الفساد، وبعضٌ من مظاهره
(الجمعة 9 / 6 / 2017م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.
ما هو الفساد؟
الفسادُ هو أن يعتدي كائنٌ ما على حقوق غيره من الكائنات، سواءٌ كانت حقوقاً اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو أمنيّة أو فكريّة، ويهدر بذلك كرامته، وينال من حُرِّيّته. وكلَّما كان الفاسد والمُفْسِد في منصبٍ أكبر، وتقع على عاتقه مسؤوليّاتٌ جِسام، كلّما كان الفساد والإفساد منه أقبح وأخطر.
ولقد بيَّن القرآن الكريم هذا المعنى باختصارٍ، حيث يقول: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ [أي الأرض، والنُظُم الماليّة والاقتصاديّة] وَالنَّسْلَ [أي البَشَر، والنُّظُم السياسيّة والأمنيّة والاجتماعيّة والفكريّة] وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [فهو يرفض أيّ محاسبةٍ أو مساءلة أو وَعْظٍ وتنبيه، ويعتقد أنّه صالحٌ طاهر وشريف] فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ (البقرة: 204 ـ 206).
ومن هنا كانت وصيَّةُ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) في أوّل خطبةٍ له في خلافته أن قال: «اتَّقوا اللهَ في عباده وبلاده؛ فإنَّكم مسؤولون حتَّى عن البِقاع والبَهائم» (نهج البلاغة 2: 80).
وليس الفساد صنفاً واحداً، وإنَّما هو صنفان ـ في الأقلّ ـ، ويتَّخذ أشكالاً عديدة، وله مظاهر مختلفة:
من مظاهر الفساد المباشر
1ـ أن يسرق المال العامّ أو الخاصّ، من خلال الاختلاس، أو السَمْسَرات في الصَّفَقات والمناقصات، ونحوها من المعاملات الماليّة.
2ـ أن يتقاضى الرَّشْوة ـ الماليّة أو العينيّة (على شكل هباتٍ وهدايا، وعلاقاتٍ اجتماعية، وخَدَماتٍ متنوِّعة) ـ لإنجاز معاملات الناس، وهي وظيفتُه الأساس التي يتقاضى عليها راتبَه الشهريّ، وهو مسؤولٌ ومكلَّفٌ أن يقوم بها بالمجّان، وفي وقتها، ودون تأخيرٍ أو تلكُّؤ، فضلاً عن النِّسْيان والإهمال والإيداع في الأدراج.
3ـ أن يعتدي على الأملاك الخاصّة للناس، فيحوِّلها إلى مشاريع عامّة في ظاهرها، ولكنْ بإدارةٍ وانتفاع شخصيَّين، سواءٌ كانت مشاريع عمرانيّة، كـ (سوليدير)، وبعض المباني على شطوط البحار والأنهار، حيث يستفيد منها بعض الوجهاء والنافذين، ويُحْرَم منها عامّةُ الناس، وهي لهم، وهُمْ أَوْلى بها.
أو يكون الاعتداء على الأملاك العامّة التي تعود في نهاية المطاف إلى الناس، حيث إنَّهم هم الذين يستفيدون منها، وينعمون بها.
4ـ أن يقوم بأيّ عدوانٍ أمني أو عسكريّ على الأبرياء العُزَّل، ولو كانت لهم آراءٌ لا توافق رأيه، أو أفكارٌ وتطلُّعات لا تنسجم مع فكره وآماله وطموحاته الشخصيّة.
5ـ أن يعتدي على الحُرِّيّات الشخصيّة للناس، في ما يقرِّرونه في حياتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، كالذي سمعناه أنّه في بعض المناطق يُمْنَع نَصْب الصحون اللاقطة الشخصيّة؛ لحساب الاشتراك مع بعض الجهات النافذة في المنطقة! أو كالذي شهدناه في بعض المناطق من مَنْع الانتقال في الاشتراك الكهربائي الشهري من هذا المولِّد إلى ذاك؛ لأنّ أصحاب المولِّدات قد تقاسموا المنطقة بيتاً بيتاً، والزبائن فرداً فرداً! أو كالذي نعرفه من مَنْع بعض الأحزاب الدينيّة المنتسبين إليها من الصلاة خلف العالم الفلاني أو ذاك، والتضييق عليهم حتَّى ينفضُّوا عنه، وقد انفضُّوا فعلاً؛ خَوْفاً على أرزاقهم وأعمالهم.
