23 فبراير 2016
التصنيف : مقالات سياسية
لا تعليقات
2٬510 مشاهدة

صرخةٌ لله… وللتاريخ، الفاسدون والصالحون

2016-02-23-2015-08-30-صرخةٌ لله... وللتاريخ، الفاسدون والصالحون

(الثلاثاء 23 / 2 / 2016م)

مقالٌ قديم، كُتب بتاريخ: الأحد 30 / 8 / 2015م، ولكنَّه  لا زال صالحاً إلى يومنا هذا، وسيبقى ما دام فسادٌ وفاسدون ومفسدون.

بغَضِّ النظر عن افتقاد الحَراك الشعبيّ اليوم لقيادةٍ، بل ربما يكون بعض المشاركين فيه مشبوهين، كما يروَّج لذلك، فإنّ الحقيقة التي لا يجوز النقاش فيها أنّه قد آن لهذا الشعب المظلوم أن يقول كلمته المشروعة والمحقّة أمام سطوات الظلم والفساد والتقصير: كفى.

لا أعتقد ـ وليس من عادتي التشاؤم، ولكنّه التحليل الموضوعيّ للأحداث ـ لا أعتقد أنّه سيُكتَب لهذا الحِراك الشعبيّ النجاح؛ إذ ليس له أهدافٌ واضحة، ولا خطّة عملٍ وطريق كاملة، وإنّما هي صرخات أَلَمٍ، ونَفَثاتٌ وآهات، تنطلق بعفويّةٍ من جمهورٍ بائس ومظلوم، ومقهور ومحروم…

مضافاً إلى أنّ بعض الشعارات التي تطلقها الجماهير، أو بعضها على الأقلّ، هي شعارات استفزازيّة، وإنْ كان أغلبُها صحيحاً. فقد اعتاد الطائفيّون والحزبيّون ـ وقلَّما تجِدُ مَنْ هو غير طائفيٍّ متعصِّب أو متحزِّب لفئةٍ ـ أن يكون شعارهم: الكلّ فاسد، ما عدا زعيم الطائفة، أو رئيس الحزب، أو…

لماذا العنف؟

لا يستطيع جمهورُ الناس الحضور في مثل هذه الاعتصامات المطلبيّة لأيّامٍ أو أسابيع أو شهور، بل رُبَما طال اعتصامهم لسنواتٍ، على شاكلة الاعتصام الشهير الذي شهدته المنطقة ذاتها (ساحة رياض الصلح) قبل 8 سنوات (2007 ـ 2008م)، حيث أدارته أحزابٌ تمتلك ميزانيّات ضخمة، وقدرات بشريّة وتقنيّة هائلة، فنصبوا الخيام المجهَّزة بوسائل التدفئة والتبريد؛ تحسُّباً لبرد الشتاء وحرّ الصيف، وأنشأوا المرافق الصحيّة الخاصّة، وحافظوا على الحضور اليومي في الساحة، حيث جعلوه من المَهَمّات التنظيميّة لبعض محازبيهم، يتقاضون عليه الراتب الوظيفيّ المقرَّر. ولن أخوض في تفاصيل مجريات ذلك الحَدَث الشهير، وما أفرزَتْه من سلبيّات ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، رغم أحقِّيّته من حيث المبدأ، وإيجابيّاته السياسيّة في منع الاستئثار بالسلطة، والتآمر على المقاومة وأهلها.

جمهورُ الناس اليوم لا يستطيع أن يفعل كما فعل مَنْ سبقوه، فهو مضطرٌّ للحضور في عمله؛ كي يحصِّل رزقه ورزق عياله، ولو كفافاً. وبالتالي فإنّ هذا الجمهور يستعجل تحقيق النتيجة، ولو من خلال المواجهة مع القوى الأمنيّة ـ المشكورة سَلَفاً ـ المكلَّفة بحفظ الأمن، ومنع الشَّغَب، وقمع المعتدين على الأملاك العامّة والخاصّة، فذاك فسادٌ ظاهر لا نقاش فيه.

ومن الطبيعيّ أنّ هذا الاستعجال الجماهيري لا يبرِّر العنف والعدوان على القوى الأمنيّة أو غيرها، فلكلّ مسيرٍ مسارٌ محدَّد، ولا بدَّ من الالتزام بحدوده، فإذا خرج عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه، وانقلب الإصلاح إفساداً في البلاد، وعدواناً على العباد.

ولكنّ السؤال المحوريّ هاهنا: أيُّ نتيجةٍ تريد الجماهير المحتشدة تحقيقها بأسرع وقتٍ ممكن؟

للأسف الشديد، حتّى الآن لم يحدِّد الجمهور هدفه النهائي بشكلٍ واضح وحازم؛ فتارةً يكون الشعار فلتسقط الحكومة؛ وتارةً الشعب يريد إسقاط النظام؛ وطوراً نطالب بإصلاحات؛ وتارةً يكون الموضوع الرئيس للاعتصام النفايات؛ وتارةً أخرى تُفتَح كلّ الملفّات دفعةً واحدة (ماء، كهرباء، فرص عمل، طرقات، استشفاء، غلاء…).

ماذا يريد هذا الجمهور الغاضب؟

من المُهِمّ جدّاً، بل هو أوّل خطوةٍ في طريق النجاح، تحديد المراد من الحَراك الشعبيّ، والاعتصام أو التظاهر أو الثورة ـ ولن نختلف حول التسميات، وإنْ أصبح بعضُها مثيراً لمخاوف كثيرين، وربما كان من حقِّهم كذلك بعد أن شوَّهَت أحداث المنطقة كثيراً من هذه المسمَّيات، تماماً كما يحقّ لمطلقيها أن يرتاحوا إليها؛ لسلامة نواياهم وغفلتهم عن المقصود بها؛ أو لأنّها جزءٌ من مشروعهم التآمريّ الخطير ـ. إذن من المهمّ جدّاً تحديد المراد من أيّ حَراكٍ شعبيّ؛ لكي تستطيع الجهات المعنيّة والمستهدَفة بهذا الحَراك من تحقيقها، لو قرَّرت الاستجابة لمطالب المواطنين المحتجّين.

