سلسلة الاجتهاد الحديث الواعي (2): الإحراق والرَّمْي من شاهقٍ، بين التوقيت والدوام؛ اللَّعْن والسَّبّ والتكفير والتضليل، مُنْكراتٌ شرعيّة
(الجمعة 17 / 3 / 2017م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.
ولا يزال الحديث في بعض التصرُّفات التي يقوم بها بعض الإسلاميِّين ـ والذين يوصَفون بالإرهاب والتكفير؛ لذلك ـ، والمستنكَرة من قِبَل الكثيرين، غير أنّ لها جَذْراً وأصلاً في التراث الحديثيّ الضخم عند المسلمين، بل يُفتي بها بعضُ الفقهاء أيضاً، غير أنّهم عاجزون عن القيام بها.
الإحراق والرَّمْي من شاهقٍ، بين التوقيت والدوام
نشهد بين وقتٍ وآخر قيام بعض الجماعات المسلَّحة التي تنتمي إلى الإسلام بإنزال عقوبة الإعدام حَرْقاً أو رَمْياً من شاهقٍ بحقِّ بعض الأفراد.
وسُرْعان ما تتعالى أصوات الاستنكار والشَّجْب، ووَسْم هؤلاء بـ (الإرهاب) والوحشيّة.
قد يكون الأمر صحيحاً لو أنّه لم يُعهَد في تاريخ المسلمين على امتداد العصور أيَّ نوعٍ من هذه العقوبات.
لكنَّ الواقع خلافُ ذلك. فقد نظَّر لهذه العقوبات كثيرٌ من الفقهاء([1])، استناداً إلى جملةٍ من الروايات المنسوبة إلى النبيّ أو الصحابة أو الأئمّة من أهل البيت(عم)([2]).
إذن لا ينبغي ـ وفق المعايير المعروفة بين فقهاء المسلمين، ومرجعيّاتهم الدينيّة ـ انتقاد أصل هذا الحكم، وإنَّما قد يوجَّه النقد إلى الخطأ في التطبيق على المصاديق الخارجيّة ـ أي الأفراد من الناس ـ، الذين رُبَما لم يثبت بالدلائل القطعيّة أو البيِّنة الشرعيّة قيامهم بمثل هذه الأفعال المُنْكَرة والمحرَّمة في شرع الله.
والأَوْلى لهذه الجهات المستنكِرة، وبعضُها جهاتٌ دينيّة مرموقة، أن تعمل ـ وبالسرعة القصوى ـ لإعادة النظر في فهوم الفقهاء من ذاك التراث الحديثيّ المبثوث في أمّهات الكتب الروائيّة عند السنَّة والشيعة على السواء.
فحين نقرأ في بعض الروايات (رواية القدّاح، عن الصادق(ع)، وقد تقدَّم أنّ السيد الخوئي يراها صحيحةً) أنّ أمير المؤمنين(ع) برَّر حكمه بالإحراق بأنّ العرب لا ترى القتل شيئاً، فقد يقودنا هذا إلى القول بأنّ هذه الأحكام كانت ناظرةً إلى حال العرب البَدْو آنذاك، واعتيادهم القَتْل، فلا يمثِّل عقوبةً رادعة له، فكان لا بُدَّ من عقوباتٍ مناسبة ورادعة. أمّا اليوم، وقد تجاوزت أغلب المجتمعات البشريّة هذه الحالة، وأصبح القتل أمراً مُنْكَراً ومرفوضاً ـ حتّى ولو كان عقوبةً، كما في حركات المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام ـ، فيمكن الاكتفاء بقتل فاعل تلك الموبِقة بالوسائل المتعارفة لعقوبة القتل والإعدام.
بل رُبَما يمكن القول: إنّ المطلوب شرعاً هو العقوبة الرادعة، فلو ثبت أنّ السجن أو الغرامة أو التشهير أو… قد أصبحت تمثِّل رادعاً ومانعاً من إتيان تلك الفواحش أمكن للحاكم الشرعي الاكتفاء بها، دون حاجةٍ إلى تلك العقوبات المنصوصة، والتي كانت تمثِّل مرحلةً زمنيّة خاصّة، ولا تتعدّاها إلى غيرها.
