّ أن الإنسان مكلَّفٌ ببسط العَدْل ونفي الظلم حتّى في علاقاته مع الحيوان.
فقد رُوي عن مولانا زين العابدين(ع) أنّه كانت له ناقةٌ، حجّ عليها أربعاً وعشرين حجّة، ما أقرعها قرعةً قطّ، أي ما ضربها بالسوط على جنبها أبداً([1]).
ورُوي عنه(ع) أنّه كان في الحجّ، على ناقةٍ له، فالتأتت عليه، فرفع القضيب، فأشار عليها به، وقال: «لولا خوف القصاص لفعلت»([2]). فقد امتنع عن ضربها بالقضيب لأنّه يرى ذلك موجباً للقصاص الإلهيّ يوم القيامة. وهذا يكشف أنّ ضرب الحيوان من دون سببٍ مسوِّغٍ لذلك هو معصيةٌ وذنب، ويستوجب عقوبةً.
ونسمع من قبله جدَّه أمير المؤمنين عليّاً(ع) يقول: «واللهِ، لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملةٍ أسلبها جِلْب شعيرةٍ ما فعلتُ»([3]). فهو(ع) يرى في ذلك الفعل معصيةً لله، ومعنى ذلك أنّه حرامٌ.
كما أنّه يحرم صيد اللَّهْو، ويُعتَبَر معصيةً، والسَّفَرُ فيه سفرُ معصيةٍ، لا قَصْر فيه، بل يجب إتمامُ الصلاة. وصيد اللَّهْو هو طلبُ الحيوان وقتلُه لا لحاجةٍ للإنسان إلى أكله، وإنّما يجعل منه هَدَفاً للرمي بالرصاص أو غيرها؛ للاستمتاع بذلك الرمي، أو للتدريب على إصابة الهَدَف. هذا كلُّه ممنوعٌ ومحرَّم في الإسلام.
ولعلّ من أسباب هذا التحريم أنّ تبارك وتعالى يريد الحفاظ على الوجود النوعي للحيوانات والطيور، فلا يرضى بإفناء جنس أو نوع بعض هذه الحيوانات؛ لقضاء شهوةٍ من قبل إنسانٍ طائش.
وفي مقابل ذلك هناك حدودٌ وضوابط رسمها الله للحيوانات في تعاطيها مع ما حولها من البشر، فلا يجوز لها أن تقتل منهم مَنْ تشاء ولو لم تكن جائعةً. والله خبيرٌ بما يفعلون، وسيحاسبهم عليه يوم القيامة، ومن هنا كان قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ (التكوير: 5)؛ فإنّها تُحشَر لتُسأل عمّا ظلمت به غيرها من المخلوقات، سواءٌ كان قتلاً ـ لحيوانٍ أو لإنسانٍ، أو هَدْراً، أو تلويثاً، أو…
3ـ علاقة الحيوانات فيما بينها
وهكذا يتّضح أنّ للحيوانات فيما بينها أنظمةً وقوانين، لا يجوز لها أن تتعدّاها. فلا يحقّ لها أن تقتل ما تشاء، ولمجرَّد القتل، وإنّما هو القتل الذي لا بُدَّ منه، لإشباع بطونها بعد الجوع، تماماً كما يذبح الإنسان الحيوانات للاستفادة من لحومها الغنيّة بالفيتامينات، ولا ينبغي له أن يستغني عنها كلِّياً.
ومن هنا فإنّ للحيوانات حساباً يوم القيامة عمّا اقترفته في هذه الحياة الدنيا، فخَرَجت به عن سلوكها المرضيّ لله سبحانه وتعالى، وهو سلوكٌ واجب عليها، وهو معنى تسبيحها لله سبحانه وتعالى ـ كما يفعل كلُّ مَنْ في السماوات والأرض ـ: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ (الإسراء: 44).
وهذا ما تلتزم به الغالبيّة العظمى من الحيوانات. ففي الأفلام الوثائقيّة المعدّة من خلال مراقبة الحياة الحيوانيّة في البرّيّة واضحٌ جدّاً أن عمليّات الصيد لا تتمّ بشكلٍ عشوائيّ، وفي كلِّ حينٍ، وإنّما تتمّ وفق نظامٍ تكوينيّ وفطريّ دقيق أودعه الله في تلك الحيوانات.
ومن هنا فإنّ ما تذكره بعض الروايات من أنّه في عصر ظهور مولانا المهديّ المنتَظَر(عج) سوف تعيش الذئاب مع الغَنَم بسلامٍ([4]) ليس صحيحاً، إذ هي حاجةٌ فطريّة وتكوينيّة في الحيوان، يقتل ليأكل، وهذا مباحٌ له. نعم، القتل العبثيّ، أو فقُلْ: صيد اللَّهْو حرامٌ، على الحيوان، كما على الإنسان.
4ـ علاقة الإنسان مع الطبيعة وعلاقة الطبيعة مع الإنسان
وفي هذا السياق نفسه تنكشف حقيقة العلاقة المطلوبة بين الإنسان والطبيعة، حيث يجب على البشر أن يحافظوا على الطبيعة والبيئة التي يعيشون فيها، فلا يجوز تلويث المياه ـ مياه البحار والأنهار والعيون والينابيع والآبار (بالقاذورات)، أو الهواء بالدخان السامّ (من السجائر أو الأراكيل، أو ما شابه ذلك). كما لا يجوز قطع الأشجار، أو سرقة الرمال عن الشواطئ، أو…
في مقابل ذلك فقد أنعم الله على الإنسان بكائناتٍ طبيعيّة كثيرة، توفِّر له مقوِّمات الحياة، حيث جعل من الماء كلَّ شيءٍ حيّ([5])، وخلق الأشجار تنقّي له الهواء تبدِّل بعض الغازات بالأوكسجين الضروريّ لعمليّة التنفُّس لدى الإنسان والحيوان.