إسقاطُ النظام دفعةً واحدة دونه عَقَبات كثيرة، أمنيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة، بل أعتقد أنّه لو طُرح كخيارٍ جِدِّيّ لعارضه كثيرون ممَّنْ يشاركون في هذا الحراك، فأيُّ موظَّفٍ في مؤسَّسات الدولة يقبل بسقوط النظام، مع ما قد يستتبعه من انهيار المؤسَّسات، وخروجه من الوظيفة، وحرمانه من الراتب أو التعويض أو…؟! إذن فلنَدَعْ شعار إسقاط النظام إلى حَراكٍ آخر، وبتنظيمٍ مختلف، ورؤيةٍ أكثر دقّةً ووضوحاً.

إسقاط الحكومة غير مُجْدٍ؛ إذ ماذا بعد السقوط؟! لن يقبل أحدٌ بالفراغ الدائم، ولا سيَّما في ظلّ الفراغ الرئاسيّ المشبوه، وعليه ستتشكَّل حكومةٌ جديدة ـ إذا أمكن ذلك وفق الاجتهادات الدستوريّة في هذا الشأن ـ تتمثَّل فيها الأحزابُ والقوى السياسيّة نفسُها، ولو أُعطي المستقلّون حصّةً ما فإنّها حصّةٌ غير وازنة، ولن يكون لها كبير أثرٍ في الإصلاحات المرجوَّة، وبعبارةٍ موجزة: سيكونون قلّةً مستضعَفة، ولن يجني المواطنون سوى تكاليف ماليّة إضافيّة، تؤخَذ من جيوبهم لصالح مجموعةٍ جديدة من الوزراء.

أعتقد أنّ المفيد بحقٍّ هو أن يكون هناك لائحة مطالب محدَّدة، وإنْ كانت متعدِّدة، وتُطالَب الحكومة الحاليّة بالاستجابة لها، وفق جدولٍ زمنيّ معيَّن، تُستكمَل في نهايته جميع الإصلاحات المطلوبة والمرجوّة.

في ملفّ النفايات

المطلب واضحٌ وبسيط: لا للمطامر ـ لا في عكّار ولا في غيرها من المناطق العزيزة والمحرومة ـ. لا للمطامر بشكلٍ نهائيّ لا يقبل المساومة، فالمواطن اللبنانيّ كائنٌ بشريّ ومن حقِّه أن يعيش ـ كما سائر البشر ـ في بيئةٍ نظيفة (الهواء، التراب، الماء…).

نعم للمعامل الحديثة القادرة ـ وبأقلّ الممكن من الآثار السلبيّة على البيئة والمواطن و… ـ على تدوير وتصنيع الكمّ الأكبر من النفايات، والاستفادة منها في توليد الطاقة (الكهرباء مثلاً)، أو الأسمدة، أو…

نعم لإقرار ميزانيّات خاصّة لبناء هذه المعامل في جميع الأقضية على الأراضي اللبنانيّة، دون استثناء، ويبدأ البناء فوراً، لتكون جاهزةً بعد سنةٍ واحدة. والأراضي متوفِّرةٌ، ففي كلّ قضاء آلاف بل عشرات آلاف الأمتار العقاريّة العامّة، أي المملوكة للدولة، والمسمّاة (المشاعات)، فلتكن هذه العقارات في خدمة المواطن يوماً، بعد أن كانت في خدمة المسؤولين والمتنفِّذين لسنواتٍ طوال.

إذا لم يكن هناك أموالٌ في الخزينة فلنطالب بالهبات من الدول الشقيقة والصديقة والحليفة. وهنا يؤسفني أن أتحدَّث بهذه اللغة، ولكنْ لا بُدَّ منها: لقد اعتدنا (الشحادة) من الدول الميسورة. في كلِّ مرّةٍ تجتاحنا أزمةٌ كبرى ـ كحربٍ ضروس أو كارثةٍ طبيعيّة أو…، بل وصل الأمر بالبعض أن يطلب المساعدات لتمويل حملته الانتخابيّة، فواعجباه! ثمّ واآسفاه! ـ تمتدّ أيدينا لقبض بعض المساعدات والهبات من الدول الميسورة التي تجود بما تيسَّر، وهو عندهم يسيرٌ، ولكنّنا نراه كثيراً، ولا نريد أن نعتمد على أنفسنا ومقدّراتنا الداخليّة، ونعيش شيئاً من الاكتفاء الذاتي، وإنْ رافقه تقشُّفٌ وقليلٌ من الحِرْمان. نحن الآن في أزمةٍ، وليست بأهون من الأزمات الأخرى التي مرَرْنا بها، فلنطلب شيئاً من المال لحلّ هذه المشكلة بشكلٍ دائم وصحيح، هذا إذا رَضُوا بمساعدتنا، ودفع المال إلينا؛ فإنّهم يخافون أن يذهب المال إلى جيب هذا وصندوق ذاك، وتبقى الأزمة قائمةً.

حين يتقرَّر إنشاء المعامل الحديثة والفاعلة ـ لا المطامر العشوائيّة والمُضرّة ـ سينتظر الناس، وسيصبرون، لأنّ ذلك تعاونٌ وخير وإصلاح، وهم المواطنون الصالحون إنْ شاء الله تعالى، وسيكونون على قَدْر المسؤوليّة.

ولو اكتشفنا عجزاً حقيقيّاً عن إنشاء مثل هذه المعامل، فإنّ المشروع البديل الصالح هو بيع النفايات للدول القادرة على الاستفادة منها، بيعاً لا يتوخَّى الرِّبْح، وإنْ حصل قَهْراً، بقَدَر ما يتوخَّى الخلاص من هذه المشكلة المزمنة.

