الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(بتاريخ: 7 ـ 6 ـ 2014م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ (آل عمران: 110)(صدق الله العليّ العظيم).
في هذه الآية الكريمة يمدح الله سبحانه وتعالى أمَّة الإسلام، أمَّة خاتَم الأنبياء وأفضلِهم محمدٍ(ص)، ويعتبرها خَيْرَ وأفضلَ أمَّةٍ عرفَتْها البَشَريّة؛ لِما تحلَّت به من الصفات الإنسانيّة ومكارم الأخلاق. وقد اختصر ذلك كلَّه بعنوانٍ واحد، يجمع كلَّ صفات الحُسْن والكمال، إنَّه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد قدَّمه في الذِّكْر على الإيمان بالله، في إشارةٍ إلى أهمّيّته وضرورته، وأنَّه الأساس المتين الذي يرتكز عليه الإيمان بالله، وإلاّ كان إيماناً هَشّاً متزلزلاً، لا يمتلك مقوِّمات البقاء والاستمرار.
أيُّها الأحبّة، يمثِّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحَجَر الأساس في بناء المجتمعات البشريّة المتحضِّرة. ولهذا وجدنا الله عزَّ وجلَّ يدعو إليه، ويحثُّ عليه، ويرغِّب فيه، في أكثر من آيةٍ قرآنيّة، ومنها قوله جلَّ وعلا: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).
ومن هذا المنطلق يحقّ لنا أنْ نسأل: ما هو المعروف المطلوب أن نأمر به؟ وما هو المنكَر الذي ينبغي أن ننهى عنه؟ وهذا ما نتعرَّف إليه، ولكنْ بعد أنْ نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه معاً.
1ـ ما هو المعروف؟ وما هو المنكَر؟
مشاهدينا الكرام، ذُكرت في هذا التقرير جملةٌ من المعاني للمعروف والمنكر. وهي في مجملها صحيحةٌ. ولكنَّنا سنبدأ ببيان المعنى اللغويّ لهما، ثمّ المعنى الاصطلاحيّ، ثمّ نذكر بعض المصاديق؛ لتكون الصورة أوضح وأجلى.
(المعروف) مشتقٌّ من (عَرَف). وهو في اللغة بمعنيين:
الأوّل: التتابع والاتّصال. ومنه: عُرْف الديك، وعُرْف الفَرَس.
والثاني: السكون والطمأنينة. ومنه: العَرْف، أي الرِّيح الطيِّبة؛ فإنَّها ممّا يبعث على السكون والطمأنينة. ومنه: المعروف من الأعمال؛ فإنَّها ممّا ترتاح له النفوس، وتسكن إليه الأفئدة.
وعليه فـ (المعروف) في الاصطلاح هو ما يُستحسَن من الأفعال. وهو اسمٌ جامِع لكلِّ ما عُرف من طاعة الله، والتقرُّب إليه، والإحسان إلى الناس، وكلِّ ما ندب إليه الشَّرْع من المحسَّنات، ونهى عنه من المقبَّحات. وهو كلُّ عملٍ إذا رآه الناس الأسوياء العقلاء لا يُنكرونه؛ لأنَّه من عالي الأعمال وأحسنِها وأجملِها، ومن مكارمِ الأخلاق، وهُمْ يرَوْن فيه كلَّ الحُسْن والخَيْر والصلاح.
وأمّا (المنكَر) في اللغة فهو القبيح؛ لقوله عزَّ وجلَّ في قصّة موسى والخِضْر(عما): ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً﴾ (الكهف: 74)، أي شيئاً قبيحاً سيِّئاً تُلام عليه؛ وقوله جلَّ وعلا أيضاً، في ما نقله من وصيّة لقمان لابنه: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ (لقمان: 19)، فوَصَفَ صوتَ الحمار بأنَّه أقبحُ الأصوات، وهو كذلك.
و(المنكَر) في الاصطلاح هو كلُّ ما قبَّحه الشَّرْع وحرَّمه وكَرِهَه.
ومن الواضح أنّ للإنسان في هذه الحياة الدنيا علاقاتٍ متعدِّدةً ومتشعِّبة، ويمكن حصرها بأنواع ثلاثة: 1ـ مع الله الخالق وربِّ العالمين؛ 2ـ مع النَّفْس؛ 3ـ مع الغَيْر، سواءٌ كان إنساناً أم حيواناً أم طبيعة أم جماداً.