وخلق الرياحِ الهادئة الطيِّبة تارةً؛ والعاصفة أخرى؛ لأهدافٍ وغايات شتّى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ (الحجر: 22)، ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ المَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 57)، ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ (الأنبياء: 81)، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الروم: 46).
وخلق السَّحابِ الثِّقال بالماء الطاهر المطهِّر المبارَك الفُرات الثَّجّاج الغَدَق، ينزل شراباً للناس والحيوان، وسَقْياً للزَّرْع، ﴿فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجّ: 63)، ﴿فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ (النحل: 65)، ﴿فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ﴾ (الزمر: 21)، ﴿فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ (الرعد: 17).
ويترافق ذلك مع البرقِ والرَّعد في توليفةٍ إلهيّة دقيقة ذاتِ حِكْمةٍ بليغة، فسُبْحان الخالق المدبِّر: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ﴾ (الرعد: 12 ـ 13).
وخلق الحيوانات، وما تحويه حياتُها وأجسادُها من أسرار وخصائص: ﴿أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ (الغاشية: 17 ـ 21).
وخلق الجبال والأنهار والبحار، وما أودعه فيها من النِّعَم والكُنوز، لتكون عَوْناً لخليفته في أرضه إذا أحسن الاستفادةَ منها: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَاناً﴾ (النحل: 81)، ﴿وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ (فاطر: 27)، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً﴾ (النبأ: 6 ـ 7)، ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ (النمل: 88).
﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الرعد: 3).
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 14).
إذاً هي علاقةٌ وشيجةٌ لا تنفصم عُراها، ولا يمكن لأيٍّ منهما أن يستغني عنها، إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها. وللحديث تتمّةٌ، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار 3: 272 ـ 273، معلَّقاً عن زرارة بن أعين أنه قال: كانت لعليّ بن الحسين(ع) ناقة، حجّ عليها أربعاً وعشرين حجّة، ما أقرعها قرعةً قطّ.
([2]) رواه القاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار 3: 273، معلَّقاً عن إبراهيم بن عليّ الواقفي، عن أبيه قال: حججتُ مع عليّ بن الحسين(ع) يوماً، وهو على ناقةٍ له، فالتأتت عليه، فرفع القضيب، فأشار عليها به، وقال: لولا خوف القصاص لفعلت.
([3]) نهج البلاغة 2: 218، من كلامٍ له(ع) يُخبر فيه عن رفضه إعطاء أخيه عقيل صاعاً إضافيّاً من بيت المال.
([4]) روى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنَّف 11: 400 ـ 401، عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه يرويه، قال: ينزل عيسى بن مريم إماماً هادياً، ومقسطاً عادلاً، فإذا نزل كسر الصليب، وقتل الخنزير، ووضع الجزية، وتكون الملّة واحدة، ويوضع الأمر في الأرض، حتّى أن الأسد ليكون مع البقر تحسبه ثورها، ويكون الذئب مع الغنم تحسبه كلبها، وترفع حمة كلّ ذات حمة، حتى يضع الرجل [يده] على رأس الحنش فلا يضره، وحتّى نفر الجارية الأسد، كما يفر ولد الكلب الصغير، ويقوم الفرس العربي بعشرين درهماً، ويقوم الثور بكذا وكذا، وتعود الأرض كهيئتها على عهد آدم، ويكون القطف ـ يعني العنقاد ـ يأكل منه النفر ذو العدد، وتكون الرمّانة يأكل منها النفر ذو العدد.
وروى الصنعاني أيضاً في المصنَّف 11: 401، عن معمر، عن زيد بن أسلم، عن رجلٍ، عن أبي هريرة قال: لا تقوم الساعة حتّى ينزل عيسى بن مريم إماماً مقسطاً، ويبتر قريش الإجارة، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، وتوضع الجزية، وتكون السجدة واحدة لربّ العالمين، وتضع الحرب أوزارها، وتملأ الأرض من الإسلام كما تملأ الآبار من الماء، وتكون الأرض كما ثور الورق ـ يعني المائدة ـ، وترفع الشحناء والعداوة، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، ويكون الأسد في الإبل كأنه فحلها.
وروى الصنعاني أيضاً في المصنَّف 11: 401 ـ 402، عن معمر، عن قتادة، عن رجلٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): إن الأنبياء إخوة لعلاّت، دينهم واحد، وأمّهاتهم شتى، وإنّ أولاهم بي عيسى بن مريم؛ لأنه ليس بيني وبينه رسول، وإنه نازل فيكم، فاعرفوه! رجلٌ مربوع الخلق، إلى البياض والحمرة، يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ولا يقبل غير الإسلام، وتكون الدعوة واحدة لربّ العالمين، ويُلقي الله في زمانه الأمن، حتى يكون الأسد مع البقر، والذئب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيّات، لا يضرّ بعضهم بعضاً.
([5]) يقول تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأنبياء: 30).