في ملفّ الكهرباء

لا بُدَّ في البداية من تسجيل اعتراضنا على التوزيع غير العادل لكافّة الخدمات على المناطق اللبنانيّة، سواء الكهرباء أو المياه أو الطرقات أو…

ليس من الصلاح والعدالة أن تنعم بعض المناطق بالكهرباء لمدّةٍ تزيد على عشرين ساعة، كما في بيروت الإداريّة ـ وفي بعضها لا تقنين البتّة ـ، في حين تغرق بعض المناطق بالظلام لأكثر من عشرين ساعة، كما في بعض المناطق المحرومة والبائسة في ضاحية العِزَّة والإباء، الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وتتفاوت بقيّة المناطق في ساعات التقنين، بموازين ومقاييس أقلّ ما يُقال عنها: إنّها مُجحفةٌ وجائرة، ولا تمتّ إلى الإنسانيّة بِصِلةٍ.

إذا كان ما تنتجه المعامل الموجودة اليوم من الكهرباء لا يكفي لجميع المناطق فلا بُدَّ من إنشاء معامل إضافيّة حديثة تكفي لإنارة لبنان كلِّه ـ وهو البلد الأصغر مساحةً في المنطقة ـ.

وإذا لم تكن لنا القدرة الماليّة على ذلك، فلماذا لا نستقدم الكهرباء من دولٍ شقيقة وصديقة بأثمانٍ مدروسة جدّاً، وقد عرضَتْ علينا ذلك من قبل، كالجمهوريّة العربيّة السوريّة، والجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وربما يندفع غيرُهما متحمِّساً بعد ذلك؟!

نستمع إلى قولهم: إنّه لا قدرة على توزيع الكهرباء لو توفَّرت. وهذا من أغرب ما يُقال! الشبكة موجودةٌ بدليل وصول الكهرباء إلى كلِّ بيتٍ في لبنان، ولو لساعةٍ واحدة في اليوم، فإذا توفَّرت الكمِّيّة المطلوبة من الكهرباء فإنّه يجب أن تصل إلى كلّ بيتٍ على نفس تلك الشبكة.

ليرتفع الصوت عالياً إلى عنان السماء: لا نريد اشتراكات كهرباء بعد اليوم. وليُعتَبَر هذا بمثابة زيادة في الأجور تمنحها الدولة للمواطنين، فهي بتأمينها الكهرباء طيلة اليوم ستوفِّر على معيل كلّ أسرةٍ 100$ شهريّاً قيمة الاشتراك الكهربائي، وهو ما يشكِّل خُمْس إلى سُبْع متوسّط الأجور (750 ألف ليرة أو مليون ليرة). هذا التوفير بمثابة زيادة 15% على الراتب. وهكذا تكون علاقة المحبّة والرَّحْمة بين الدولة والمواطن.

مع الدولة حتّى النهاية في تطوير معامل الإنتاج؛ ولا، بل ألف لا، للمولِّدات، بما فيها مولِّدات البلديّات، التي هي أفضل بكثيرٍ من المولِّدات الخاصّة لأفرادٍ اعتادوا وأَنِسوا بالاسترزاق من وَجَع الناس. ليس عَيْباً أن يخفِّف أحدُهم عن الناس أوجاعهم عندما تغيب مؤسَّسات الدَّوْلة الخَدَماتيّة، ولكنّ العَيْب كلَّ العَيْب أن يمتهن هؤلاء ـ سواءٌ كانوا أصحاب مولِّدات أو جهاتٍ نافذة يتبع لها أصحاب المولِّدات ـ ذلك الأمر، وتستهويهم فكرة الارتزاق من خلال وَجَع الناس، فيرفضون ويعطِّلون تطوير الدَّوْلة لقطاع الكهرباء؛ لحساب أصحاب المولِّدات، الذين يجنون الرِّبْح الوفير، ولا يبالون بما يصيب الناس من جَرَّائها، سواء في ما تتسبَّب به من تلوُّثٍ بيئيّ، أو أصواتٍ مزعجة، أو تمديد كابلاتٍ بشكلٍ عشوائيّ وقبيح، أو خطر حريقٍ، أو انقطاعٍ كثير أو…، ناهيك عن أنّ الكهرباء الناتجة عن المولِّد غالباً ما تكون ضعيفةً، ما يؤثِّر سَلْباً على صلاحية الأدوات الكهربائيّة كافّةً.

في ملفّ المياه

من جديدٍ نذكِّر بأنّه ليس مقبولاً أن يتمّ التمييز بين المناطق، فتشرب بعضها مياهاً عَذْبةً صافية مُستَجَرّة من الأنهار (نهر الكَلْب مثالاً)، وحاضرةً في كلِّ حينٍ، لقربها من بعض المؤسَّسات الحكومية، كما في المنطقة المحيطة بالسَّراي الحكومي أو التي تقع في طريق الشبكة الممتدَّة إليه؛ ولا ينال البعض سوى مياه آبارٍ مالحة ومِزَّة وعَكِرة ومضافٍ إليها من المعقِّمات ما يغيِّر طعم الحياة فيها، وتصلهم في كلِّ عدّة أيّامٍ مرّةً واحدة، ولساعاتٍ محدودة، قد لا تكفي لمَلْء برميلٍ واحد أو برميلين؛ ويبقى للمناطق المحرومة كُلِّياً من مياه الشفة، بل ومن مياه الاستخدام أحياناً، حديثها المُشْجي، حيث يشترون المياه للشُّرْب والاستخدام، وفي ذلك كُلْفةٌ إضافيّة ترهق كاهل المواطن المسكين.

إنّ من أوجب وظائف الحكومة تأمين المياه للشعب كلِّه، وإيصالها إلى كلِّ بيتٍ، وعلى مدار الساعة، بدل أن تبقى مياه الأنهار تصبّ في البحر، دون أن ينعم بها المواطن الكريم.

