6 يناير 2017
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬092 مشاهدة

توقيع صاحب الزمان(عج) للشيخ المفيد(ر)، دراسةٌ تحقيقيّة

(الجمعة 6 / 1 / 2017م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.

تُتداول كثيراً بين المؤمنين عباراتٌ تُنسَب إلى توقيعٍ (رسالة) لصاحب العصر والزمان(عج) إلى الشيخ المفيد(ر). فهل رسالةُ صاحب العصر(عج) للشيخ المفيد(ر) صحيحةُ السند؟ وإذا كانت كذلك هل هي دقيقةٌ بكلِّ حيثيّاتها وتعابيرها؟

نصُّ التوقيع الأوّل

قال الشيخ أبو منصور أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسي(548هـ) في (الاحتجاج 2: 318 ـ 325): «ذكرُ كتاب ورد من الناحية المقدَّسة حرسها الله ورعاها، في أيّامٍ بقيت من صَفَر، سنة عشرة وأربعمائة، على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدَّس الله روحه، ونوَّر ضريحه، ذَكَر موصلُه أنَّه يحمله من ناحية متَّصلة بالحجاز؛ نسخته:

للأخ السديد والوليّ الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ـ أدام الله إعزازه ـ من مستودع العهد المأخوذ على العباد. بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد؛ سلامٌ عليك أيّها الوليّ المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين، ونُعلمُك ـ أدام الله توفيقك لنصرة الحقّ، وأجزل مثوبتك على نطقك عنّا بالصِّدْق ـ أنّه قد أُذِن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤدِّيه عنّا إلى موالينا قِبَلك، أعزَّهم الله بطاعته، وكفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته. فقِفْ ـ أيَّدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه ـ على ما أذكره، واعمَلْ في تأديته إلى مَنْ تسكن إليه بما نرسمه إنْ شاء الله:

نحن وإنْ كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حَسْب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شي‏ءٌ من أخباركم، ومعرفتنا بالذلّ الذي أصابكم، مُذْ جنح كثير منكم إلى ما كان السَّلَف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم، كأنَّهم لا يعلمون.

إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء، واصطلمكم الأعداء، فاتَّقوا الله جلَّ جلالُه، وظاهرونا على انتياشكم من فتنةٍ قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حمّ أجله، ويحمى عنها مَنْ أدرك أمله. وهي أمارةٌ لأُزوف حركتنا، ومباءتكم بأمرنا ونهينا، والله متمُّ نوره ولو كره المشركون.

اعتصموا بالتقيّة من شَبِّ نار الجاهليّة يحششها عصب أموية، يهول بها فرقة مهديّة. أنا زعيمٌ بنجاة مَنْ لم يَرْمِ فيها المواطن، وسلك في الطعن منها السُّبُل المَرْضيّة. إذا حلّ جمادى الأولى من سنتكم هذه فاعتبروا بما يحدث فيه، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه، ستظهر لكم من السماء آيةٌ جليّة، ومن الأرض مثلها بالسويّة، ويحدث في أرض المشرق ما يُحْزِن ويُقْلِق، ويَغلِب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق، ثمّ تنفرج الغمّة من بعدُ ببوار طاغوتٍ من الأشرار، ثم يسترّ بهلاكه المتَّقون الأخيار، ويتَّفق لمريدي الحجّ من الآفاق ما يؤمِّلونه منه، على توفيرٍ عليه منهم واتّفاق، ولنا في تيسير حجِّهم على الاختيار منهم والوفاق شأنٌ يظهر على نظام واتِّساق.

فليعملْ كلُّ امرئٍ منكم بما يقرب به من محبّتنا، ويتجنَّب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا؛ فإنّ أمرنا بغتة فجاءة، حين لا تنفعه توبة، ولا ينجيه من عقابنا ندمٌ على حوبة، والله يلهمكم الرشد، ويلطف لكم في التوفيق برحمته.

نسخة التوقيع باليد العليا على صاحبها السلام: هذا كتابنا إليك أيّها الأخ الوليّ، والمخلص في ودّنا الصفيّ، والناصر لنا الوفيّ، حرسك الله بعينه التي لا تنام، فاحتفِظْ به ولا تُظهِرْ على خطِّنا الذي سطَّرناه بما له ضمنّاه أحداً، وأَدِّ ما فيه إلى مَنْ تسكن إليه، وأَوْصِ جماعتهم بالعمل عليه إنْ شاء الله، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.