من مظاهر الفساد غير المباشر
1ـ أن يُحْرَم المُستحقّ لتعويضٍ أو مساعدةٍ من حقِّه ذاك، لصالح بعض الأقارب أو المناصرين.
2ـ أن تُستَبْدَل الخِدْمة العامّة للناس بالخِدْمة الخاصّة؛ ليظلّ الناس في حاجة هذا المسؤول أو ذاك، ويلهثون لنَيْل رضاه. فما أن يقصد هذا أو ذاك من أصحاب الحاجات ـ على اختلافها ـ المسؤولين، ولا سيَّما المشرِّعين منهم (النوّاب)، وبَدَل العَمَل الجادّ والدؤوب ـ بل المبادرة إلى مثل هذه الخطوات، ولو لم تكن مطالب فعليّة للناس ـ لطرح مشروعٍ متكامل حول تطوير آليّة القبول في وظيفةٍ أو تقاضي مساعدة أو الحصول على خِدْمة أو…، يبادر المسؤول إلى فتح باب بيته أمامهم، ويستمع لشكاواهم، ثمَّ يعمل على تسويتها بشكلٍ شخصيّ وفرديّ، وغالباً ما يكون الحلُّ ناقصاً، إلاّ لمَنْ كان ذا حظٍّ عظيم. وإنَّما يفعل المسؤول هذا ليبقى له أنصارُه ومحبُّوه ومريدوه، وبالتالي منتخِبوه في الاستحقاقات الانتخابيّة، وليتكاثروا باستمرارٍ، في حين أنّه يجب عليه أن يعمل بكلِّ طاقته، ومدى فكره ـ وهو الذي ينبغي أن يكون من أهل الفكر والتخطيط والإبداع والتطوير ـ من أجل تشريع ما من شأنه أن يَسُدَّ حاجة هؤلاء ومَنْ سيتلوهم من أصحاب الحاجة نفسها، فلا يقصدونه بعد اليوم.
إنَّما هو نائبٌ عن الشعب، كلِّ الشعب، في إيجاد القانون المناسب، والسَّهَر على تطبيقه. وعليه فإنّ مكانه الطبيعي والصحيح هو في المجلس التشريعي، حيث يستولد القانون العادل، ويسعى لإقراره، وليس في صدر المجالس والمواكب في الحسينيّات والمؤتمرات وتشييع الأموات.
ليس الفساد محصوراً بأن يكون المسؤول صاحب قصور وأراضٍ وشركات، ويأكل أفخر الطعام، ولديه طائراتٌ وسيّارات وحماية، وحسابات بنكيّة، وتجارات، وكذلك أولادُه وأقرباؤُه؛ ليُقال: إنّ فلاناً لا يمتلك هذا كلَّه، فهو غيرُ فاسدٍ، بل قد لا يكون مَنْ يمتلك ذلك كلَّه فاسداً أصلاً إذا كان المالُ حلالاً طاهراً، معلومَ المصدر، ولم يصِلْ إلى حدِّ الإسراف والتبذير.
وإنَّما هناك فسادٌ من نوعٍ آخر، يتمثَّل في أن يسكت المسؤول عن فساد شركائه في السُّلْطة والحكم، حتَّى لو لم يتقاسم معهم الحصص، في حين أنّه مسؤولٌ عن محاسبتهم ومساءلتهم. ولذلك فإنّ نفس سكوته عنهم هو فسادٌ كبير، أو فقُلْ: هو تقصيرٌ في حفظ حقوق الناس، والدفاع عنها، وذلك فسادٌ أيضاً، بل هو خيانةٌ للأمانة، و﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ (الأنفال: 58).
3ـ أن يوقِّع المسؤول مشروعاً مُضِرّاً بالبيئة والناس لحليفٍ انتخابيّ يُرْجى بقاؤه حليفاً في الانتخابات، دون أيّ مراعاةٍ لمشاعر الناس ومصالحهم وصحَّتهم، ولسانُ حاله، بل قولُه الفعليّ: اللِّي ما عَجَبوا يْبَلِّط البَحْر. هذه قصّةٌ واقعيّة (نعرف أبطالها)، وهي فسادٌ حقيقيّ وكبير.