هل نحن بحاجةٍ فعلاً اليوم إلى أَخْوَت شانَيْه جديد يعرِّفنا كيف نجرّ المياه من الأنهار والينابيع إلى الخزّانات الكبيرة، ومنها إلى البيوت؟!

اللهُمَّ امنُنْ علينا بـ (أَخْوَت) جديدٍ، مختلفٍ عن خُوت السياسة والاقتصاد والأمن والاجتماع والتعليم و…، فإنّنا في أمسِّ الحاجة إليه.

وكما قلنا في الكهرباء نقول هنا: من الجميل أن يساعد أحدُهم الناس في محنتهم، ولو ببيع الماء لهم ـ مضافاً إلى بذله بالمجَّان ـ، ولكنْ لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يكون ذلك طموحاً دائماً له، بحيث يعطِّل مشاريع الدَّوْلة، أو لا يضعها على سِكَّتها التشريعيّة الصحيحة ويفضح مَنْ يقف ضدَّها، ويعطِّلها، ثمّ يقول للناس: لستُ فاسداً؛ فإنّني أؤمِّن لكم المياه. إنّ مياه الخزّانات ليست مياهاً صحِّية، مقارَنةً بمياه الدَّوْلة، مضافاً إلى العَناء الذي يتكبَّده المواطن ـ رجلاً كان أو امرأة ـ في نقلها إلى منزله.

في ملفّ الطرقات

الشعب يريد طرقاتٍ معبَّدةً، لكنْ لا من حصّة هذا الوزير وذاك النائب. فواعجباه، لماذا يقسَّم الزِّفْت على النوّاب والوزراء؟! علماً أنّ المنطق والأخلاق تقول: لا بُدَّ أن يكون الزِّفْت حيث يجب أن يكون، حيث الحِرْمان والإهمال المُتمادي.

كما تجدر الإشارة إلى التقصير والتهاون في تنفيذ المشاريع المقرَّرة، حيث يستغرق تعبيد طريقٍ بطول 10 كلم فقط لا غير أزيد من 4 سنوات، وهو لم يَنْتَهِ إلى يومنا هذا. فَضْلاً عن أنّ العمل ليس بالمستوى الفنِّيّ المرجوّ، ولا المتَّفَق عليه، ولكنْ لا حسيب، ولا رقيب، وقد نامت نواطيرُ … عن ثعالبها….

إنّ وضع العوائق والمَطَبّات الإسمنتيّة أو البلاستيكيّة في وسط الطريق؛ كرمى لعيون هذا المحلّ التجاريّ وذاك، هو فسادٌ كبير، حيث يصيب بضرره كلَّ آليّةٍ متحرِّكة تمرّ عليه، وليس له ما يبرِّره على الإطلاق.

إنّ زرع الأعمدة الحديديّة ـ أو وضع أُصُص النباتات أو البراميل أو أيِّ شيءٍ مُشابِه ـ أمام المحالّ والأرصفة؛ بحجج شتَّى ـ وكلُّها ساقطةٌ في معيار المنطق والاخلاق ـ، ومن قِبَل الأجهزة الرسميّة المُولَجَة حفظ حقوق المواطنين، كلِّ المواطنين، لهو فضيحةٌ كبرى، وإنْ انتشرَتْ مؤخَّراً بشكلٍ كثيف. فبَدَلاً من أن تعمد الأجهزة الرقابيّة الرسميّة إلى نَزْع ما قد يضعه فاسدٌ من أصحاب المحال التّجاريّة، أو نَزِقٌ من قبضايات الشوارع هنا وهناك، نراها تعمد وبشكلٍ رسميّ إلى زرعٍ منظَّم لهذه الأعمدة، بحيث لا يبقى للمواطن القادم إلى تلك المنطقة مجالٌ لركن سيّارته، ويتَّخذ المحبّون والراغبون بهذه الأعمال من فعل البلديّات ذريعةً لمنع الناس عن الاستفادة من الأماكن العامّة (الشوارع مثلاً)، التي لهم كامل الحقّ والحرّيّة في الاستفادة منها؛ لأنَّها مِلْكٌ عامّ يتساوى فيه الجميع، دون استثناءٍ أو تمييز.

إنّها نفوسٌ فاسدة، تحيا الأنانيّة كأبشع ما يكون، يريد كلَّ شيءٍ لصالح نفسه، ولا يُعامل الآخرين بما يحبُّه ويرتضيه لذاته.

في ملفّ الاستشفاء

ويبقى الاستشفاء المعضلة الكبرى القاسمة لظهر الفقراء ومتوسِّطي الحال، الذين لا (ضمان) لهم، ولا وسيط يُلحقهم بحساب وزارة الصحّة، فيعانون على أبواب المستشفيّات الأَمَرَّيْن، ويبذلون ماء وجوههم، ويشرفون على الموت أكثر من مرّةٍ.

أما آن لهذه المعضلة من حلٍّ عادل، بعيداً عن السَّرِقات والهَدْر والفساد، حلٍّ بسيط وصحيح وآمن، يمنع الرشوة والغشّ وكلّ أشكال الحِيَل والخداع.

في الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وهي بَعْدُ لم تبلُغْ مصافّ الدول العظمى، كلُّ أفراد الشعب يستفيد من الضمان الصحِّي، بل يستفيد منه أيضاً كلُّ المقيمين في تلك البلاد، ويُخصَّص لكلِّ فردٍ دفترٌ سنويّ، يحتوي 15 أو 20 قسيمة ثلاثية الألوان. وتتمّ التغطية مباشرةً، فالطبيب يتقاضى أجرته المخفَّضة، ويحتفظ لنفسه بورقته من تلك القسيمة؛ كي يحصل على الفرق من وزارة الصحّة، وهكذا يفعل الصيدليّ، وتبقى ورقةٌ للمريض. بهذا الشكل لا يمكن التلاعب، ولا التزوير، ولا ادِّعاء المَرَض الكاذب؛ إذ سُرعان ما تنتهي القسائم، وحينها قد يُحدَّد للمريض ذو المَرَض المستمرّ أطبّاء خاصّون ينبغي له مراجعتهم إذا أراد الاستشفاء على حساب الوزارة.