اللَّعْن والسَّبّ والتكفير والتضليل، مُنْكراتٌ شرعيّة
يتصوَّر البعض أنّ ما تقوم به بعضُ الجماعات الإسلاميّة المتشدِّدة، من لعنٍ للمسلمين الذين يختلفون معهم في الفكر الدينيّ العامّ، أو في بعض تفاصيل العقيدة، أو الشريعة، وصولاً إلى تفسيقهم، وتضليلهم، وتكفيرهم أخيراً، إنَّما هو من مختصّات هذه الفئات المتطرِّفة.
ولكنّ الحقَّ أنّ إباحة اللَّعْن والشَّتْم للمخالِف معروفةٌ في فتاوى بعض الفقهاء الشيعة الكبار، حيث يُسأل أحدُهم: هل يجوز لعن شارب الخمر المتجاهِر، حتّى لو كان موالياً؟ فيجيب: لا يجوز لعن مَنْ هو مؤمن([3]).
ما يعني أنّه بنظر بعض الفقهاء هناك حصانةٌ مذهبيّة لـ (المؤمن) فقط، تحميه من التعرُّض لـ (اللَّعْن)، ولو كان فاسقاً، كشارب الخَمْر أو تارك الصلاة مثلاً.
والمؤمن بنظر هؤلاء الفقهاء هو المسلم الشيعي الاثنا عشري لا غير، وكلُّ مَنْ عداه ـ كالمسلم السُّنّي، والشيعي الإسماعيلي أو الزَّيْدي أو الإباضي ـ فهو مخالِفٌ، وغير مؤمن([4])، ويجوز لعنُه، وسبُّه، والدُّعاء عليه.
وقد يُقال: إنّ هذا خاصٌّ بالفاسق من المخالفين، وهو مَنْ لم ينضبط في جادّة الشريعة المقدَّسة، وارتكب بعض الذنوب، ولم يتُبْ منها.
ولكنْ بمراجعة المصدر نفسه يتبيَّن أنّ إباحة هذه التصرُّفات مطلقةٌ، حيث سُئل: هل تجوز غيبة غير المؤمن، أو شتمه، بدون داعٍ؟ فأجاب: لا بأس بهما في حَدِّ أنفسهما، ولكنْ ﴿لاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾، الآية، والله العالم([5]).
فهو مجرَّدُ نهيٍ مصلحيّ عن التعرُّض للمخالِفين بالغيبة والشَّتْم، حَذَراً من الردِّ بالمِثْل.
ويُحاول البعض؛ هَرَباً من موقف العُرْف السَّلْبيّ من السَّبِّ والشَّتْم، التفريق بين اللَّعْن والسَّبّ، فيرفضون السَّبَّ ويُحَرِّمونه، بينما يُبيحون اللَّعْن، وقد يُشَجِّعون عليه.
وحيث ندَّعي أنّنا أتباعُ نبيٍّ وأئمّةٍ هُداة ميامين لا بُدَّ أن نتوقَّف عند توجيهاتهم في هذا الشأن. وهنا تستوقفني عدّةُ حوادث تاريخيّة، قلَّما وجدنا لها نصيباً في أدلّة الفقهاء:
الأولى: رُوي أنّه دخل يهوديٌّ على رسول الله(ص)، وعائشة عنده، فقال: السام عليكم، فقال رسول الله(ص): «عليكم»، ثمّ دخل آخر، فقال مثل ذلك، فردَّ عليه كما ردَّ على صاحبه، ثمّ دخل آخر، فقال مثل ذلك، فردَّ رسولُ الله(ص) كما ردَّ على صاحبَيْه، فغضبَتْ عائشة، فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة، يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير، فقال لها رسول الله(ص): «يا عائشة، إنّ الفحش لو كان ممثَّلاً لكان مثال سُوءٍ، إنّ الرِّفْق لم يُوضَع على شيءٍ قطّ إلاّ زانه، ولم يُرْفَع عنه قطّ إلاّ شانه»([6]).
