14 ديسمبر 2018
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬448 مشاهدة

عالم البرزخ، وجوده وحقيقته

(الجمعة 14 / 12 / 2018م)

تعريف البَرْزَخ

1ـ التعريف اللغوي

البَرْزَخ هو الحاجز والفاصل بين شيئين، وهو مانعٌ من اختلاطهما وامتزاجهما.

وبهذا المعنى اللغوي ذُكر (البَرْزَخ) في القرآن الكريم، فقال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ﴾ (الرحمن: 19 ـ 20).

﴿وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً﴾ (الفرقان: 53).

2ـ التعريف الاصطلاحي

البَرْزَخ هو عالم الموت، الذي يفصل بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، بين عالم الحياة الأولى وعالم البعث للحياة الثانية الخالدة.

إذن هو يمتدّ من وقت الموت إلى يوم البَعْث، فمَنْ مات فقد دخل البَرْزَخ.

والبَرْزَخ حائلٌ بين الأموات وبين الرجوع إلى الدنيا، ويمنعهم من ذلك، ويحجزهم عن الدنيا التي كانوا فيها، وعن الآخرة التي سيصلون إليها فيما بعد.

وإلى هذا المعنى الاصطلاحي أشار القرآن الكريم بقوله: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِي مَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون: 99 ـ 100).

البَرْزَخ بين الوجود والعَدَم

1ـ الدليل القرآني على وجود البَرْزَخ

إذن لا ينبغي الشكّ في وجود عالم (البَرْزَخ)؛ كيف وقد حدَّثنا القرآن الكريم عنه؟!

قال تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِي مَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون: 99 ـ 100).

قال عزَّ وجلَّ: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ [من النار] مِنْ سَبِيلٍ﴾ (غافر: 11).

موت (آخر الدنيا) + حياة (في البَرْزَخ) + موت (عند النفخ الأول في الصور) + حياة (عند النفخ الثاني في الصور).

ولكنْ يقول تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 28).

موت (قبل الدنيا) + حياة (في الدنيا) + موت (آخر الدنيا) + حياة (البَرْزَخ أو البعث) + رجوع إلى الله.

قال تقدَّست أسماؤه: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصَاراً﴾ (نوح: 25).

أُغرقوا فأُدخلوا بلا فصلٍ كبير، وهو لا يكون إلاّ من خلال عالم البَرْزَخ.

قال جلَّ ثناؤه: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ (غافر: 45 ـ 46).

العرض على النار قبل قيام الساعة، ولا يُتصوَّر إلا في عالم البَرْزَخ.

يقول عزَّ من قائلٍ: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَنْ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 169 ـ 170).

فالحياةُ المستمرّة والاستبشار بمَنْ خلفهم لا يُتصوَّر إلاّ في عالم البَرْزَخ.

2ـ الدليل العقلي على وجود البَرْزَخ

وجودُ (البَرْزَخ) معلومٌ بالبداهة العقلية؛ فالدنيا دار ممرٍّ، دارٌ لحياة مؤقَّتة، ولا خلود فيها لأحدٍ.

ونحن نشهد موت الأصحاب والأحباب والأهل والأقارب، فما هي حقيقة الموت؟ وإلى أين يذهب هؤلاء جميعاً؟!

حقيقة الموت، ومآل الأموات

الموت انتقالٌ من دارٍ إلى دار، وليس الموت فناءً وانعداماً بعد وجودٍ وحياة.

ومن هنا نقول: الأموات هم مَنْ افترقت أرواحهم عن أجسادهم، فأجسادهم نضعها في القبور، وأرواحهم وأنفسهم ترجع إلى الله: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الزمر: 42).

﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾ (الفجر: 27 ـ 30).

والبعث يكون للأجساد من القبور: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ (يس: 51 ـ 52).

إذن يوم البعث هو يوم إحياء الأجساد بإعادة الأرواح إليها.

وعليه فاليوم مَنْ نضعهم في التراب، وقد نرى بعد فترةٍ عظامهم ورُفاتهم، لم يصلوا إلى عالم البعث، وليسوا في عالم الحياة الأولى (الدنيا)، فأين هم إذن؟ لا شَكَّ أنهم في عالم وَسَطٍ بين الدنيا والآخرة، يحجز عن العودة إلى الدنيا، وعن الوصول إلى الآخرة، وذاك هو (عالم البَرْزَخ).