ومن الغريب جدّاً في لبنان أن نرى تفاوتاً بين تسعيرة الضمان وتسعيرة الطبيب، وكأنَّنا في سوقٍ حُرّ، وكأنّ الطبيب لا ينتسب إلى نقابةٍ، ولا علاقة له بوزارةٍ أو حكومة أو دولة. إنّنا ندعو إلى اعتماد تسعيرةٍ واحدة، واقعيّة وعادلة، ويتمّ تعريف المواطن عليها من خلال الدعاية المنظَّمة والكثيفة في التلفزيونات والراديوات، بدل دعايات الصَّخَب والميوعة والفَحْشاء والمُنْكَر، وفتح باب الشكوى أمام المواطن عندما يشهد أيَّ مخالفةٍ، ومتابعة الموضوع بجِدّيّةٍ تشجِّع المواطن على الاستمرار في دور الخَفير الاجتماعي المؤازِر للجان التفتيش والرَّقابة الحكوميّة.

نعم، هناك مساعدات الاستشفاء الخاصّة، التي تقدِّمها بعض الأحزاب للمنتسبين إليها، ولكنْ ما هي حال المواطن المستقلّ الذي لا يريد الانتساب والانتظام في إطارٍ حزبيّ ضيِّق؟! فهل هي خطّةٌ مرسومةٌ بإتقانٍ؛ كي يصبح الجميع منتسباً ومنتظِماً، ولو عبر الإغراء والترغيب؟! أَوَليس هذا فساداً؟! بلى، وأيُّ فسادٍ أكبر وأعظم من هذه الدَّعوة؟!

إنّنا نطالب بضمانٍ صحِّيّ كامل وعادل للدولة والمواطنين، ولكنَّ ذلك يحتاج قبل كلِّ شيءٍ إلى ثقافة الصلاح، صلاح الطبيب، وصلاح الصيدليّ، وصلاح المريض، وإلى قانون محاسبةٍ صارم، يزجر كلَّ معتدٍ، ويجعل منه عبرةً لغيره؛ كي لا تتوسَّع دائرة الفساد.

في ملفّ البطالة

إنّنا ندعو الحكومة، ومن موقع الحِرْص على مصالح كافَّة طبقات الشعب، إلى الالتفات بعين العدالة والإنصاف والرَّحْمة إلى فئة العمّال، وتأمين فُرَص عملٍ جديدة لهم، كما للمتخرِّجين من الجامعات، بعيداً عن المحاصصة والمحسوبيّات. وفُرَصُ العمل كثيرةٌ، ولكنّها تحتاج إلى خُطَطٍ وبصيرة.

إنّ ميزانيّة الدولة ليست بالقليلة، ولكنَّها تفنى في مصاريف عَبَثيّة هائلة، من رواتب للنوّاب والوزراء السابقين، والضبَّاط المتقاعدين بشكلٍ اختياريّ. فإلى تعديلٍ جَذْرِيّ وعادل في تلك القوانين التي تمنحهم هذه العطايا، في حين يرزح أكثر من نصف الشعب تحت وطأة الحرمان والإهمال.

عَوْدٌ على بَدْء  

أعتقد أنّ هذه هي أهمّ الخَدَمات الحياتيّة اليوميّة، والتي يمكن مطالبة الدولة بها؛ لأنّه من دونها يُشَكُّ في صدق عنوان الدولة على أيّ كيانٍ اجتماعيّ مهما كَبُر وعَظُم.

عندما لا تكون الأهداف واضحةً فمن الطبيعيّ أن يتوجَّس الناس، ويعزفوا عن المشاركة الكثيفة. وفي المقابل عندما يُصرّ كلُّ فريقٍ سياسيّ على نزاهة رؤسائه وزعمائه، وفساد غيرهم فإنّ هذا يدفع بالجمهور إلى الإصرار على فساد الجميع، وإلاّ فمن أين أتى الفساد إذا لم يكن أحدٌ من هؤلاء فاسداً؟!

كلُّ إنسانٍ غير معصومٍ ـ والعصمة لأهلها فقط ـ هو مسؤولٌ أمام الناس، ولا يجوز تنزيه أحدٍ، ورفعه إلى مقام القدِّيسين؛ لمجرَّد أنّه عالمُ دينٍ أو غيره، فتُمْنَع مساءلتُه ومحاسبته، ليُعرَف فسادُه من صلاحه.

حين أقول هذا لا أقصد أبداً اتِّهام أحدٍ بالفساد ما لم يقُمْ دليلٌ قاطعٌ وبيِّنٌ عليه؛ فنحن قومٌ نخاف الله في الناس جميعاً، وكلُّ إنسانٍ بريءٌ حتَّى تثبت إدانته، ولكنْ إذا ثبت تورُّط أحدهم بفسادٍ مباشر أو غير مباشر فهو فاسدٌ، كائناً مَنْ كان.

ما هو الفساد؟

الفسادُ هو أن يعتدي كائنٌ ما على حقوق غيره من الكائنات، سواءٌ كانت حقوقاً اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو أمنيّة أو فكريّة، ويهدر بذلك كرامته، وينال من حُرِّيّته. وكلَّما كان الفاسد والمُفْسِد في منصبٍ أكبر، وتقع على عاتقه مسؤوليّاتٌ جِسام، كلّما كان الفساد والإفساد منه أقبح وأخطر.

ولقد بيَّن القرآن الكريم هذا المعنى باختصارٍ، حيث يقول: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ [أي الأرض، والنُظُم الماليّة والاقتصاديّة] وَالنَّسْلَ [أي البَشَر، والنُّظُم السياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة والفكريّة] وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [فهو يرفض أيّ محاسبةٍ أو مساءلة أو وَعْظٍ وتنبيه، ويعتقد أنّه صالحٌ طاهر وشريف] فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (البقرة: 204 ـ 206).