ونلاحِظ في هذا المجال أنّ النبيّ(ص) قد وصف دعاءَها بالموت والغضب واللعنة، وتوصيفها لهم بما وصفهم به القرآن الكريم، بأنّه فُحْشٌ في القول، وهو حرامٌ، كما هو ثابتٌ في الفقه الإسلامي. هذه هي أخلاقُ رسول الله(ص).
وأمّا أخلاقُ أهل البيت(عم) فهي لا تبتعد عن هذه المبادئ والقِيَم، ولم يكن في قاموس أدبهم(عم) لَعْنٌ أو شَتْم.
الثانية: رُوي أنّ حِجْر بن عِدِيّ وعَمْرو بن الحَمِق خرجا يُظهران البراءةَ واللَّعْنَ من أهل الشام، فأرسل إليهما عليٌّ: «أن كُفّا عمّا يبلغني عنكما»، فأتياه، فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا مُحِقِّين؟ قال: «بلى»،[قالا: أَوَليسوا مُبْطِلين؟ قال: «بلى»]، قالا: فلِمَ منَعْتَنا من شتمهم؟ قال: «كرهْتُ لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين، تشتمون وتتبرّؤون، ولكنْ لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقُلْتُم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العُذْر. و[لو] قُلْتُم مكان لعنكم إيّاهم، وبراءتكم منهم: اللَّهُمَّ احْقِنْ دماءَنا ودماءَهم، وأصلِحْ ذات بيننا وبينهم، واهْدِهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقَّ منهم مَنْ جهله، ويرعوي عن الغَيِّ والعُدْوان مَنْ لهج به، كان هذا أحبَّ إليَّ، وخيراً لكم». فقالا: يا أمير المؤمنين، نقبل عِظَتَكَ، ونتأدَّب بأَدَبِكَ([7]).
وهذا منعٌ من أمير المؤمنين عليّ(ع) لشيعته أن يكونوا من اللعّانين والشتّامين، حتّى لمَنْ يخالفهم، بل حتّى لمَنْ يقاتلهم؛ بَغْياً وظُلْماً.
الثالثة: جاء في الخبر أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) كان جالساً في أصحابه فمرَّتْ بهم امرأةٌ جميلة، فرَمَقها القومُ بأبصارهم [على عادة الشباب هذه الأيّام، يتحرَّشون بالنساء في الطُّرُقات]، فقال(ع): «إنّ أبصارَ هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سببُ هَبابها، فإذا نظر أحدُكم إلى امرأةٍ تعجبه فليلامِسْ أهلَه، فإنّما هي امرأةٌ كامرأةٍ»، فقال رجلٌ من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القومُ [أي أصحاب الإمام(ع)] ليقتلوه، فقال(ع): «رُوَيْداً، إنّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنبٍ»([8]).
وهنا يستوقفني توصيف وتصنيف أمير المؤمنين(ع) لكلام ذلك الخارجيّ، الذي تضمَّن ثلاث مقاطع: (دعاءٌ بالهَلاك)؛ و(تكفيرٌ)؛ و(وصفٌ بالفقاهة)، فأيُّها هو السَّبُّ يا تُرى؟
أمّا التوصيف بالفقاهة فليس بسَبٍّ قَطْعاً، ولا يعدو السَّبُّ أن يكون أحدَ الأمرَيْن الآخرَيْن.
فهل يسمع هذا اللاعنون لمَنْ يختلفون معهم من المسلمين، والدُّعاةُ إلى اللَّعْن، وممارسو التكفير والتفسيق والتضليل؟
هل يسمع هذا الذين تركوا الزيارات المتضمِّنة لمعاني التوحيد الخالص، والولاء الصافي، واستبدلوها بـ (زيارة عاشوراء)، الضعيفة سنداً، والمشوَّشة مَتْناً، التي تتلاصق وتترادف فيها عباراتُ اللَّعْن والبراءة لمرّاتٍ ومرّات، في إيقاعٍ ممجوج؟ وكأنّي بواضعيها قد حُرموا؛ بحُكْم الله وشرعه، أن ينطقوا بالسُّباب والفُحْش من القَوْل في الطُّرُقات والأزقّة، فألبسُوه لباس الدِّين، وغطَّوْه بدِثار الوَلاء، وأدخلوه عُنْوةً إلى المساجد والحسينيّات.