إشكالاتٌ على عالم البَرْزَخ

كيف تعود الروح إلى الجسد؟ وكيف يعاين المَلَكين، ولا يشاهدهما غيره؟

كيف يُضغط مَنْ ليس له قبر، كالمصلوب والغريق و…؟

كيف سيُعذَّب مَنْ سيموت بنفخة الصور الأولى؟ وأين هي المساواة مع مَنْ سبقوه وماتوا منذ زمنٍ؟

لماذا يكون عالم البَرْزَخ، ولا سيَّما أنّ الآخرة هي دار الجزاء، وهو آتٍ لا محالة؟

وسيكون لنا إجابةٌ تفصيلية عن جميع هذه الأسئلة، ولكن في الوقت والمحلّ المناسبين.

عالم البَرْزَخ لجميع الكائنات

بعد اتّضاح ضرورة أن يكون هناك عالَمٌ فاصل (عَقَبَةٌ) بين حياة الدنيا وحياة الآخرة (عند البعث) نقول:

جميعُ الكائنات الحيّة تمرّ في عالم البَرْزَخ، ولكنْ قد يطول ذلك، كما في حال الإنسان الأوّل، وقد يقصر، كما في الذين يموتون بنفخة الصُّور الأولى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ (الزمر: 68). ولعلّ هذا من أسرار نفخة الصُّور الأولى. وعليه فعالم البَرْزَخ يمرّ به جميع بني البشر، ولا ينجو منه أحدٌ. نعم، قد يكون الزمن بين النفختين قصيراً، وإنْ كان العطف بـ (ثمّ) يوحي بعكس ذلك، إلاّ أن أهوال البَرْزَخ سيشهدها الجميع، ومَنْ لا يستوفي عذابه كاملاً في البَرْزَخ فالعذاب ينتظره يوم القيامة، وبهذا تتحقَّق العدالة ـ وهي المطلوبة، وليست المساواة ـ بين مَنْ يموت بنفخة الصُّور الأولى ومَنْ سبقوه وماتوا منذ زمنٍ. وهذا هو جواب الإشكال الثالث المتقدِّم.

رأي العلماء في البَرْزَخ

انقسم علماء المسلمين في تحديد معنى البَرْزَخ إلى 3 أقسام:

مَنْ يعتبر أن البَرْزَخ ذو معنىً باطني. وتحدَّثوا عن جملةٍ من هذه المعاني.

وجميعُها لا محصَّل منها.

مَنْ يرى أن البَرْزَخ ذو معنىً ظاهريّ، مستفاد من الآيات والروايات، وهو حياة الجَسَد والروح معاً.

فالمؤمن ينعَّم في البَرْزَخ؛ فروحُه تُنعَّم في الجنّة، وينال جسدُه (الموجود في القبر) بعضَ النعيم.

والكافر يُعذَّب في البَرْزَخ، فروحه تُعْرَض على النار، وينال جسدُه (الموجود في القبر) نصيباً من العذاب.

مَنْ يعتقد أن البَرْزَخ ذو معنىً ظاهريّ، مستفاد من الآيات والروايات أيضاً، مضافاً إلى العقل والتحليل المنطقي، وهو حياة الروح فقط، وأما الجسد فيكون جثّةً هامدة في البداية، ثمّ يكون مسرحاً وملعباً للديدان، ثمّ يتفتَّت ويتحلَّل ويصير رفاتاً ورميماً: ﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً﴾ (الإسراء: 98 ـ 99).

﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ (يس: 78 ـ 79).

وهنا تأتي الإشكالات المتقدِّمة، لتبعِّد فكرة حياة الجسد بعد الموت وقبل البعث، فتتأكَّد فكرة حياة الروح وحدها. وقد تقدَّم الجواب عن الإشكال الثالث منها.

حقيقة البَرْزَخ

لم تَتجَلَّ حقيقة البَرْزَخ بشكلٍ كامل، وهنالك الكثير من الحقائق التي لا يعلمها إلاّ الله، ولا يدركها إلاّ الميت نفسه، ويجب على المؤمن التسليم والاعتقاد الإجمالي بـ (عالم البَرْزَخ).