ومن هنا كانت وصيَّةُ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) في أوّل خطبةٍ له في خلافته أن قال: «اتَّقوا اللهَ في عباده وبلاده؛ فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البِقاع والبَهائم» (نهج البلاغة 2: 80).

وليس الفساد صنفاً واحداً، وإنَّما هو صنفان ـ في الأقلّ ـ، ويتَّخذ أشكالاً عديدة، وله مظاهر مختلفة:

من مظاهر الفساد المباشر

1ـ أن يسرق المال العامّ أو الخاصّ، من خلال الاختلاس، أو السَمْسَرات في الصَّفَقات والمناقصات، ونحوها من المعاملات الماليّة.

2ـ أن يتقاضى الرَّشْوة ـ الماليّة أو العينيّة (على شكل هباتٍ وهدايا، وعلاقاتٍ اجتماعية، وخَدَماتٍ متنوِّعة) ـ لإنجاز معاملات الناس، وهي وظيفتُه الأساس التي يتقاضى عليها راتبَه الشهريّ، وهو مسؤولٌ ومكلَّفٌ أن يقوم بها بالمجّان، وفي وقتها، ودون تأخيرٍ أو تلكُّؤ، فضلاً عن النِّسْيان والإهمال والإيداع في الأدراج.

3ـ أن يعتدي على الأملاك الخاصّة للناس، فيحوِّلها إلى مشاريع عامّة في ظاهرها، ولكنْ بإدارةٍ وانتفاع شخصيَّين، سواءٌ كانت مشاريع عمرانيّة، كـ (سوليدير)، وبعض المباني على شطوط البحار والأنهار، حيث يستفيد منها بعض الوجهاء والنافذين، ويُحْرَم منها عامّةُ الناس، وهي لهم، وهُمْ أَوْلى بها.

أو يكون الاعتداء على الأملاك العامّة التي تعود في نهاية المطاف إلى الناس، حيث إنَّهم هم الذين يستفيدون منها، وينعمون بها.

4ـ أن يقوم بأيّ عدوانٍ أمني أو عسكريّ على الأبرياء العُزَّل، ولو كانت لهم آراءٌ لا توافق رأيه، أو أفكارٌ وتطلُّعات لا تنسجم مع فكره وآماله وطموحاته الشخصيّة.

5ـ أن يعتدي على الحُرِّيّات الشخصيّة للناس، في ما يقرِّرونه في حياتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، كالذي سمعناه أنّه في بعض المناطق يُمْنَع نَصْب الصحون اللاقطة الشخصيّة؛ لحساب الاشتراك مع بعض الجهات النافذة في المنطقة! أو كالذي شهدناه في بعض المناطق من مَنْع الانتقال في الاشتراك الكهربائي الشهري من هذا المولِّد إلى ذاك؛ لأنّ أصحاب المولِّدات قد تقاسموا المنطقة بيتاً بيتاً، والزبائن فرداً فرداً! أو كالذي نعرفه من مَنْع بعض الأحزاب الدينيّة المنتسبين إليها من الصلاة خلف العالم الفلاني أو ذاك، والتضييق عليهم حتَّى ينفضُّوا عنه، وقد انفضُّوا فعلاً؛ خَوْفاً على أرزاقهم وأعمالهم.

من مظاهر الفساد غير المباشر

1ـ أن يُحْرَم المُستحقّ لتعويضٍ أو مساعدةٍ من حقِّه ذاك، لصالح بعض الأقارب أو المناصرين.

2ـ أن تُستَبْدَل الخِدْمة العامّة للناس بالخِدْمة الخاصّة؛ ليظلّ الناس في حاجة هذا المسؤول أو ذاك، ويلهثون لنَيْل رضاه. فما أن يقصد هذا أو ذاك من أصحاب الحاجات ـ على اختلافها ـ المسؤولين، ولا سيَّما المشرِّعين منهم (النوّاب)، وبَدَل العَمَل الجادّ والدؤوب ـ بل المبادرة إلى مثل هذه الخطوات، ولو لم تكن مطالب فعليّة للناس ـ لطرح مشروعٍ متكامل حول تطوير آليّة القبول في وظيفةٍ أو تقاضي مساعدة أو الحصول على خِدْمة أو…، يبادر المسؤول إلى فتح باب بيته أمامهم، ويستمع لشكاواهم، ثمَّ يعمل على تسويتها بشكلٍ شخصيّ وفرديّ، وغالباً ما يكون الحلُّ ناقصاً، إلاّ لمَنْ كان ذا حظٍّ عظيم. وإنَّما يفعل المسؤول هذا ليبقى له أنصارُه ومحبُّوه ومريدوه، وبالتالي منتخِبوه في الاستحقاقات الانتخابيّة، وليتكاثروا باستمرارٍ، في حين أنّه يجب عليه أن يعمل بكلِّ طاقته، ومدى فكره ـ وهو الذي ينبغي أن يكون من أهل الفكر والتخطيط والإبداع والتطوير ـ من أجل تشريع ما من شأنه أن يَسُدَّ حاجة هؤلاء ومَنْ سيتلوهم من أصحاب الحاجة نفسها، فلا يقصدونه بعد اليوم.

إنَّما هو نائبٌ عن الشعب، كلِّ الشعب، في إيجاد القانون المناسب، والسَّهَر على تطبيقه. وعليه فإنّ مكانه الطبيعي والصحيح هو في المجلس التشريعي، حيث يستولد القانون العادل، ويسعى لإقراره، وليس في صدر المجالس والمواكب في الحسينيّات والمؤتمرات وتشييع الأموات.