ولا أعني بهذا الكلام أنّ المذكورين في ذلك النصّ ـ المسمّى (زيارة عاشوراء) ـ لا يستحقّون اللَّعْن، وإنَّما ليس من أدب المؤمن أن يلهج باللَّعْن ويكثر منه، حتّى يُسَمَّى لعّاناً، فكيف إذا قام بذلك في بيوت الله، ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور: 36)؟! وكيف إذا كان هذا اللَّعْن يجرّ لَعْناً من الطرف الآخر؟!
فأين هؤلاء من أخلاق الله؟! حيث لا يلعن قوماً بأسمائهم، وهو العالم بأفعالهم واستحقاقهم للَّعْن، وإنَّما يلعن فئةً بما فعلوا، فيقول مثلاً: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ (هود: 18). فمَنْ كان ظالماً شملَتْه هذه اللعنة وعَرَفَتْ طريقها إليه، دون أن تستفزّ أحداً، أو تستدعي ردّة فعلٍ غير مرضيّة.
أين هؤلاء من نهي سبحانه وتعالى صراحةً المؤمنين عن أن يسبُّوا الأصنام، وهي معبودات أهل الجاهليّة، لئلا تكون ردّةُ فعلهم سبَّ الذات الإلهيّة المقدَّسة، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 108)؟!
أين هؤلاء عن نهي أهل البيت(عم) لشيعتهم عن التعرُّض بالشَّتْم والسَّبِّ واللَّعْن لأعدائهم جِهاراً؛ خَوْفاً من ردّة الفعل العنيفة من الطَّرَف الآخر، التي ستتمظهر بسبّ وشتم ولعن أهل البيت(عم)؟! وقد قيل لمولانا الصادق(ع): يا بن رسول الله، إنّا نرى في المسجد رجلاً يعلن بسبِّ أعدائكم ويُسمِّيهم؟ فقال: «ما له ـ لعنه الله ـ يعرِّض بنا»([9]). وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) يقول المحقِّق الحلّي في (شرائع الإسلام 4: 942): وكيفية إقامة هذا الحدّ [حدّ اللواط] القتل، إن كان اللواط إيقاباً…. ثمّ الإمام مخيَّر في قتله، بين ضربه بالسيف وتحريقه، أو رجمه، أو إلقائه من شاهق، أو إلقاء جدار عليه. ويجوز أن يجمع، بين أحد هذه وبين تحريقه.
ويقول العلاّمة الحلّي في (إرشاد الأذهان 2: 175): اللواط: وهو وطء الذكران. فإن أوقب قتلا معاً…. ويتخيَّر الإمام في القتل بين: ضربه بالسيف، والتحريق، والرجم، والإلقاء من شاهق، وإلقاء جدار عليه، والجمع بين أحدها مع الإحراق.
ويقول الشهيدان (الأوّل والثاني) في (الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 9: 144 ـ 145): وقتله (إما بالسيف، أو الإحراق بالنار، أو الرجم) بالحجارة وإنْ لم يكن بصفة الزاني المستحق للرجم (أو بإلقاء جدار عليه، أو بإلقائه من شاهق)، كجدارٍ رفيع يقتل مثله. (ويجوز الجمع بين اثنين منها)، أي من هذه الخمسة، بحيث يكون (أحدهما الحريق)، والآخر أحد الأربعة: بأن يقتل بالسيف، أو الرجم، أو الرمي به، أو عليه، ثم يحرق زيادةً في الردع.
ويوافق الشيخ النجفي في (جواهر الكلام 41: 376) على هذا الرأي المشهور، ويحتجّ له بما جاء في «الصحيح أو الحسن» عن أبي عبد الله(ع) قال: بينا أمير المؤمنين(ع) في ملأ من أصحابه إذ أتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين إني أوقبت على غلام فطهرني، فقال يا هذا امضٍ إلى منزلك لعل مراراً هاج بك، حتّى فعل ذلك ثلاثاً بعد مرّته الأولى، فلما كان في الرابعة قال له: يا هذا، إن رسول الله(ص) حكم في مثلك بثلاثة أحكام، فاختر أيهنَّ شئت، قال: وما هنَّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت، أو إهداء من جبل مشدود اليدين والرجلين، أو إحراق بالنار…، الحديث.
