9 أكتوبر 2015
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
6٬205 مشاهدة

(المباهلة) و(التصدُّق بالخاتَم)، الإمام عليّ(ع) نَفْسُ النبيّ(ص) ووليّ المؤمنين

(الجمعة 9 / 10 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

تمهيد

استكمالاً للحديث عن ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، وتأكيداً لكونها ولايةً مجعولة من قِبَل الله سبحانه وتعالى، ولم تكن باختيار الناس، ولا محتاجةً إلى رضاهم وموافقتهم، فلا قيمة فيها لبَيْعةٍ أو انتخاب، وإنّما هي قائمةٌ بأمر الله، لا مبدِّل لكلماته، ولا رادَّ لمشيئته.

في الحديث عن هذه الولاية، التي هي من أركان الدين، بل هي الركن الأهمّ فيه؛ إذ لولاها لضاقت السبل بالمؤمن عن الوصول إلى تعاليم الله وأحكامه، فعمرُ النبيّ(ص) قصيرٌ، وقد وافاه الأَجَل ولمّا يستكمل بيان الشريعة، وتأصيل العقيدة، فكان لا بُدَّ من خليفةٍ ينهض بأعباء المسؤوليّة كما ينبغي، ويكون وارث علم النبيّ(ص) كلِّه، والمقتدي بنهجه حقّاً؛ ليكون هادياً بعد النذير: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ (الرعد: 7)، في الحديث عن الولاية نلتقي بمناسبتين عظيمتين، لهما دلالةٌ واضحة على ثبوت الولاية، بل تعيُّنها، في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، ومن بعده الأئمّة الأطهار الميامين(عم).

1ـ التصدُّق بالخاتم، وهو راكعٌ

أمّا المناسبة الأولى فهي تصدُّق أمير المؤمنين(ع) بخاتمه على فقيرٍ جاء يسأل الناس، وأمير المؤمنين(ع) راكعٌ في صلاته([1])، فأشار إليه بالخاتم، فاستخرجه وذهب. ونزل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ (المائدة: 55)، حيث يحدِّد لنا الباري عزَّ وجلَّ صفات الوليّ:

صفات الوليّ

(إنَّما) تفيد الحصر، فلا ولاية إلاّ لمَنْ كان بهذه الصفات، وهي:

1ـ أن يقيم الصلاة، بما تمثِّله من بُعْدٍ عن المُنْكَر، كلِّ مُنْكَرٍ؛ فقد جاء في آيةٍ من القرآن المجيد: ﴿وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت: 45)؛ وجاء في الحديث عن النبيِّ(ص): «مَنْ لم تَنْهَه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدَدْ من الله إلاّ بُعْداً»([2]).

2ـ أن يؤتي الزكاة، بما تمثِّله من تكافلٍ اجتماعيّ، ورعايةٍ للضعيف والمحتاج، وأداء لحقٍّ معلوم في المال، لا يجوز أن يُمنَع صاحبه منه: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج: 24 ـ 25).

3ـ أن يكون راكعاً، بما يمثِّله الركوع في العُرْف العامّ من الخضوع والاستسلام والانقياد، فلا أمر ولا نهي له مع مَنْ يركع له، بل هو التسليم المطلق لله سبحانه وتعالى. وهذا هو المعنى العميق للإسلام.

ولم تتعرَّض الآية لصفاتٍ أخرى، كالشَّجاعة، والجمال، والمال، والجاه، و…

فإذا كان المطلوب في الوليّ (مَنْ له الولاية) أن يكون طائعاً عابداً خاضعاً فكيف بالمَوالي (مَنْ هو وليٌّ عليهم) والتابعين؟! وهل يُعقَل أن يطالَب الوليُّ بالطاعة ويُعفى من ذلك مريدُه ووليُّه؟!

إنّ المصداق الأكمل والأجلى لهذه الآية الكريمة هي أمير المؤمنين عليٍّ(ع)، حيث نزلت فيه، وحيث تحقَّقت فيه كلُّ تلك الصفات كأفضل ما يمكن أن تكون عليه. ومن هنا يتعيَّن كونُه وليّاً للمؤمنين، دون سواه من الصحابة أو التابعين، وإنْ كان لهم فضلٌ أو علمٌ أو أيٌّ من صفات الحُسْن والكمال.