ليس الفساد محصوراً بأن يكون المسؤول صاحب قصور وأراضٍ وشركات، ويأكل أفخر الطعام، ولديه طائراتٌ وسيّارات وحماية، وحسابات بنكيّة، وتجارات، وكذلك أولادُه وأقرباؤُه؛ ليُقال: إنّ فلاناً لا يمتلك هذا كلَّه، فهو غيرُ فاسدٍ، بل قد لا يكون مَنْ يمتلك ذلك كلَّه فاسداً أصلاً إذا كان المالُ حلالاً طاهراً، معلومَ المصدر، ولم يصِلْ إلى حدِّ الإسراف والتبذير.

وإنَّما هناك فسادٌ من نوعٍ آخر، يتمثَّل في أن يسكت المسؤول عن فساد شركائه في السُّلْطة والحكم، حتَّى لو لم يتقاسم معهم الحصص، في حين أنّه مسؤولٌ عن محاسبتهم ومساءلتهم. ولذلك فإنّ نفس سكوته عنهم هو فسادٌ كبير، أو فقُلْ: هو تقصيرٌ في حفظ حقوق الناس، والدفاع عنها، وذلك فسادٌ أيضاً، بل هو خيانةٌ للأمانة، و﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ (الأنفال: 58).

3ـ أن يوقِّع المسؤول مشروعاً مُضِرّاً بالبيئة والناس لحليفٍ انتخابيّ يُرْجى بقاؤه حليفاً في الانتخابات، دون أيّ مراعاةٍ لمشاعر الناس ومصالحهم وصحَّتهم، ولسانُ حاله، بل قولُه الفعليّ: اللِّي ما عَجَبوا يْبَلِّط البَحْر. هذه قصّةٌ واقعيّة (نعرف أبطالها)، وهي فسادٌ حقيقيّ وكبير.

4ـ أن يسكت المسؤول عن برامج لا أخلاقيّة ـ تؤدّي إلى الفساد الاجتماعي، وقد حصل بالفِعْل ـ تبثّ على بعض القَنَوات الإعلاميّة، دون أن يمارس ضغوطاً جادّة وقاسية على تلك القَنَوات؛ لئلاّ يخسر حِلْفَه الاستراتيجي مع أصحابها، فهذا فسادٌ كبير.

5ـ أن يسكت مسؤولٌ عن صَفَقاتٍ مشبوهة تجري بمرأىً منه ومَحْضَرٍ، وإنْ لم يُصَوِّت عليها، وإنَّما نالَتْ أكثريّةً في مجلس الوزراء أو النوّاب، دون أن يفضح رموزها على الملأ، فذاك فسادٌ كبير.

6ـ أن يدعم المسؤول نصّاباً، ومختلساً لأموال الناس، قد أشهر إفلاسه؛ لأسبابٍ لا يعلمها إلاّ الله، ولا يُراد لأحدٍ أن يعلمها، ثمّ تُمنَع عنه المحاكمة، أو يُحاكَم بسرعةٍ قياسيّة، ويُحكَمْ عليه بعقوبةٍ شَكْليّة صُوريّة، ويقضي عقوبته في سجنٍ فاره (5 نجوم)، مَحْمِيّاً كي لا يبوح بأسرارٍ خطيرة يحملها، ثمّ يُطْلَق سراحُه بعد أن يستردّ المسؤول وأقرباؤه أموالهم، فهذا فسادٌ كبير.

7ـ أن لا يرصد المسؤولُ حاجات الناس ومتطلَّباتهم المُحِقّة والمشروعة؛ ليتقدَّم بعد ذلك بمشروعٍ للإصلاح في هذه الملفّات، الواحد تلو الآخر، بحيث يصير النائب أو الوزير المُشاغب، ولْيُحْرِجْ كلَّ المعنيِّين، من الأقربين والأبعدين، ولْيُلْقِ بالملفّات على الطاولة، وليضع الجميع أمام الاستحقاق الصَّعْب. ولْيَجْرُؤ أحدُهم على الرَّفْض عَلَناً، ولْيَفْضَحْه هو إنْ لم يُعْرَف من خلال محضر الجَلْسة. نعم، هذا شَغَبٌ في السياسة، ولكنَّه صلاحٌ وإصلاح عند الله، وعند الناس، وهو وحده الذي يضمن للمسؤول أن لا يشير إليه الإصبع ويقول: هذا فاسدٌ كغيره؛ لأنّ الجواب حينئذٍ: أنتم تعرفون مَنْ يريد لكم الخَيْر، ومَنْ لا يريده لكم. وبهذا وحده يمكن للمسؤول إثبات نزاهته، وأنّه ليس كغيره من الفاسدين المباشرين، وإلاّ فلا يلومَنَّ إلاّ نفسه، ورحم الله مَنْ دفع التُّهْمة عن نفسه.

8ـ ومن مظاهر الفساد أيضاً هَدْر المال العامّ، أو أيِّ مالٍ، سواءٌ كان طاهراً أو غيره، وكذا هَدْر الوقت والطاقات البشريّة، في إقامة مهرجاناتٍ واحتفالات ذات تكاليف باهظة، واستنزافٍ تامّ لكلِّ جُهْدٍ وطاقة بشريّة؛ بحُجَّة الديكور المميَّز، والتنظيم الدقيق، والرَّمْزيَّة الخاصّة، وفي كلِّ ذلك تأمُّلٌ، بل تأمُّلات.

9ـ ومن الفساد والتقصير أن يقضي المسؤول ذو الصفة التشريعيّة أو التنفيذيّة وقته متنقِّلاً بين مجالس الفاتحة وتشييع الموتى وحفلات التخريج و… والمهرجانات والمؤتمرات، على أنواعها. مكانُك اللائق في جلسات التشريع، وجلسات الاستحقاقات الوطنيّة، حيث يجب عليك الحضور، والإدلاء برأيك وصوتك، والتقدُّم بمشروعك، وعدم الاكتفاء بالقول: إنَّهم يعطِّلون مشاريعنا، إنَّهم لا يتعاونون معنا. أَحْرِجْهُم، اِفْضَحْهُم. هذه وظيفتك؛ ليعلم الناسُ الصالح من الفاسد، ويحدِّدوا مسارهم واختيارهم في الانتخابات القادمة، ويقفوا الموقف المناسب من كلِّ شخصٍ فاسد.