ويقول السيد الخميني في (تحرير الوسيلة 2: 470): مسألة 5: الحاكم مخيَّر في القتل بين: ضرب عنقه بالسيف؛ أو إلقائه من شاهقٍ، كجبل ونحوه، مشدود اليدين والرجلين؛ أو إحراقه بالنار؛ أو رجمه. وعلى قولٍ: أو إلقاء جدار عليه، فاعلاً كان أو مفعولاً. ويجوز الجمع بين سائر العقوبات والإحراق، بأن يقتل ثمّ يحرق.
ويقول السيد الخوئي في (مباني تكملة المنهاج 1: 234 ـ 235): مسألة 186: يتخيَّر الإمام في قتل اللائط المحصن، وكذلك غير المحصن إنْ قلنا بوجوب قتله، بين: أن يضربه بالسيف، وإذا ضربه بالسيف لزم إحراقه بعده بالنار على الأظهر؛ أو يحرقه بالنار ؛ أو يدحرج به مشدود اليدين والرجلين من جبل ونحوه. وإذا كان اللائط محصناً فللإمام أن يرجمه. وأما المَلُوط فالإمام مخيَّر بين رجمه والأحكام الثلاثة المذكورة، ولا فرق بين كونه محصناً أو غير محصن.
ويقول السيد الكلبايكاني في (تقريرات الحدود والتعزيرات 1: 205): أما حد اللوطي بإلقائه من شاهق أو قتله بالسيف أو تحريقه فقد دلَّت على ذلك صحيحة أو حسنة مالك بن عطية الطويلة التي نقلناها سابقاً. ويدل على خصوص التحريق رواية القداح عن أبي عبد الله عليه السلام أنه كتب خالد إلى أبي بكر أنه أتى برجل يؤتى في دبره فاستشار أمير المؤمنين(ع) فقال: أحرقه بالنار؛ فإن العرب لا ترى القتل شيئاً.
ويقول الإمام النووي في (روضة الطالبين 7: 309 ـ 310): فصلٌ: قولنا: إيلاج الفرج في الفرج، يدخل فيه اللواط، وهو من الفواحش الكبائر، فإنْ لاط بذكرٍ، ففي عقوبة الفاعل قولان: أظهرهما: أن حدّه حدّ الزنى، فيرجم إن كان محصناً، ويجلد ويغرب إنْ لم يكن محصناً؛ والثاني: يقتل محصناً كان أو غيره. وفي كيفيّة قتله أوجه: أحدها: بالسيف كالمرتدّ، والثاني: يرجم؛ تغليظاً عليه، والثالث: يهدم عليه جدارٌ، أو يرمى من شاهقٍ حتّى يموت؛ أخذاً من عذاب قوم لوطٍ.
([2]) فقد روى أحمد بن محمد بن خالد البرقي في (المحاسن 1: 112 ـ 113)، عن جعفر بن محمد، عن عبد الله بن ميمون القدّاح، عن أبي عبد الله(ع)، [أنّه] كتب خالد إلى أبي بكر: سلام عليك، أما بعد، فإنّي أتيتُ برجلٍ قامت عليه البينة أنه يؤتى في دبره، كما تؤتى المرأة. فاستشار فيه أبو بكر، فقالوا: اقتلوه، فاستشار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، فقال: أحرقه بالنار؛ فإنّ العرب لا ترى القتل شيئاً، قال لعثمان: ما تقول؟ قال: أقول ما قال عليٌّ، تحرقه بالنار، قال أبو بكر: وأنا مع قولكما. وكتب إلى خالد أن أحْرِقْه بالنار، فأحرقه.
وقد وصفها السيد الخوئي بـ (الصحيحة) في (مباني تكملة المنهاج 1: 235).
