فاتحة الكتاب، الأهمِّية والمعنى
(الجمعة 12 / 2 / 2016م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة: 1 ـ 7).
أسماء السورة
لهذه السورة أسماءٌ عديدة، وأشهرها:
1ـ «الفاتحة» أو «فاتحة الكتاب». وقد سُمِّيت بذلك لافتتاح المصاحف بكتابتها؛ ولوجوب قراءتها في الصلاة، حتّى ورد عن النبيّ(ص) أنّه قال: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب». فهي فاتحةٌ لما يتلوها من سور القرآن في الكتاب والقراءة في الصلاة.
2ـ «الحَمْد». وقد سُمِّيت بذلك لأنّ فيها ذكر الحمد لله سبحانه وتعالى.
3ـ «أمّ الكتاب». وقد سُمِّيت بذلك لأنّها متقدِّمة على سائر سور القرآن. وقيل: سُمِّيت بذلك لأنّها أصل القرآن، وإنّما صارت أصل القرآن لأنّ الله تعالى أودعها مجموع ما في السور؛ لأنّ فيها إثبات الربوبيّة والعبوديّة، وهذا هو المقصود بالقرآن.
4ـ «السبع». وقد سُمِّيت بذلك لأنّها سبع آيات، لا خلاف في جملتها. وهذا ما يكشف أنّ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ جزءٌ منها، وقد رُوي عن أمير المؤمنين(ع) أنّه قال: «وإنّ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ آيةٌ من فاتحة الكتاب، وهي سبعُ آيات، تمامها ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾».
5ـ «المثاني». وقد سُمِّيت بذلك لأنّها تثنّى بقراءتها في كلِّ صلاةٍ، فرضٍ ونفلٍ. وقيل: لأنّها نزلت مرّتين.
أهمّيّة السورة وخصائصها
وقد بلغت الفاتحة من الأهمّية ما جعلها بإزاء باقي القرآن كلِّه، فقد رُوي عن أمير المؤمنين(ع) أنّه قال: سمعتُ رسول الله(ص) يقول: «إنّ الله عزَّ وجلَّ قال لي: يا محمّد، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن العظيم، وإنّ فاتحة الكتاب أشرفُ ما في كنوز العرش [والمراد به قدرة الله]».
وسورة الحمد أساسُ القرآن، فقد رُوي عن النبيّ(ص) أنه قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: «ألا أعلِّمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟» قال جابر: بلى، بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، علِّمْنيها، فعلَّمه الحمد أمّ الكتاب، وقال: «هي شفاءٌ من كلّ داءٍ، إلاّ السام، والسام الموت».
وتختلف سورة الحمد عن سائر سور القرآن في لَحْنها وسياقها. فسياق السور الأخرى يعبِّر عن كلام الله، وسياق هذه السورة يعبِّر عن كلام عباد الله. وبعبارة أخرى: شاء الله في هذه السورة أن يعلِّم عباده طريقةَ خطابهم له، ومناجاتهم إيّاه.
البسملة في السور القرآنيّة
افتُتحت جميع السور القرآنية بـ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ما عدا سورةٍ واحدة، وهي سورة براءة (التوبة)؛ وذلك ـ كما رُوي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) ـ «لأنّ البسملة أمانٌ، وبراءةٌ نزلت بالسيف، فليس فيها أمانٌ».
والبسملة عند الشيعة الإماميّة جزءٌ من كلّ سورة قرآنيّة، وبالتالي عندما نوجب على المصلّي أن يقرأ بعد الفاتحة سورة قرآنيّة كاملةً فلا بدّ أن يقرأها مع البسملة، وبنيّة كون البسملة من تلك السورة التي يريد قراءتها.
وهي عند بعض المذاهب الإسلاميّة الأخرى ليست بآيةٍ من الفاتحة، ولا من غيرها من السور، وإنّما كُتبت للفصل بين السور، وللتبرُّك بالابتداء بها، كما بُدئ بذكرها في كلِّ أمر ذي بال.