عالم البَرْزَخ هو منزل معرفةٍ مع شدّةٍ أو رخاء، ثمّ تكون الحَسْرة والحَيْرة، يلي ذلك كلّه الحساب: سؤالٌ فجواب، وبعدهما يكون الثواب أو العقاب.

قيل: أول منازل عالم البَرْزَخ: القبر (أحواله، أهواله).

والصحيح أن أوّل منازل عالم البَرْزَخ: قبيل (عند) نزع الروح (المعاينة)؛ إذ عند الموت يصير البصر حديداً، فيشاهد المحتضِر ما لا يشاهده الأحياء، ويعجز من حين ذلك عن الكلام والتعبير. فهذا منزل معرفةٍ. وهو كذلك منزل شدّة وكَرْب، ومن هنا يُستحبّ تلقينه في حال نزع الروح (النزع) كلمات الفرج، حيث رُوي عن أبي جعفر(ع) أنه قال: «إذا أدركْتَ الرجل عند النَّزْع فلقِّنْه كلمات الفرج: لا إله إلاّ الله الحليم الكريم، لا إله إلاّ الله العليّ العظيم، سبحان الله ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع، وما فيهنّ وما بينهنّ وما تحتهنّ، وربّ العرش العظيم، والحمد لله ربّ العالمين»([1]).

وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى المرجعيّة الحصريّة للروايات في هذا المضمار؛ إذ ليس للعقل إلى معرفة تفاصيل وجزئيات هذا العالم (عالم البَرْزَخ) من سبيلٍ، وقد نبّه القرآن الكريم إلى وجود هذا العالم، وأشار إلى بعض معالمه (العذاب لآل فرعون وأمثالهم، والفرح والاستبشار للشهداء وأمثالهم)، ولكنّه لم يفصِّل الحديث في بيان جزئيّاته ومشاهده ومراحله، فكان الاعتماد على الروايات حصراً.

وقد رُوي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال لسدير: «والذي بعث محمداً بالنبوة، وعجَّل روحه إلى الجنة، ما بين أحدكم وبين أن يغتبط ويرى السرور أو تبين له الندامة والحسرة إلاّ أن يعاين ما قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ (ق: 17)، وأتاه ملك الموت يقبض روحه، فينادي روحه فتخرج من جسده…، الحديث»([2]).

وثانيها: بعد الموت إلى القبر. وهي فترةٌ من الحَسْرة والحَيْرة، والضيق والشدّة: فقد رُوي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: «ليس من ميتٍ يموت ويترك وحده إلاّ لعب به الشيطان في جوفه»([3]).

وروى أبو حمزة الثمالي عن الإمام زين العابدين(ع) أنه كان يدعو فيقول: «ارحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي…، وارحمني صريعاً على الفراش تقلِّبني أيدي أحبتي، وتفضَّل عليَّ ممدوداً على المغتسل يقلِّبني صالح جيرتي، وتحنَّن عليَّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي…، الحديث»([4]).

وثالثها: القبر. وهو مكانٌ مظلمٌ ضيِّق بارد موحش، يستشعر فيه الإنسان الوحدة والغُرْبة:، فقد رُوي عن أبي جعفر الباقر(ع)، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله(ص): «…في قبرٍ ينادي: أنا بيت الدود، أنا بيت الظلمة والوحشة والضيق…، الحديث»([5]).

وقد روى أبو حمزة الثمالي، عن الإمام زين العابدين(ع)، أنه كان يدعو فيقول: «فما لي لا أبكي؟! أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي…، ارحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي…، وجُدْ عليَّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت الجديد غربتي»([6]).