نصّ التوقيع الثاني

وورد عليه كتابٌ آخر من قبله صلوات الله عليه، يوم الخميس، الثالث والعشرين من ذي الحِجّة، سنة 412هـ؛ نسخته:

من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحقّ ودليله. بسم الله الرحمن الرحيم، سلام الله عليك أيّها الناصر للحقّ، الداعي إليه بكلمة الصدق، فإنّا نحمد الله إليك الذي لا إله إلاّ هو إلهنا وإله آبائنا الأوّلين، ونسأله الصلاة على سيّدنا ومولانا محمد خاتم النبيّين وعلى أهل بيته الطاهرين. وبعد؛ فقد كنّا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسبب الذي وهبه الله لك من أوليائه، وحرسك به من كَيْد أعدائه، وشفعنا ذلك الآن من مستقرٍّ لنا ينصب في شمراخ من بهماء صرنا إليه آنفاً من غماليل ألجأنا إليه السباريت من الإيمان، ويوشك أن يكون هبوطنا إلى صحصح من غير بعدٍ من الدهر، ولا تطاول من الزمان، ويأتيك نبأٌ منّا يتجدَّد لنا من حال، فتعرف بذلك ما نعتمده من الزلفة إلينا بالأعمال، والله موفِّقك لذلك برحمته.

فلتكُنْ حرسك الله بعينه التي لا تنام ـ أن تقابل لذلك فتنة تبسل نفوس قوم حرثت باطلاً لاسترهاب المبطلين، يبتهج لدمارها المؤمنون، ويحزن لذلك المجرمون، وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظَّم، من رجس منافق مذمَّم، مستحلّ للدم المحرّم، يعمد بكيده أهل الإيمان، ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان؛ لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئنَّ بذلك من أوليائنا القلوب، وليتَّقوا بالكفاية منه وإنْ راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهيّ عنه من الذنوب.

ونحن نعهد إليك أيّها الوليّ المخلص، المجاهد فينا الظالمين ـ أيَّدك الله بنصره الذي أيَّد به السلف من أوليائنا الصالحين ـ، أنّه مَنْ اتَّقى ربَّه من إخوانك في الدين، وأخرج ممّا عليه إلى مستحقِّيه، كان آمناً من الفتنة المبطلة، ومحنها المظلمة المضلّة، ومَنْ بخل منهم بما أعاره الله من نعمته على مَنْ أمره بصلته فإنّه يكون خاسراً بذلك لأولاه وآخرته. ولو أنّ أشياعنا ـ وفَّقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا، على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلاّ ما يتَّصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته على سيّدنا البشير النذير محمد وآله الطاهرين وسلّم. وكتب في غُرّة شوّال من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.

نسخة التوقيع باليد العليا صلوات الله على صاحبها: هذا كتابنا إليك أيّها الوليّ، الملهم للحقّ العليّ، بإملائنا وخطِّ ثقتنا، فأَخْفِهِ عن كلِّ أحدٍ، واطوِهِ، واجعل له نسخةً تطلع عليها مَنْ تسكن إلى أمانته من أوليائنا ـ شملهم الله ببركتنا إنْ شاء الله ـ. الحمد لله والصلاة على سيّدنا محمد النبيّ وآله الطاهرين».

أين السند؟

وكما هو واضحٌ فإنّ الشيخ الطبرسي لم يذكُرْ سنداً لهذين التوقيعين، أي لم يذكر طريقه المتَّصل إلى الشيخ المفيد. وكذا فعل كلُّ من نقلهما من بعده، كيحيى بن البطريق(600هـ).

تبريراتٌ واهية

وقد حاول البعض تبرير ذلك؛ اعتماداً على ما ذكره الطبرسي نفسه في مقدّمة (الاحتجاج 1: 10) بقوله: «ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده؛ إما لوجود الإجماع عليه؛ أو موافقته لما دلَّت العقول إليه؛ أو لاشتهاره في السِّيَر والكتب بين المخالف والمؤالف».

ومن هنا استفاد هذا البعض بأنّ حال هذين التوقيعين  لا يخلو من ثلاثة وجوه: وجود الإجماع عليهما؛ موافقتهما لما دلَّت العقول إليه؛ اشتهارهما في السِّيَر والكتب بين المخالف والمؤالف.

ثمّ أيَّد مذهبه بالدقّة الموجودة عند الطبرسي في روايته، ووثاقة الطبرسي عند كافّة العلماء، وبالتالي يمكننا الاطمئنان بالتوقيعَيْن.

ونحن هنا لسنا في صدد البحث المفصَّل في ما ذكره هذا البعض، وإنّما يُوكَل الأمر إلى محلِّه في مباحث الأصول، وإنّما نقول:

1ـ أمّا الإجماع فهو غير محرَزٍ وجداناً، وإنّما هو دعوى من الطبرسي، فهل أنّه تحرَّى حال جميع العلماء وآرائهم في المسألة فلم يجِدْ فيهم مخالفاً؟! ودليليّة الإجماع عموماً موردُ نقاشٍ كبير عند العلماء، وقد شابت اتِّخاذَه دليلاً كثيرٌ من الهَفَوات، حتّى أنّ بعض العلماء الكبار والمشهورين في الطائفة كان يدَّعي الإجماع على مسألةٍ، ثمّ يدّعي الإجماع على خلافها بعد ذلك بقليلٍ، ما جعل بعض المتمسِّكين بالإجماع يجْهَدون في سبيل تأويل مثل هذه الدعاوى.