لا أعتقد أنّ أحداً من الأحزاب والقوى العاملة في لبنان بمنأىً عن واحدٍ، بل أكثر، من هذه المظاهر للفساد المباشر وغير المباشر. ومن هنا فإنّ مقولة: (كلُّن يعني كلُّن) لها حظٌّ في الواقعيّة، ونصيبٌ من الصواب. كلُّهم، نعم كلُّهم، فاسدون، وإنْ يكونوا غير متساوين في حجم الفساد والإفساد.

نداءٌ إلى الحَراك الشعبيّ

وفي هذا السياق لا بُدَّ من التنبيه إلى ضرورة الابتعاد عن لغة السباب والشَّتْم؛ لأنّها غير أخلاقيّة، ومنفِّرة، وتستدعي ردَّة فعلٍ مضادّ، والكلُّ قادرٌ عليها. فالأنسب في هذا المجال التركيز على ذِكْر الحال، وتوصيف الأعمال، كما في وصيّة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع).

إنَّكم لن تستطيعوا الإقامة في ساحات الاعتصام أسابيع وشهوراً عديدة، كما فعل غيرُكم من قبل، ولعلّ هذا سبب توتُّركم واستعجالكم النتائج، ولن تُنال النتائج الطيِّبة بالسرعة المرغوبة. ليكُنْ هذا الحراك منظَّماً وفق جدولٍ زمنيّ محدَّد، ليكُنْ هناك تجمُّعٌ أسبوعيّ (كلّ سبتٍ وأحد مثلاً)؛ حتّى يتسنَّى للعمّال والبائسين ـ وهم الركن الأساس لهذا الحراك ـ الذهاب إلى أعمالهم، وتحصيل قوتهم وقوت عيالهم.

وليكُنْ بين كلِّ موعدَيْن وُرَشٌ من العمل التَّوْعَوِيّ، والمؤتمرات الصحفيّة؛ لوضع الناس أمام حقيقة ما يجري، والخيارات المقتَرَحة، وبيان محاسنها ومساوئها؛ ليكون الاعتصام في الموعد التالي بمثابة الاستفتاء على أحد الحلول. بل ربما أمكن إجراءُ استفتاءٍ حقيقيّ بتنظيمٍ مَدَنيّ ، بعيداً عن أجهزة الدَّولة وإشرافها، على شاكلة الإحصائيّات التي تُجْريها شَرِكاتٌ خاصّة، وتوضع النتائج أمام الرأي العامّ والسُّلْطة معاً، وتُطالَب بالاستجابة لها.

كلمة الختام

وإنَّنا إذ ندعو إلى محاربة الفساد نشير ـ وبكلِّ صراحةٍ ـ إلى أنّ الثقة بين الشعب والحكومة ـ أيِّ حكومة ـ أصبحت معدومةً تماماً، فالشعب لا يصدِّق وَعْداً، ولا يَثِقُ بقرارٍ؛ لأنّه شهد بأمِّ العين نَكْثاً مستمرّاً بالوعود والمواثيق. ومن هنا فإنّ الحَلَّ يكون بآليّة رقابةٍ فوريّة، مستمرَّةٍ وفاعلة.

لم يَعُدْ الشعب يثِقُ بوعودٍ حكوميّة لحلِّ مشكلة مطامر النفايات بعد حينٍ، والالتزام بإقفال هذه المطامر بالشكل الصحِّي المناسب. ويكمن الحلُّ في معامل المعالجة والتدوير، مهما بلغَتْ كُلْفَتُها ـ حيث يمكن للشعب أن يراقب حركة العمل بانتظامٍ، ومواجهة الفساد ـ إنْ حصل ـ في بدايته. وإذا لم تكن هناك ميزانيّة كافية فلنطلب من الأشقّاء العَرَب المقتدرين، وكَمْ سألَتْهُم الحكوماتُ من قَبْل! ولكنَّ ذلك لم يكن يوماً لصالح الشعب حَصْراً، وإنَّما هي غنائم كان أربابُ السُّلْطة والحكم يتقاسمونها بينهم، ولا ينال المواطن منها سوى الفُتات.

نعم، لتفعيل الرقابة على المسؤولين، والجِدِّيّة في مساءلتهم جميعاً: من أين لك هذا؟ وما الذي حَصَلْتَ عليه من موقعك الرسميّ؟

نعم، لتفعيل الرقابة على أجهزة الدولة كافَّةً، ولو من خلال التعامل الجادّ مع شكاوى المواطنين في كافَّة خَدَماتهم.

وفي نفس الوقت نُدين مهاجمة الممتلكات العامّة؛ فإنَّها ليست مِلْك الدولة، ولا يعود خرابُها وتعطيلُها على أحدٍ من المسؤولين بالضَّرَر، وإنّما هو ضَرَرٌ على المواطن لا غير.

إنّ تحفُّظ الكثير، إنْ لم نقُلْ جميع المسؤولين في بعض الأحزاب الدينيّة عن التعريض بهذا الحَراك الشعبيّ لهو خيرُ دليلٍ عن إيمانٍ راسخ بالفساد، ولكنَّه مَسْكونٌ بالخوف على إنجازاتٍ وطنيّة عزيزة وغالية، يدَّعون أنّ الشعب كلَّه سيخسرها في خِضَمِّ أيِّ مواجهةٍ مفتوحة. ولكنّ السؤال الكبير: إذا استمرّ هذا الفساد فهل سيبقى وَطَنٌ، وشعبٌ ينعم بالإنجازات؟!

إنّها صرخةٌ من أعماق القلب، إنّها كلمةٌ بأعلى الصَّوت، كلمةُ حَقٍّ في وجهٍ سلطانٍ جائر. اللهُمَّ هل بلَّغْتُ، اللهُمَّ اشهَدْ.



أكتب تعليقك