وفي كلِّ هذه العلاقات هناك معروفٌ ومنكَر.
فمع الله عزَّ وجلَّ المعروف أنْ تشكره، فتؤمن به أوّلاً، وتعبده كما يحبُّ ويرضى، ولا يتحقَّق ذلك إلاّ باتِّباع شريعته، التي بيَّنها الأنبياء الكرام(عم).
وكلُّ عملٍ ينافي الإيمانَ به كربٍّ للعالمين، يدبِّر شؤونَهم، ويتولّى أمورَهم، ويعرف مصلحتَهم ومفسدتَهم أكثر منهم، هو عملٌ منكَر.
وأمّا مع النَّفْس فالمعروف هو أنْ تحفظها من كلِّ سوء منع اللهُ من تعريضها له، وأنٍ تصونها عن كلِّ مَذَلَّةٍ، ونَقْصٍ، وعَيْبٍ؛ فقد رُوي عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع) أنَّه قال: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ فوَّض إلى المؤمنِ أمورَه كلَّها، ولم يفوِّض إليه أنْ يُذِلَّ نفسَه…، الحديث»([1]).
ورُوي عنه(ع) أيضاً أنَّه قال: «لا ينبغي للمؤمن أنْ يذلَّ نفسه». قيل له: وكيف يذلُّ نفسه؟ قال: «يتعرَّض لما لا يطيق»([2]).
وعليه فكلُّ ما يؤدّي إلى ذِلّةٍ، وضعفٍ، وإراقة ماء الوجه، هو منكَرٌ.
والانتحار منكَرٌ، ولو كان بعنوان (الموت الرحيم)، في حالة المَرَض الشديد أو المُزْمِن، أو في حالة السِّجْن أو الفَقْر، أو أيِّ حال من الأحوال؛ لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة: 195).
وكما أنّ قتل النَّفْس منكَرٌ وحرام، كذلك هو الإضرار بها ضَرَراً معتدّاً به، كتعريضها للمَرَض، أو الجَرْح، أو بَتْر عضوٍ. وعليه فـ (التطبير)، و(المشي على الجَمْر)، و(المشي على الزجاج)، وغير ذلك ممّا نشاهده اليومَ من مُخْتَرَعات وبِدَع، كلُّها منكَرٌ وحرام، ولو اتَّخذَتْ من الدِّين جِلباباً، وتشكَّلوا للإتيان بها أَسْراباً.
وأمّا المعروف في العلاقة مع الغَيْر فهو الإنصاف، والعدالة، وحُسْن الصُّحْبة، وكَفّ الأذى. فلا غيبة، ولا نميمة، ولا تجسُّس، ولا قَتْل، ولا جَرْح، ولا أذى، ولا إزعاج، فكلُّه منكَرٌ وحرام.
وبما أنَّنا نلحظ غياباً شبهَ تامٍّ للنهي الجادّ عن بعض المنكَرات، كإطلاق الرصاص في الهواء في المناسبات، فلا يُستنْكَر هذا المنكَر إلاّ في إطارِ كلامٍ خجول، ولمرّةٍ أو مرّتين، ثمّ تُلقى حِبال الناس على غاربهم، مع أنَّ هذا العمل القَذِر، مهما كانت أسبابُه والدوافع إليه، أصبح يعرِّض حياةَ الناس للخَطَر، فإنَّني ومن موقعي الشرعيّ أُذَكِّر كُلَّ مَنْ يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بأنَّ هذا العملَ حرامٌ شَرْعاً، وهو لا يختلف عن القَتْل أو السَّرِقة أو شرب الخَمْر أو الزنى. فالحَذَر الحَذَر عبادَ الله، حَذَراً من يومٍ لا ينفع فيه إيمانٌ من دون عَمَل، لا ينفع أنْ تقول: أنا مسلمٌ، أنا مؤمنٌ، أنا مقاومٌ، إلاّ إذا صدَّقْتَ القولَ بالعمل الصالح المَرْضِيّ لله.