وروى الكليني في (الكافي 7: 199)، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن يوسف بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن العرزمي، عن أبيه عبد الرحمن، عن أبي عبد الله، عن أبيه(عما) قال: أُتي عمر برجلٍ وقد نكح في دبره، فهمَّ أن يجلده، فقال للشهود: رأيتموه يدخله كما يدخل الميل في المكحلة؟ فقالوا: نعم، فقال لعليٍّ(ع): ما ترى في هذا؟ فطلب الفحل الذي نكحه فلم يجده، فقال عليٌّ(ع): أرى فيه أن تضرب عنقه، قال: فأمر به فضُربت عنقه، ثمّ قال: خذوه فقد بقيَتْ له عقوبةٌ أخرى، قالوا: وما هي؟ قال: ادعوا بطنٍّ من حطب، فدعا بطنٍّ من حطب، فلفّ فيه، ثم أخرجه فأحرقه بالنار، قال: ثمّ قال: إن لله عباداً لهم في أصلابهم أرحامٌ كأرحام النساء، قال: فما لهم لا يحملون فيها؟ قال: لأنها منكوسة، في أدبارهم غدّة كغدّة البعير، فإذا هاجت هاجوا، وإذا سكنت سكنوا.
وروى الكليني أيضاً في (الكافي 7: 199 ـ 200)، عن أبي علي الأشعري، عن الحسن بن عليّ الكوفي، عن العبّاس بن عامر، عن سيف بن عميرة، عن عبد الرحمن العرزمي قال: سمعتُ أبا عبد الله(ع) يقول: وُجد رجلٌ مع رجلٍ في إمارة عمر، فهرب أحدهما، وأخذ الآخر، فجيء به إلى عمر، فقال للناس: ما ترَوْن؟ قال: فقال هذا: اصنَعْ كذا، وقال هذا: اصنَعْ كذا، قال: فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: اضربْ عنقه، فضرب عنقه قال: ثمّ أراد أن يحمله، فقال: مَهْ، إنه قد بقي من حدوده شيءٌ، قال: أيُّ شيءٍ بقي؟ قال: ادْعُ بحطبٍ، قال: فدعا عمر بحطبٍ، فأمر به أمير المؤمنين(ع) فأُحرق به.
وقد وصفها السيد الخوئي بـ (الصحيحة) في (مباني تكملة المنهاج 1: 236).
وروى الكليني أيضاً في (الكافي 7: 201 ـ 202)، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن مالك بن عطيّة، عن أبي عبد الله(ع) قال: بينا أمير المؤمنين(ع) في ملأ من أصحابه إذ أتاه رجلٌ فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد أوقبت على غلامٍ فطهِّرني، فقال له: يا هذا، امْضِ إلى منزلك لعلَّ مراراً هاج بك، فلما كان من غدٍ عاد إليه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إني أوقبت على غلامٍ فطهِّرني، فقال له: يا هذا، امضِ إلى منزلك لعلَّ مراراً هاج بك، حتّى فعل ذلك ثلاثاً بعد مرّته الأولى، فلما كان في الرابعة قال له: يا هذا، إن رسول الله(ص) حكم في مثلك بثلاثة أحكام، فاختر أيَّهُنَّ شئتَ، قال: وما هنَّ يا أمير المؤمنين؟ قال: ضربة بالسيف في عنقك بالغة ما بلغت، أو إهداء من جبلٍ مشدود اليدين والرجلين، أو إحراق بالنار…، الحديث.
وقد وصفها السيد الخوئي بـ (الصحيحة) في (مباني تكملة المنهاج 1: 236).
وروى البيهقي في (السنن الكبرى 8: 232)، عن أبي عبد الله الحافظ، عن أبي العبّاس محمد بن يعقوب، عن العبّاس بن محمد، عن يحيى بن معين، عن غسّان بن مضر، عن سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، [أنّه] سُئل ابنُ عبّاس: ما حدّ اللوطي؟ قال: ينظر أعلى بناءٍ في القرية، فيُرمى به منكساً، ثمّ يتبع الحجارة.