2ـ الخروج لمباهلة نصارى نَجْران

وأمّا المناسبة الثانية فهي حادثة المباهلة، في السنة العاشرة للهجرة، حيث وفد على النبيّ(ص) «أسقف نَجْران، في ثلاثين رجلاً من النَّصارى…، وعليهم لباس الدِّيباج والصُّلب…، وتوجهوا إلى النبيّ(ص) قائلين: يا محمد، ما تقول في السيد المسيح؟ فقال النبيّ(ص): عبدٌ لله اصطفاه وانتجبه، فقال الأسقف: أتعرف له ـ يا محمد ـ أباً وَلَده؟ فقال النبيّ(ص): لم يكن عن نكاحٍ فيكون له والدٌ، قال: فكيف قلتَ: إنه عبدٌ مخلوق، وأنت لم تَرَ عبداً مخلوقاً إلاّ عن نكاحٍ، وله والدٌ؟! فأنزل الله تعالى الآيات من سورة آل عمران، إلى قوله: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 59 ـ 61)، فتلاها النبيّ(ص) على النَّصارى، ودعاهم إلى المباهلة، وقال: إنّ الله عزَّ اسمُه أخبرني أن العذاب ينزل على المُبْطِل عقيب المباهلة، ويبين الحقّ من الباطل بذلك. فاجتمعوا، واتّفق رأيهم على استنظاره إلى صبيحة غدٍ… فلما كان من الغد جاء النبيّ(ص) آخذاً بيد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، والحسن والحسين(عما) بين يدَيْه يمشيان، وفاطمة(عا) تمشي خلفه…، فقال الأسقف: يا أبا القاسم، إنّا لا نباهلك، ولكنّا نصالحك…، فصالحهم النبيُّ(ص)…»([3]).

وقد دلَّتْ هذه الحادثة بما لا يقبل الشكّ والارتياب أنّ عليّ بن أبي طالب(ع) هو من النبيّ(ص) بمنزلة نفسه، وله ما له، إلاّ ما خرج بالدليل، كالنبوّة وتعدُّد الزوجات. وهذا يعني أنّ الولاية الثابتة للنبيّ(ص) ثابتةٌ لعليٍّ(ع)، كاملةً غير منقوصة.

إمامٌ ولو لم يُبايَع

وعليه فليس عليٌّ(ع) إماماً وخليفةً لأنّ الناس انتخبوه، وبايعوه، بل هو إمامٌ ووليٌّ بأمرٍ من الله، كما كان النبيّ محمد(ص) رسولاً ونبيّاً بأمرٍ من الله، سواءٌ رضي الناس أم لم يرضَوْا.

ومن هنا لم يكن ليضيره أن أُبعِد عن الخلافة الظاهريّة لسنواتٍ طوال، حُرِم فيها المسلمون من علمه وحكمته وسداد رأيه، ما آل بهم إلى الفساد السياسي والمالي والاجتماعي، والاقتتال الداخلي، والانحراف عن المحجّة البيضاء، حتّى شهدنا انقلاباً جماهيريّاً أطاح بالخليفة الثالث عثمان بن عفّان، بل أودى بحياته.

وأدرك الناس حاجتهم إلى إمامٍ عادل، وحاكمٍ تقيّ، وعالم حكيم ومسدَّد من السماء، وما ذاك إلاّ عليُّ بنُ أبي طالب(ع). فتدافعوا إليه، وأحاطوا به يريدون بيعته، فقال لهم، وهو العالم بشوائب نفوسهم وخبث سرائرهم: «إنّي لكم وزيرٌ خير لكم منّي أمير»([4]).

ولكنّ المشهد كان عظيماً، حيث يصفه أمير المؤمنين بنفسه، فيقول: «فما راعني إلاّ والناس كعُرْف الضَّبُع إليّ، ينثالون عليَّ من كلّ جانبٍ، حتى لقد وُطئ الحسنان، وشُقَّ عِطْفاي، مجتمعين حولي كرَبيضة الغَنَم»([5]).

وهكذا تمَّت الحُجّة على إمام المتَّقين لينهض بأعباء الخلافة الظاهرية، ويتسلَّم مقاليد السلطة. وما كان(ع) ليتخلَّف عن مسؤوليّة ألقاها اللهُ على عاتقه، مع أنّه كان يعلم أنّه لن يستقرّ له حكمٌ أو سلطان، ولكنّه الواجب يستصرخه. وقد بيَّن ذلك بقوله: «أما والذي فلق الحبّة، وبرأ النَّسَمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظَّة ظالمٍ، ولا سَغَب مظلومٍ، لألقَيْتُ حَبْلَها على غارِبِها، ولسقَيْتُ آخرها بكأس أوَّلِها، ولألفَيْتُم دُنياكم هذه أزهد عندي من عَفْطة عنزٍ»([6]).

