العدل الإلهي، شبهاتٌ وردود
(الجمعة 12 / 8 / 2016م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
5ـ علاقة الله بعباده وعلاقة المخلوقات بالله
ها نحن نصل إلى المطلب الأساس في هذا البحث، ألا وهو العدل الإلهيّ مع المخلوقات كافّةً، ولا سيَّما الإنسان.
وكما أنّ الإنسان مطالَبٌ بأن يكون عادلاً مع الله، فيوفِّيه حقَّه من الشكر والطاعة والعبادة، ومَنْ لم يفعل ذلك فقد ظلم نفسه؛ لأنّه لا يضرّ الله شيئاً، فاللُه لا ينتفع بشيءٍ من عبادتنا، وإنّما هي حقوقٌ له تبارك وتعالى، ومنفعتها تعود علينا لا غير، ولذلك قال جلَّ وعلا: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة: 57؛ الأعراف: 160)، كذلك فإنّ من المتوقَّع أن يعمّ العدل الإلهيّ أرجاء هذا الكون، ومنه: حياة الإنسان.
معنى العدل الإلهيّ
1ـ العدل ضدّ الظلم
عندما نتحدَّث عن العدل الإلهيّ، ويُقال: إنّ انقساماً حادّاً وقع بين المسلمين في مسألة العدل الإلهيّ، فلا نعني أبداً أنّ بعض المسلمين ينسب الظُّلْم إلى الله تبارك وتعالى، كيف والقرآن الكريم يصرِّح في كثيرٍ من الآيات بـ ﴿أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ﴾ (آل عمران: 182؛ الأنفال: 51؛ الحجّ: 10)؛ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (النحل: 118)؛ ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ (هود: 117)؛ و﴿مَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (التوبة: 70؛ العنكبوت: 40؛ الروم: 9)، ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ (الكهف: 49)!!
ومع وفرة الآيات القرآنيّة التي تثبت العَدْل الإلهيّ وتؤكِّده لا حاجة إلى الروايات (أي السُّنَّة)، التي لا تعدو كونها أخبار آحاد، معرَّضةٍ للدسّ والوضع، والتحريف والتصحيف، حيث تنقل بالمعنى عادةً، وهو ما يعرِّضها لتشويه كبير وخطير في بعض الأحيان. نعم، نلجأ إليها حين نفقد النصّ القرآنيّ الواضح والصريح، وليس الأمر كذلك هاهنا.
2ـ العدل بمعنى الأمر بالحسن أو فعله، والنهي عن القبيح أو تركه (قاعدة الحسن والقبح العقليّين)
وإنّما يقع الخلاف في أنّ الأفعال بحدّ ذاتها تتّصف بالحُسْن والقُبْح أو لا، وهل يمكن للعقل بنفسه، وبدون الاعتماد على المصادر الشرعية (الكتاب والسنّة)، أن يكتشف الحَسَن من القبيح، فيحكم بلزوم الإتيان أو الأمر بالحَسَن، ولزوم الترك أو النهي عن القبيح؟
وقد ذهب العدليّةُ (الشيعة والمعتزلة) إلى أنّ العقل قادرٌ على ذلك، وأنّ حكم الله لا يختلف عن حكم العقل في هذا المقام.
بينما ذهب (الأشاعرة) إلى قاعدة الحُسْن والقُبْح الشرعيّين، بمعنى عجز العقل عن معرفة الحَسَن والقبيح، بل ليس هناك افعالٌ حَسَنة وأخرى قبيحة، وإنّما الحَسَن ما يفعله الله أو يأمر به، والقبيح ما يتركه الله أو ينهى عنه.
والدليل على العَدْل بمعانيه الصحيحة (العدالة في مجال التكليف؛ العدالة في مجال الحكم والقضاء بين العباد؛ العدالة في مجال تنفيذ المجازاة ثواباً وعقاباً)، وفي جميع مظاهره، هو أن صفات الله الذاتية (العلم، الحكمة، القدرة والاختيار، الإرادة) تقتضي أن تكون أفعاله تعالى حكيمةً وعادلة، ولا توجد في الله تعالى أيّ صفةٍ تقتضي الظُّلْم والجَوْر، أو اللَّغْو والعَبَث.