وقد رُوي عن أمير المؤمنين(ع)، عن النبيّ(ص) أنَّه قال: «إنَّ العبد لا يزني وهو مؤمنٌ، ولا يسرق وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخَمْر وهو مؤمنٌ، ولا يأكل الرِّبا وهو مؤمنٌ، ولا يسفِك الدم الحرام وهو مؤمنٌ…، الحديث»([3]).
فإذا أطلقتَ النّار في الهواء، وسقطَتْ إحدى طَلَقاتِك على شخصٍ فقتلَتْه، فأنتَ مُجْرِمٌ قاتلٌ سفّاكُ دم، ولستَ بمؤمنٍ على الإطلاق. هذا هو دين النبيّ(ص)، وهذا هو دين عليٍّ(ع)، وما عداه دينٌ لا تُشَرِّفنا أيُّ علاقةٍ بأهله.
وها نحن قد عَرَفْنا المعروف والمنكَر، فما هي السُّبُل الفُضلى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل يمكن استخدام القوّة والشدّة والعُنْف في هذا الأمر والنهي؟ هذا ما سنسلِّط الضوء عليه، ولكنْ قبل ذلكنستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى هذا التقرير، فلنتابِعْه.
2ـ كيف يتمّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد؟
مشاهدينا الكرام، ذُكرت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب ثلاث: 1ـ القَلْب؛ 2ـ اللِّسان؛ 3ـ اليَد.
ولعلَّه لما رُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال: «مَنْ رأى منكم منكَراً فليُغيِّرْه بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقَلْبه، ليس وراء ذلك شيءٌ من الإيمان»([4]).
أمّا الإنكار بالقَلْب فيكون ببُدُوِّ الانزعاج والكُرْه للعمل المنكَر، سواءٌ في الوجه أم في التصرُّف أم في ما شابه ذلك.
وأمّا الإنكار باللِّسان فيكون بالوَعْظ والتذكير، وبيان حُرْمة الفعل، وآثارِه السيّئة في الدنيا والآخرة.
وأمّا الإنكار باليَد فقد يتصوَّر البعضُ أنَّه يكون بالضَّرْب أو استخدام العُنْف والشدّة والقَسْوة، وغايةُ ما في الأمر أنَّه قد يُفرِّق بين موردٍ وآخر، كما ذُكِر في التقرير.
ولكنَّ الصحيحَ أنَّ استخدام القوّة والعُنْف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منوطٌ بالسلطةِ الشرعيّة الحاكِمة، فليس كلُّ مكلَّفٍ مخوَّلاً أنْ يبطش بفاعلي المُنْكَر.
ولسنا في مقام بيان الحدود التي ينبغي للحاكم الشرعيّ أنْ يراعيَها في استخدام العُنْف للأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر.
لكنَّنا نُخصِّص الكلامَ في وظيفة سائر أفراد المجتمع في هذا المجال، فكيف يأمرون أو ينهَوْن بأيديهم؟
بعد تحقُّق الشروط الخاصّة لوجوب الأمر والنهي ـ وإذا لم تتحقَّق يكون الأمر والنهي مستحبّاً ـ ينبغي لكلِّ مكلَّف أنْ يبادر إلى الأمر والنهي وِفْق المراتب الثلاث التي ذُكرَتْ.
وبعد تجاوز مرحلتَيْ الأمر والنهي بالقَلْب واللسان نصل إلى مرحلة الأمر والنهي باليَد، لكنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر باليَد لا يعني القَتْل أو الجَرْح أو الضَّرْب، بل قد يكون بالموقف الحازِم تجاه مُرْتكِب المنكَر، واتِّخاذ جملةٍ من الإجراءات الفعليَّة التي تجعله يعيد حساباتِه كلَّها.
فمَثَلاً: لو صادَفْنا إنساناً ظالماً، فاسداً، مُرْتَشِياً، لا يُراعي في مؤمنٍ، أو في إنسانٍ، إلاًّ ولا ذِمّةً، فكيف نصدُّه عن هذا المنكَر، دون أنْ نتعرَّض له بالأذى البَدَنيّ؟
بكلِّ بساطةٍ، قد يكون هذا وجيهاً، أو طالبَ سُلْطة وسُمْعة، فيكون التغيير باليد هاهنا امتناعاً عن التصويت له في الانتخابات، أو كشفاً لحقيقته أمام الناس؛ كي يحذروا منه، وهذا يؤلمُه كثيراً؛ لأنَّه سيُفقده الحضورَ الجماهيريّ الذي يريده.