رجوعٌ بعد فوات

وليس من محض الصُّدْفة على الإطلاق أن تتزامن ذكرى التصدُّق بالخاتم وذكرى المباهلة مع ذكرى البيعة لأمير المؤمنين عليٍّ(ع) في سنة 35هـ. أي بعد 25 سنةً من الإقصاء ها هو الحقّ يعود إلى أهله، وها هو الإمام والوليّ والخليفة الشرعيّ يتبوّأ المكان الذي ينبغي أن يكون فيه. ولكنْ بعد أن سَدَر الناس في التِّيه، وسلكوا طريقاً ذا اعوجاجٍ، وضاعت معالم الدِّين، وعُطِّلَتْ حدود ربِّ العالمين، ولم يَعُدْ بالمقدور الرجوع إلى أحكام الشريعة الغرّاء، وحفظ الفروج والأموال والدماء، إلاّ بدواهي عظمى.

ولعلّ أفضلَ وَصْفٍ لما آلَتْ إليه الأمور يومئذٍ، وخيرَ بيانٍ للسبب الذي دعا أمير المؤمنين(ع) لقبول البيعة، هو قوله(ع): «اللَّهُمَّ إنّك تعلم أنّه لم يكُنْ الذي كان منّا منافسةً في سلطانٍ، ولا التماس شيءٍ من فضول الحُطام، ولكنْ لنَرُدّ المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتُقام المعطَّلة من حدودك. اللَّهُمَّ إنّي أوّل مَنْ أناب، وسمع وأجاب، لم يسبقني إلاّ رسول الله(ص) بالصلاة. وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته؛ ولا الجاهل، فيضلّهم بجهله؛ ولا الجافي، فيقطعهم بجفائه؛ ولا الحائف للدول، فيتّخذ قوماً دون قومٍ؛ ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع؛ ولا المعطِّل للسُّنَّة، فيهلك الأُمّة»([7]).

المهمّة المستحيلة

أيُّها الأحبَّة، لقد قام أمير المؤمنين(ع) بواجبه في حفظ الدِّين، واستنقاذ عباد الله من الجَهْل والجَهالة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولكنَّ المهمَّة كانت شاقّةً، وتحتاج إلى وقتٍ طويل. وهكذا كان للحقِّ والعَدْل موعدٌ آخر ليس ببعيدٍ، مع سيِّد الشهداء أبي عبد الله الحسين(ع)، الذي نلتقي عن قريبٍ بذكرى ثورته المباركة، ثورة الحقّ على الباطل، وثورة المظلوم على الظالم، ثورة كلّ حرٍّ أبيّ وشريف، الثورة التي انتصر فيها الدم على السَّيْف، والأسير على الجلاّد، تحت شعارٍ خالد أَبَد الدَّهْر: «أَلا وإنّ الدَّعِيَّ ابنَ الدَّعِيَ قد ركز منّا بين اثنتين، بين السِّلّة والذِّلّة، وهيهات منا الذِّلّة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدودٌ طابَتْ، وحجورٌ طهُرَتْ، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصراع الكرام». فإلى اللقاء في رحاب الثورة الحسينيّة الخالدة. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) روى ابنُ أبي حاتم الرازي في التفسير 4: 1162، عن أبي سعيد الأشج، عن الفضل بن دكين أبي نعيم الأحول، عن موسى بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل قال: تصدَّق عليٌّ بخاتمه وهو راكعٌ، فنزلت: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾.

وراجع: السيوطي، الدرّ المنثور 2: 293؛ ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 42: 356 ـ 357.

([2]) رواه المجلسي في (بحار الأنوار 79: 198)، معلَّقاً مرفوعاً؛ وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد 2: 258): «عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله(ص): «مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدَدْ من الله إلاّ بُعْداً». رواه الطبراني في الكبير، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقةٌ، ولكنَّه مدلِّسٌ. وعن عبد الله بن مسعود قال: «مَنْ لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدَدْ من الله إلاّ بُعْداً». رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح».

([3]) راجِعْ: المفيد، الإرشاد 1: 166 ـ 168، بتصرُّفٍ واختصار.

([4]) رواه ابن الدمشقي في جواهر المطالب في مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) 1: 293، معلقّاً عن محمد ابن الحنفية.

([5]) نهج البلاغة 1: 35 ـ 36.

([6]) نهج البلاغة 1: 36 ـ 37.

([7]) نهج البلاغة 2: 13 ـ 14.



أكتب تعليقك