شبهاتٌ حول العَدْل الإلهيّ
1ـ كيف تتلاءم الفروق والاختلافات الموجودة في المخلوقات، وخاصّةً البشر، مع العدل والحكمة الإلهية؟ ولماذا لم يخلق الله الحكيم العادل المخلوقات جميعاً بصورةٍ متساوية؟
2ـ إذا كانت الحكمة الإلهية مقتضية لحياة الإنسان في هذا العالم إذن لماذا يُميته بعد ذلك، ويُنهي حياته؟
3ـ كيف يتلاءم وجود كلّ هذه المصائب والأمراض والكوارث الطبيعية (السيول والزلازل و…)، والمتاعب الاجتماعية (الحروب وألوان الظلم المختلفة)، مع العدل الإلهي؟
أو فقُلْ: هل ينسجم حصول الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير، التي تفتك بحياة البشر والنباتات والحيوانات وجمال الطبيعة، مع عقيدة العدل الإلهي؟
أو فقُلْ: أليس من العدل الإلهي الواجب المحافظة على جمال الطبيعة، وحياة الكائنات الحيّة؟
4ـ كيف يتلاءم العذاب الأبدي للذنوب المحدودة والمؤقَّتة، التي يرتكبها المذنبون في هذا العالم، مع العدل الإلهي؟
5ـ هل من العدل الإلهيّ أن يتساوى الصالح والطالح في المصير، فيصيران إلى حفرةٍ واحدة متشابهة؟
مقدّمة الجواب عن هذه الشبهات
اقتضت حكمةُ الباري جلَّ وعلا ومصلحة البشر النوعيّة أن يكون الإنسان خليفة الله في هذه الأرض، هذا الكوكب المكوَّن من اليابسة والماء والمؤلِّف من طبقاتٍ تشتدّ حرارةً كلّما أوغلَتْ في العمق، وذلك من أجل أن تكون صالحةً لحياة هذا المخلوق من طينٍ، وهو (آدم(ع) وذرّيّته).
إذن لا بُدَّ من الانطلاق من هذه الفكرة، بل الحقيقة، وهي أنّ الحياة الدنيا للإنسان لا تنفكّ عن ارتباطٍ ما بالمادّة، وهذا هو أفضلُ نظامٍ لحياة كائنٍ بالخصائص التي يتوافر عليها هذا المخلوق المكرَّم.
وبما أنّ للعلاقة بالمادّة ضريبتها لا بُدَّ للإنسان أن يؤدّي هذه الضريبة من راحته، وأمنه، ورخائه، وسعادته، و…
وهنا ينفتح بنا البحث على مسألةٍ في غاية الأهمّية لبيان حقيقة ما يصيب الإنسان في هذه الحياة الدنيا، ألا وهي القضاء والقَدَر الإلهيّين.
ولتوضيح هذين المفهومين ننقل قصّةً حصلَتْ مع أمير المؤمنين عليٍّ(ع)، حيث رُوي أنّه(ع) مرَّ يوماً تحت حائطٍ مائل، فأسرع في المَشْي، فقيل له: أتفرّ، يا أمير المؤمنين، من قضاء الله تعالى؟ فقال(ع): «نعم، أفرُّ من قضاء الله إلى قَدَره»([1]).
وبشكلٍ مختصر، وبيانٍ سريع، نقول: لقد أراد أمير المؤمنين(ع) أن يميِّز بين دائرتين: دائرة النتيجة (المعلول)؛ ودائرة المقتضِيات والشروط والموانع (العلّة التامّة).