وروى البيهقي أيضاً في (السنن الكبرى 8: 232 ـ 233)، عن أبي نصر بن قتادة وأبي بكر محمد بن إبراهيم الفارسي، عن أبي عمرو بن مطر، عن إبراهيم بن عليّ، عن يحيى بن يحيى، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن داوود بن بكر، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله(ص)، فسألهم عن ذلك، فكان من أشدِّهم يومئذٍ قولاً عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: إن هذا ذنب لم تَعْصِ به أمّةٌ من الأمم إلاّ أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله(ص) على أن يحرقه بالنار، فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد ابن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار.
ثمّ قال البيهقي: هذا مرسلٌ. وروي من وجهٍ آخر عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عليٍّ رضي الله عنه، في غير هذه القصّة، قال: يرجم ويحرق بالنار.
([3]) راجع: الخوئي والتبريزي، صراط النجاة 1: 442، السؤال 1220. وقد علَّق التبريزي على كلام الخوئي بقوله: على الأحوط.
كما يمكن الرجوع إلى صراط النجاة 3: 298، السؤال 918: هل يجوز أن يلعن الفاسق، أو يتهجَّم عليه بألفاظٍ مؤذية، في غير حضوره، أو يُدْعى عليه، أم لا؟ الخوئي: لا يجوز لعن المؤمن، أو سبُّه، أو الدُّعاء عليه، بل عليه أن يأمره بالمعروف أو ينهاه عن المنكر إنْ أمكن، والله العالم. التبريزي: يُضاف إلى جوابه(قدس سرّه): إلاّ إذا كان مبدعاً.
ومن الواضح أنّ تقييد التحريم بالمؤمن يعني عدم شموله لغيره، فيكون لعن غير المؤمن (المخالِف)، وسبُّه، والدُّعاء عليه، حلالاً مباحاً.
([4]) راجع: صراط النجاة 1: 442، السؤال 1218: هل يجوز غيبة المخالف؟ والمؤمن في منهاج الصالحين بالمعنى العامّ (الإسلام) أو الخاصّ، وهو الولاية لأهل العصمة؟ الخوئي: نعم، تجوز غيبة المخالف. والمراد من المؤمن الذي لا تجوز غيبته المؤمن بالمعنى الخاصّ.
صراط النجاة 2: 438، السؤال 1375: لقب المؤمن خاصٌّ لشيعة أهل البيت(عم)، هل يُقال للشيعي: مؤمنٌ، حتّى لو ترك الواجبات، كالصلاة مثلاً؟ الخوئي: نعم، يُقال له: مؤمنٌ.
صراط النجاة 2: 440، السؤال 1385: القول المعروف بعدم جواز الاستغفار لغير المؤمن، كيف يوفَّق بينه وبين الدعاء المشهور: «اللهُمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات…، إلخ»؟ فمَنْ هم المسلمون والمسلمات، بعد المؤمنين والمؤمنات؟ الخوئي: ليس الأمر كذلك؛ فإنّ الاستغفار إنّما لا يجوز للنواصب والخوارج، دون مطلق المسلمين، والله العالم.
ويُفهَم بوضوح من هذه الأجوبة أنّ المؤمن عندهم إنّما هو الشيعي الاثنا عشري، الذي يرى ولاية أئمّة أهل البيت(عم) الاثني عشر، أوّلهم عليّ بن أبي طالب(ع) وآخرهم محمد بن الحسن المهديّ المنتظر(عج)، ومَنْ عداه فهو مسلمٌ مخالِف، وبالتالي يجوز لعنُه، وسبُّه، والدُّعاء عليه.
([5]) راجِعْ: الخوئي، صراط النجاة 2: 425، السؤال 1319.
([6]) رواه الكليني في الكافي 2: 648، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر(ع) قال:…، الحديث، قالت: يا رسول الله، أما سمعت إلى قولهم: السام عليكم؟ فقال: «بلى، أما سمعْتِ ما ردَدْتُ عليهم؟ قلتُ: عليكم، فإذا سلَّم عليكم مسلمٌ فقولوا: سلامٌ عليكم، وإذا سلَّم عليكم كافرٌ فقولوا: عليك».
([7]) رواه نصر بن مزاحم المنقريّ في وقعة صفين: 102 ـ 103، عن عمر بن سعد، عن عبد الرحمن، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك…، الحديث. ورُوي مختصراً في نهج البلاغة 2: 185 ـ 186.