ويستحبّ في الصلاة الإخفاتيّة الجهر بالبسملة دون بقيّة آيات السورة، وهذا من علامات المؤمن: الجهر بـ ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، خلافاً لمذاهب أخرى يخفتون بها حتّى في الصلوات الجهريّة، وقد رُوي عن إمامنا الباقر(ع) في ذمِّهم أنّه قال: «سرقوا أكرم آيةٍ في كتاب الله: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾».
فضل البسملة
وقد ورد في فضل ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ رواياتٌ عديدة، نستحضر في هذه العجالة روايتين لا غير:
1ـ رُوي عن أمير المؤمنين عليّ(ع) أنّه قال: «واللهِ، ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ أقربُ إلى اسم الله الأعظم من سواد العين إلى بياضها».
2ـ رُوي عن مولانا أبي عبد الله الصادق(ع) أنّه قال: «ما نزل كتابٌ من السماء إلاّ وأوّله ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾».
3ـ ورُوي عن أبي جعفر الباقر(ع) أنّه قال في تفسير ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: «الباء بهاء الله، والسين سناء الله، والميم ملك الله، والله إله كلِّ شيء، والرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصّة».
متعلَّق الجار والمجرور
وعندما نبدأ الجملة بـ ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ فما هو متعلَّقه؛ إذ في العربيّة لا بدّ للجارّ والمجرور من متعلَّق؟
نقول: متعلَّق الباء في بسملة الحمد الابتداء، أي أبتدئ باسم الله الرحمن الرحيم، ويُراد به تتميم الإخلاص في مقام العبودية بالتخاطب. أي حتّى في مقام الخطاب فأنا أبدأ وأفتتح كلامي باسم الله، ذي النعمة والفضل عليَّ، خالقاً ورازقاً ومدبِّراً لجميع شؤوني.
ورُبما يُقال: إنّه الاستعانة. ولا بأس به، ولكنّ الابتداء أنسب؛ لاشتمال سورة الفاتحة ـ التي تعتبر البسملة جزءاً منها ـ على الاستعانة صريحاً في قوله تعالى: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
المعاني السامية
﴿بِسْمِ اللهِ﴾: أي باسم المعبود الذي يستحقّ العبادة والطاعة، دون غيره من الكائنات؛ لأنّه هو الخالق والرازق والمدبِّر، فمَنْ أوْلى منه بالعبادة والطاعة؟!
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: رُوي عن مولانا الصادق(ع) أنّه قال: «الرحمن اسمٌ خاصّ بصفة عامّة، والرحيم اسمٌ عامّ بصفة خاصّة».
ومعنى ذلك أنّ الرحمن اسمٌ خاصٌّ بالله لا يُطلَق على غيره، ولكنّه اسمٌ يُنبئ عن صفةٍ عامّة، وهي الرحمة للمؤمنين والكافرين، المطيعين والعاصين، بأنْ رزقهم وفتح لهم باب الهداية وما سواها من النِّعَم. فهو العاطفُ على خَلْقه بالرزق، لا يقطع عنهم موادّ رزقه، وإنْ انقطعوا عن طاعته.
وأمّا الرحيم فهو اسمٌ عامّ يُطلَق على الله وعلى غيره، ولكنّه اسمٌ ينبئ عن صفةٍ خاصّة، وهي الرحمة بالمؤمنين دون سواهم. فهو الرحيم بعباده المؤمنين في تخفيف طاعته عليهم، فهو لم يُكلِّفهم بكلِّ ما يطيقونه.
لماذا (الرحمن الرحيم)؟
ولرُبَّ قائلٍ: لِمَ لَمْ يُذكر غير هذين الوصفين لله، مع أنّ أسماءه وصفاته كثيرةٌ؟
والجواب: هل هناك أنسبُ من صفة (الرحمة) لتحقُّق النجاح في الأعمال، وللتغلُّب على المشاكل والصعاب؟!