والعلّة التامّة تتشكَّل من ثلاثة أجزاء: المقتضي؛ والشرط؛ وعدم المانع. فما تسمعونه من أنّ النار هي علّة الاحتراق ليس صحيحاً. فإذا كان لديّ ورقة في يدي اليمنى وحملتُ عود الثقاب المشتعل في يدي اليسرى، فلن تحترق الورقة، مع أنّ النار موجودة، فكيف تكون النار علّةً للاحتراق؟!
النار هي مقتضٍ للاحتراق، وهو الجزء الأوّل من العلّة التامّة.
والجزء الثاني هو توفُّر الشرط، وهو أن أقرِّب النار من الجسم (الورقة).
والجزء الثالث هو عدم المانع (عدم الرطوبة مثلاً)، أي أن لا تكون الورقة رطبةً مثلاً، فحينها لن تتأثَّر بالنار، ولن تحترق.
إذا اجتمعت هذه الأجزاء الثلاثة تحقَّقت العلّة التامّة للاحتراق، وسيحصل لا محالة.
نعود إلى كلام أمير المؤمنين(ع): «أفِرُّ من قضاءِ الله»، أي من دائرة النتيجة. فالإنسان إذا بقي واقفاً تحت الحائط المائل المتهالِك الواقِع لا محالة فهذا يعني أنّه سيلقى المصير المحتوم، وهو الموتُ المسبَّب عن سقوط الجدار. فهل يمكن للإنسان أن يخرج من هذه الدائرة؟
ليس للإنسان أن يخرج من دائرة القضاء المحتوم، أي أن يقف تحت الجدار، ثمّ يسقط عليه، ولا يموت، ولكنْ بوُسْع الإنسان أن لا يدخُلَ في تلك الدائرة من الأساس، بل يبقى في دائرة المقتضِيات والشروط والموانع، ويعمل على عدمِ توفير الشروط، وإحداثِ الموانع.
وعليه نقول: دائرة المقتضِيات والشروط والموانع هي دائرةُ (القَدَر). ومن هنا فهي ليست دائرةَ الحَتْم والإبرام، وإنّما هي قابلةٌ للتبدُّل والتغيُّر، بحسب ما يختاره الإنسان ويقوم به، أو بحسب ما يجتمع من شروطٍ وموانع تقتضيها علاقة المادّيات ببعضها.
الجواب التفصيليّ عن الشبهات المتقدِّمة([2])
1ـ كيف تتلاءم الفروق والاختلافات الموجودة في المخلوقات، وخاصّةً البشر، مع العدل والحكمة الإلهية؟ ولماذا لم يخلق الله الحكيم العادل المخلوقات جميعاً بصورةٍ متساوية؟
والجواب: إن اختلاف المخلوقات في المعطيات الوجودية أمرٌ لازم لنظام الخلق، وخاضع لقوانين العلّية والمعلولية الحاكمة على ذلك النظام. وافتراضُ تساويها هو افتراضٌ ساذج.
ولو تأمَّلنا جيداً في ذلك لأدركنا أن هذا الافتراض يعني ترك الخلق؛ لأنّه لو كان أفراد البشر رجالاً أو نساءً لما تحقَّق التوالد والتناسل أبداً، ولانقرض النوع الإنساني.
ولو كانت المخلوقات جميعاً من نوع الإنسان لما وَجَد شيئاً للغذاء، أو ما يوفِّر له سائر متطلَّباته وحاجاته.
وكذلك لو كانت جميع الحيوانات والنباتات نوعاً واحداً، وبلونٍ واحد، ولها صفات وخصائص واحدة، لما وجدت كلّ هذه الفوائد والمعطيات التي لا تحصى، والمناظر الخلاّبة الجميلة.
وظهور هذا النوع أو ذاك من الظواهر بهذا الشكل أو ذاك، وهذه الصفات أو تلك، خاضعٌ للعوامل والظروف والشروط المتوفِّرة في مسيرة حركة المادّة وتبدُّلها، وليس لأحدٍ قبل خلقه حقٌّ على خالقه، يفرض عليه تعالى طريقة خلقه، بأن يخلقه بهذه الصورة أو تلك، وفي هذا المكان أو ذاك، أو في هذا الزمان أو ذاك؛ ليكون هناك مجالٌ للعدل والظلم.