ورُوي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: «ما من موضع قبرٍ إلاّ وهو ينطق كلّ يوم ثلاث مرات: أنا بيت التراب، أنا بيت البلاء، أنا بيت الدود، قال: فإذا دخله عبدٌ مؤمن قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنتُ أحبّك وأنت تمشي على ظهري فكيف إذا دخلت بطني، فسترى ذلك، قال: فيفسح له مدّ البصر، ويفتح له بابٌ يرى مقعده من الجنة قال: ويخرج من ذلك رجلٌ لم ترَ عيناه شيئاً قطّ أحسن منه، فيقول: يا عبد الله، ما رأيت شيئاً قطّ أحسن منك، فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله، قال: ثمّ تؤخذ روحه فتوضع في الجنة حيث رأى منزله، ثم يقال له: نَمْ قرير العين، فلا يزال نفحة من الجنة تصيب جسده يجد لذّتها وطيبها حتّى يُبعث. قال: وإذا دخل الكافر قال: لا مرحباً بك ولا أهلاً، أما والله لقد كنت أبغضك وأنت تمشي على ظهري فكيف إذا دخلت بطني، سترى ذلك، قال: فتضم عليه فتجعله رميماً، ويُعاد كما كان، ويفتح له بابٌ إلى النار فيرى مقعده من النار، ثم قال: ثم إنه يخرج منه رجلٌ أقبح مَنْ رأى قطّ قال: فيقول: يا عبد الله، مَنْ أنت؟ ما رأيتُ شيئاً أقبح منك، قال: فيقول: أنا عملك السيّئ الذي كنت تعمله ورأيك الخبيث، قال: ثم تؤخذ روحه فتوضع حيث رأى مقعده من النار، ثمّ لم تزَلْ نفخة من النار تصيب جسده فيجد ألمها وحرّها في جسده إلى يوم يُبعث، ويسلِّط الله على روحه تسعة وتسعين تنّيناً تنهشه، ليس فيها تنّين ينفخ على ظهر الأرض فتنبت شيئاً»([7]).

ورُوي عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: «إن للقبر كلاماً في كل يوم، يقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، أنا القبر، أنا روضةٌ من رياض الجنة أو حفرةٌ من حفر النار»([8]).

وقد أشارَتْ جملةٌ من الروايات إلى أنّ القبر هو (البَرْزَخ)، وذلك من باب ذكر بعض مراحله، وليس كلّها؛ وإنّما خُصَّ بالذكر لطول مكوث الميت فيه، قياساً إلى غيره. ومن تلك الروايات: ما رواه عمرو بن يزيد قال: قلتُ لأبي عبد الله(ع) [أي الصادق]: إني سمعتك وأنت تقول: «كل شيعتنا في الجنّة على ما كان فيهم»؟ قال: «صدقتك، كلّهم والله في الجنّة»، قال: قلتُ: جُعلت فداك، إن الذنوب كثيرةٌ كبار؟ فقال: «أما في القيامة فكلُّكم في الجنّة بشفاعة النبيّ المطاع أو وصيّ النبيّ، ولكنّي والله أتخوَّف عليكم في البَرْزَخ»، قلتُ: وما البَرْزَخ؟ قال: «القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»([9]).

وللحديث عن (عالم البرزخ) تتمةٌّ إنْ شاء الله

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) رواه الكليني في الكافي 3: 122، عن عليّ، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(ع)…، الحديث.

([2]) رواه أحمد بن محمد البرقي في المحاسن 1: 177، عن محمد بن عليّ، عن محمد بن مسلم، عن الخطّاب الكوفي ومصعب الكوفي، عن أبي عبد الله(ع)…، الحديث.

([3]) رواه الكليني في الكافي 3: 138، عن عليّ بن محمد، عن صالح بن أبي حمّاد؛ والحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، جميعاً، عن الوشّاء، عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله(ع)…، الحديث.

([4]) رواه الطوسي في مصباح المتهجِّد: 582، 593، معلَّقاً عن أبي حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)…، الحديث ـ الدعاء.

([5]) رواه الكليني في الكافي 3: 234، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن جابر، عن أبي جعفر(ع)…، الحديث.

([6]) رواه الطوسي في مصباح المتهجِّد: 582، 591، 593، معلَّقاً عن أبي حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)…، الحديث ـ الدعاء.

([7]) رواه الكليني في الكافي 3: 241 ـ 242، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن عبد الرحمن بن أبي هاشم، عن سالم، عن أبي عبد الله(ع)…، الحديث.

([8]) رواه الكليني في الكافي 3: 242، عن عدّةٍ من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن الحسين بن عليّ، عن غالب بن عثمان، عن بشير الدهّان، عن أبي عبد الله(ع)…، الحديث.

([9]) رواه الكليني في الكافي 3: 242، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن عبد الرحمن بن حمّاد، عن عمرو بن يزيد…، الحديث.



أكتب تعليقك