والقوّة التي تستطيع أن تجذب القلوب نحو الله وتربطها به هي صفة الرحمة؛ إذ لها طابعها العامّ، مثل: قانون الجاذبيّة، وينبغي الاستفادة من صفة الرحمة هذه لتوثيق العرى بين المخلوقين والخالق.
وتُعلِّمُنا البسملة أيضاً أنّ أفعال الله تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابعٌ استثنائيّ لا ينزل إلاّ في ظروفٍ خاصّة، كما نقرأ في الأدعية المرويّة عن آل بيت رسول الله(ص): «يا مَنْ سبقَتْ رحمتُه غضبَه».
﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: الربوبيّة بمعنى التدبير، كما يُقال عن الطفل الذي يكون تحت الرعاية والاهتمام (ربيب). فهنا حمدٌ وثناءٌ وشكرٌ للخالق الرازق المدبِّر لشؤون الكائنات جميعاً على ما هي عليه من تناسقٍ وانتظام.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: وأيُّ رحمةٍ أعظم وأكبر من تدبير شؤون هذه الكائنات الضعيفة، وعلى رأسها الإنسان: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾: فبعد الالتفات إلى أنّه الخالق والرازق والمدبِّر والمستحقّ للعبادة وحده هناك التفاتٌ آخر إلى يوم القيامة، يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم الثواب والعقاب، فمَنْ يعمل خيراً في الدنيا يره هناك، ومَنْ يعمل شرّاً في الدنيا يره هناك، ومالك ذلك اليوم، والحاكم ذلك اليوم، هو اللهُ العزيز الجبّار.
وما تقدَّم من آيات هو مدحٌ وثناء وتمجيد لله عزَّ وجلَّ، وقد روى جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن رسول الله(ص)، أنّه قال: «قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي، فله ما سأل، فإذا قال العبد: ﴿الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ قال: حَمَدَني عبدي، وإذا قال: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ قال: أَثْنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ قال: مَجَّدَني عبدي، ثم قال: هذا لي، وله ما بقي». أي يستجيب دعاءه في ما يدعوه به بعد ذلك.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: منتهى الإخلاص والتوحيد في العبادة والاستعانة، فلا نشرك في عبادة ربِّنا أحداً، ولو شركاً خفيّاً، وهو الرياء. وفي الملمّات والشدائد لا نلجأ إلاّ إلى الله؛ لأنّه لا منجي إلاّ هو، ولا مغيث إلاّ هو، ولا معين إلاّ هو.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾: إذا عرفنا أنّ غاية الخلق هو عبادة الله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾، وعبادة الله لا تكون إلاّ من حيث يريد ويرضى، أي بالتزام أوامره وترك نواهيه، إذاً لا بدّ أن نتعرَّف على تلك الأوامر والنواهي، وإلاّ انحرف المسير. ومن هنا فلا بدّ أن يعيش الإنسان المؤمن على الدوام قلقَ البحث عن الحقّ، وهو الصراط المستقيم، الذي لا ينحرف مَنْ سلكه، ولا يتيه مَنْ اتَّبعه.
وفي هذه الآية دلالةٌ واضحةٌ على أنّ سبيل الحقّ والرشاد واحدٌ لا غير، فهو صراطٌ مستقيم، لا صُرُطٌ متعدِّدة.
﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾: أنعمت عليهم بالإسلام ديناً قِيَماً كاملاً غير منقوص. وهنا تستوقفنا آيةٌ أخرى تقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾، وقد نزلت في حجّة الوداع بعد تنصيب النبيّ(ص) لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) خليفةً من بعده. وبما أنّ القرآن يفسِّر بعضه بعضاً فالنتيجةُ واضحةٌ: اهدنا صراطَ الإيمان، وسبيلَ الولاية، بعيداً عن أيّ انحرافٍ أو انجرافٍ خلف هوىً وأطماعٍ وشهوات، فنكون من المغضوب عليهم؛ لأنّهم لم يتَّبعوا ما أنزل الله، أو من الضالِّين التائهين عن الحقّ والصواب. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.