وقد يكون صاحبَ مِهْنةٍ فنقاطعه، وهذا يؤذيه كثيراً؛ لأنَّه سيخسر المال.
إذاً هو موقفٌ فعليّ حازِم يتجلَّى فيه التغيير باليَد، دون أنْ نُدْمي لَحْماً أو نكسر عَظْماً.
وهكذا حين نريد أنْ نأمر بالمعروف، كالصلاة مثلاً، فإنَّ الأمر باليَد يتجلّى في بناء مَسْجدٍ تهوي إليه الأفئدة.
وهذا، أيُّها الأحبّة، ما عَرَفناه في أخلاق النبيّ(ص) وأهل البيت(عم).
فها هو جارٌ يهوديّ يؤذي النبيّ(ص) كلَّ يوم بوضع القُمامة أمام دارِه، فكيف ينهاه النبيّ(ص) عن فِعْلَتِه؟ لمّا مرض ذاك اليهوديّ قام(ص) بعيادته. فهذا نهيٌ باليَد، نهيٌ بالموقِف.
وهذا إمامُنا الحسنُ بن عليٍّ المجتبى(ع) يلقى في المدينة رجلاً شامِيّاً ناصِبيّاً، يكره أمير المؤمنين عليّاً وأولادَه(عم)، فجعل الرجل يلعنُه، وأيُّ منكَرٍ أعظمُ من هذا؟!، والحَسَن(ع) لا يردّ، وإنَّما قال له: «أيُّها الشيخ، أظنُّك غريباً، ولعلك شبَّهتَ، فلو استَعْتَبْتَنا أَعْتَبْناكَ، ولو سألتَنا أعطيناكَ…، وإنْ كان لك حاجةٌ قضيناها لكَ…»، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنَّك خليفةُ الله في أرضه، اللهُ أعلم حيث يجعل رسالته، وكنتَ أنتَ وأبوكَ أبغضَ خلقِ الله إليَّ، والآن أنتَ أحبُّ خلقِ اللهِ إليَّ، وحوَّل رَحْلَه إليه، وكان ضيفَه إلى أنْ ارتحل، وصار معتقِداً لمحبَّتهم([5]).
أيُّها الأحبّة، إنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشريعٌ إلهيّ، وحاجةٌ إنسانيّة، وضرورةٌ اجتماعيّة، فماذا يحصل لو تُرك الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هذا ما نتعرَّض له، ولكنْ بعد أنْ نستمع وإيّاكم، مشاهدينا الكرام، إلى ما جاء في هذا التقرير، فلنتابِعْه سويّاً.
3ـ ماذا لو تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
مشاهدينا الكرام، وكما جاء في هذا التقرير، ففَضْلاً عن حلولِ غَضَب الله ولعنتِه على كُلِّ فَرْدٍ ومجتمعٍ يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنَّهما تشريعٌ إلهيّ لازِم، ولا يرضى سبحانه وتعالى بتعطيله. وهذا ما نقرأه صريحاً في قوله جلَّ وعلا: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة: 78 ـ 79).
وهذا ما نستوحيه من آياتٍ عديدة حثَّتْ عليه، واعتبرَتْه رمزاً وشعاراً للإيمان، واعتبرَتْ تَرْكَه، وعَكْسَه، نِفاقاً، فقال عزَّ من قائل:﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (التوبة: 67)، ثمّ يقول بعد ذلك: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 71).
ويقول تقدَّست أسماؤه، في ما نقله من وصيَّة لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ (لقمان: 17).
فهو عملٌ شاقٌّ، وقد يثير المشاكل في وَجْه فاعِله، ولكنَّ عليه أنْ يصبر صبرَ الأنبياء والأوصياء والأولياء والصالحين، لينالَ عظيمَ الأَجْر والثواب عند الله.