2ـ إذا كانت الحكمة الإلهية مقتضية لحياة الإنسان في هذا العالم إذن لماذا يُميته بعد ذلك، ويُنهي حياته؟
والجواب: أوّلاً: إن حياة الموجودات أو موتها في هذا العالم خاضعٌ أيضاً للقوانين التكوينية، وعلاقات العلّية والمعلولية، وهي لازمةٌ لنظام الخلق.
ثانياً: إذا لم تمُتْ الموجودات الحيّة فسوف لن تتوفَّر الأرضية لوجود الموجودات اللاحقة، وبذلك يُحرم القادمون والأجيال اللاحقة من نعمة الوجود والحياة.
ثالثاً: إذا افترضنا استمرارية الحياة للبشر جميعاً فسوف لن يمضي زمان طويل إلاّ ونرى الأرض كلَّها قد امتلأت بالناس، وتضيق عليهم الأرض برحبها، ليتمنّى كلُّ واحدٍ منهم الموت؛ لما يشعر به من متاعب وألمٍ وجوع.
وبعبارةٍ أخرى: سؤالٌ يطرح نفسه بقوّةٍ هاهنا: الموت نعمةٌ أو نقمة؟ قد يُقال بتسرُّعٍ: الموت نقمة، وهو فراقُ الأحبّة.
وهنا جملةٌ من الأسئلة قد تغيِّر قناعة ذاك القائل:
1ـ ماذا لو شاخ الإنسان كثيراً، حتّى بلغ أرذل العمر، وأصبح لا يقوى على قضاء حوائجه بنفسه، ويريد الاستعانة بالآخرين، وهكذا تراكمت الأجيال إلى جانب بعضها البعض، وكلُّها يحتاج إلى مَنْ يخدمه ويرعاه، فهل يمكن لجيلٍ واحد (الشباب) أو جيلين (الشباب والكهول) خدمة كلّ الأجيال السابقة؟! أتكون الحياة عندئذٍ نعمةً أو نقمة؟ وهل يبقى الموت نقمة عندئذٍ؟
2ـ ماذا لو عاش الإنسان في صحّةٍ وعافية، وهكذا توالت الأجيال في وفرة من النِّعَم الإلهيّة، فهل ستسعهم الأرض جميعاً؟! وهل ستكون حياتهم مستقرّةً، بعيداً عن المشاكل والصراعات والاستئثار بالأموال والممتلكات والثروات ـ الطبيعيّة وغيرها ـ؛ بحكم الأسبقيّة والأقدميّة؟! فهل يمكن أن تُعَدَّ الحياة، مع ذلك الاكتظاظ، وفي تلك الصراعات والنزاعات، خيراً من الموت؟
3ـ ماذا لو بقيت الأجيال الأولى، وهي بدائيّةٌ، حيّةً إلى يومنا هذا، وأصرَّتْ على الحياة كما اعتادت في بداية وجودها، فهل سترضى الأجيال الحديثة بالحياة البدائيّة؟! أو فقُلْ: هل كنّا سنصل إلى ما وصلت إليه البشريّة اليوم من تقدُّمٍ وتطوُّر؟!
رابعاً: إن الهدف الأصلي من خلق الإنسان هو الوصول إلى السعادة الأبدية، وإذا لم ينتقل الناس من هذا العالم إلى الحياة الأخرى بالموت فلن يمكنهم الوصول إلى ذلك الهدف النهائي.
ولعلّ هذا ما تشير إليه الآية الكريمة، حيث تقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ (الملك: 2). وللحديث تتمّةٌ، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([i]) رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي 4: 111، معلَّقاً.
([ii]) منقولٌ من كتاب دروس في العقيدة الإسلامية، للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (مع إضافاتٍ)، فاقتضى التنويه.