إذن لا مجال للتمسُّك بالإجماع دليلاً في المقام.

2ـ وأمّا الموافقة لما دلَّت العقول إليه فهل أنّ كلَّ ما هو ممكنٌ عقلاً يمكن لنا أن نحكم بثبوته ووقوعه فعلاً. ما سمعنا بهذا في بحثٍ أو تحقيقٍ علميٍّ رصين.

3ـ وأمّا اشتهارُهما في السِّيَر والكتب بين المخالف والمؤالف فهذه دعوى مردودةٌ على مطلِقِها؛ إذ أين هي هذه الكتب التي ذكَرَتْه قبل الطبرسي في الاحتجاج؟! هل ضاعت كلُّها؟! أين كتب العلماء طيلة ما يزيد عن مئة سنة، حيث توفّي المفيد في 413هـ وتوفّي الطبرسي في 548هـ، فأين كتب العلماء في القرن الخامس الهجري وبعض القرن السادس الهجري عن نقل هذه التوقيعات؟! بل أين إخبار الشيخ المفيد بنفسه عنها، ولو في وصيَّته؟!

أسئلةٌ مشروعة

والأسئلة الذي تطرح نفسها بقوّةٍ هنا:

1ـ كيف تلقّى الشيخ المفيد رسائل الإمام(ع)؟! ولماذا لم يُشاهدْه شخصيّاً ما دام بهذه المنزلة الرفيعة، ومحلَّ هذا الفيض القدسيّ للمولى(ع)؟! فمَنْ أولى منه بالوصال؟! ومَنْ هو الذي استحقّ أن يكون صلة الوصل بين الإمام(ع) وبين أخيه السديد ووليِّه الرشيد؟!

2ـ ثم ها نحن نقرأ في هذا التوقيع أنّ موصِلَه ذكر أنّه يحمله من ناحية متَّصلة بالحجاز، فما هي هذه الناحية؟ وهل من الضروري إخفاءُ اسمها؟ وما معنى متَّصلة بالحجاز؟! فهل أن المولى(ع) مستقرٌّ في الحجاز، ولا تصدر توقيعاته إلاّ منها؟!

3ـ ثمّ ها نحن نشهد في التوقيع الثاني جملةً من الكلمات المبهمة المغلقة (شمراخ، بهماء، غماليل، السباريت، صحصح)، فهل هذه هي لغةُ أهل البيت(عم)؟!

4ـ وها نحن نلاحظ أنّ الإمام قد كتب التوقيع الأوّل بخطّه، بينما أملى التوقيع الثاني على مَنْ كتبه له، فهل هو في مأمنٍ ومستقرّ، ويتّخذ كُتَّاباً له؟! ومع ذلك فهو يأمر الشيخ المفيد بأن لا يُطلع أحداً على أصل التوقيع الثاني، وإنّما ليتَّخِذْ له نسخةً ويُطْلِع عليها مَنْ يأتمنه من أصحابه، فأيُّ فرقٍ بين الأصل والنسخة ما دام الأصل ليس بخطّ الإمام(ع)؟!

5ـ وها نحن نقرأ في التوقيع الثاني أنّه قد كُتب في غُرّة شوّال، أي بدايته، ولكنّه لم يَصِلْ إلى الشيخ المفيد إلاّ في 23 ذي الحجّة، فهل يحتاج إيصال الكتاب إلى كلِّ هذه المدّة؟!

المحصَّلة  

إنّها أسئلةٌ تجعلنا نشكُّ في صدور هذين التوقيعين من المولى المهديّ(ع)، وإنْ كنّا لا نستطيع الجَزْم بعدم الصدور.

وإلى هذا الرأي ذهب السيد المحقِّق أبو القاسم الخوئي في (معجم رجال الحديث 18: 220)، حيث قال: «أقول: هذه التوقيعات لا يمكننا الجَزْم بصدورها من الناحية المقدَّسة؛ فإن الشيخ المفيد قُدِّس سرُّه قد تولَّد بعد الغيبة الكبرى بسبع أو تسع سنين، ومُوصِل التوقيع إلى الشيخ المفيد قُدِّس سرُّه مجهولٌ. هَبْ أنّ الشيخ المفيد جَزَمَ؛ بقرائن، أنّ التوقيع صدر من الناحية المقدَّسة، ولكنْ كيف يمكننا الجَزْم بصدوره من تلك الناحية. على أنّ رواية الاحتجاج لهذين التوقيعين مُرسَلةٌ، والواسطة بين الطبرسي والشيخ المفيد مجهولٌ».



أكتب تعليقك