فإذا عَرَفنا أنَّ إمامنا الحسين بن عليٍّ سيِّد الشهداء(ع) قد بَذَل مهجته، وضَحَّى بأهل بيته وأصحابه، وعرَّض أَخَواتِه وبناتَه للسَّبْي، من أجل هذه الفريضة الإلهيّة، تجلَّت لنا بوضوحٍ أهمّيّةُ وضرورة هذه الفريضة، حيث رُوي عنه(ع) أنَّه قال: «إنّي لم أخرُجْ أشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفْسِداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجتُ لطَلَب الإصلاح في أمَّة جَدِّي(ص)، أريد أنْ آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسيرَ بسيرة جَدِّي وأبي عليّ بن أبي طالب(ع)؛ فمَنْ قَبِلَني بقَبول الحَقّ فاللهُ أَوْلى بالحَقّ، ومَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبر حتَّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحَقِّ، وهو خير الحاكمين»([6]).
وتكمن هذه الضرورة في أنَّ المجتمع الذي يترك أفرادُه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحوَّل إلى مجتمعٍ تسود فيه الرذيلة، وتعُمّ فيه الفاحشة، وتنتشر فيه السيِّئات على أنواعها، فأيُّ حياةٍ تلك الحياة؟! إنَّها تشبه حياة الغاب. لا يأمن فيها ضعيفٌ على نفسِه أو مالِه، ولا يجرؤ فيها حكيمٌ على إظهار حِكْمتِه. يموت الإيمان، وتُستباح الأوطان. تُنتهك الأعراض، وتتفشّى الأمراض. ينقلب الذَّليلُ عزيزاً، والعزيزُ ذليلاً.
هذا ما نشاهدُه في كثيرٍ من المجتمعات، وللأسف الشديد فإنَّ مجتمعاتِنا الإسلاميّةَ تكاد تلتحق بها.
وهذا ما عَهِدَه إلينا رسولُ الله(ص) في ما رُوي عنه أنَّه قال: كيف بكم، أيُّها الناس، إذا طغى نساؤكم وفَسَق فِتْيانكم؟! قالوا: يا رسول الله، إنَّ هذا لكائنٌ؟! قال: نعم، وأشدُّ منه. كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر؟! قالوا: يا رسول الله، إنَّ هذا لكائنٌ؟! قال: نعم، وأشدُّ منه. كيف بكم إذا رأيتُمْ المنكَر معروفاً والمعروف منكَراً؟!([7]).
أيُّها الأحبّة، نسأل الله أنْ يُرِيَنا الحقَّ حقّاً، ويرزقنا اتِّباعَه؛ ويُرِيَنا الباطلَ باطلاً، ويرزقنا اجتنابَه، إنَّه أرحم الراحمين.
والسلام عليكم ـ مشاهدينا الكرام ـ ورحمة الله وبركاته.
الهوامش
([1]) رواه الكليني في الكافي 5: 63، باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق، ح2، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي عبد الله(ع).
([2]) رواه الكليني في الكافي 5: 63 ـ 64، باب كراهة التعرُّض لما لا يطيق، ح4، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن داوود الرقّي، عن أبي عبد الله(ع).
([3]) رواه الكليني في الكافي 2: 281 ـ 282، باب الكبائر، ح16، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد خالد، عن أبيه، رفعه، عن محمد بن داوود الغنوي، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين(ع)، عن رسول الله(ص).
([4]) رواه ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللآلي 1: 431، معلَّقاً مرفوعاً.
([5]) رواه ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 3: 184.
([6]) رواه المجلسي في بحار الأنوار 44: 329 ـ 330.
([7]) رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده 11: 304، قال: حدَّثنا محمد بن الفرج: حدَّثنا محمد بن الزبرقان: حدَّثنا موسى بن عبيدة قال: أخبرني عمر بن هارون وموسى بن أبي عيسى، عن أبي هريرة، مرفوعاً.
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 280 ـ 281: رواه أبو يعلى، والطبراني في الأوسط، إلاّ أنَّه قال: فسق شبابكم. وفي إسناد أبى يعلى: موسى بن عبيدة، وهو متروكٌ. وفي إسناد الطبراني: جرير بن المسلم، ولم أعرفه؛ والراوي عنه شيخ الطبراني همام بن يحيى لم أعرفه.