4ـ أن يسكت المسؤول عن برامج لا أخلاقيّة ـ تؤدّي إلى الفساد الاجتماعي، وقد حصل بالفِعْل ـ تبثّ على بعض القَنَوات الإعلاميّة، دون أن يمارس ضغوطاً جادّة وقاسية على تلك القَنَوات؛ لئلاّ يخسر حِلْفَه الاستراتيجي مع أصحابها، فهذا فسادٌ كبير.
5ـ أن يسكت مسؤولٌ عن صَفَقاتٍ مشبوهة تجري بمرأىً منه ومَحْضَرٍ، وإنْ لم يُصَوِّت عليها، وإنَّما نالَتْ أكثريّةً في مجلس الوزراء أو النوّاب، دون أن يفضح رموزها على الملأ، فذاك فسادٌ كبير.
6ـ أن يدعم المسؤول نصّاباً، ومختلساً لأموال الناس، قد أشهر إفلاسه؛ لأسبابٍ لا يعلمها إلاّ الله، ولا يُراد لأحدٍ أن يعلمها، ثمّ تُمنَع عنه المحاكمة، أو يُحاكَم بسرعةٍ قياسيّة، ويُحكَمْ عليه بعقوبةٍ شَكْليّة صُوريّة، ويقضي عقوبته في سجنٍ فاره (5 نجوم)، مَحْمِيّاً كي لا يبوح بأسرارٍ خطيرة يحملها، ثمّ يُطْلَق سراحُه بعد أن يستردّ المسؤول وأقرباؤه أموالهم، فهذا فسادٌ كبير.
7ـ أن لا يرصد المسؤولُ حاجات الناس ومتطلَّباتهم المُحِقّة والمشروعة؛ ليتقدَّم بعد ذلك بمشروعٍ للإصلاح في هذه الملفّات، الواحد تلو الآخر، بحيث يصير النائب أو الوزير المُشاغب، ولْيُحْرِجْ كلَّ المعنيِّين، من الأقربين والأبعدين، ولْيُلْقِ بالملفّات على الطاولة، وليضع الجميع أمام الاستحقاق الصَّعْب. ولْيَجْرُؤ أحدُهم على الرَّفْض عَلَناً، ولْيَفْضَحْه هو إنْ لم يُعْرَف من خلال محضر الجَلْسة. نعم، هذا شَغَبٌ في السياسة، ولكنَّه صلاحٌ وإصلاح عند الله، وعند الناس، وهو وحده الذي يضمن للمسؤول أن لا يشير إليه الإصبع ويقول: هذا فاسدٌ كغيره؛ لأنّ الجواب حينئذٍ: أنتم تعرفون مَنْ يريد لكم الخَيْر، ومَنْ لا يريده لكم. وبهذا وحده يمكن للمسؤول إثبات نزاهته، وأنّه ليس كغيره من الفاسدين المباشرين، وإلاّ فلا يلومَنَّ إلاّ نفسه، ورحم الله مَنْ دفع التُّهْمة عن نفسه.
8ـ ومن مظاهر الفساد أيضاً هَدْر المال العامّ، أو أيِّ مالٍ، سواءٌ كان طاهراً أو غيره، وكذا هَدْر الوقت والطاقات البشريّة، في إقامة مهرجاناتٍ واحتفالات ذات تكاليف باهظة، واستنزافٍ تامّ لكلِّ جُهْدٍ وطاقة بشريّة؛ بحُجَّة الديكور المميَّز، والتنظيم الدقيق، والرَّمْزيَّة الخاصّة، وفي كلِّ ذلك تأمُّلٌ، بل تأمُّلات.
9ـ ومن الفساد والتقصير أن يقضي المسؤول ذو الصفة التشريعيّة أو التنفيذيّة وقته متنقِّلاً بين مجالس الفاتحة وتشييع الموتى وحفلات التخريج و… والمهرجانات والمؤتمرات، على أنواعها. مكانُك اللائق في جلسات التشريع، وجلسات الاستحقاقات الوطنيّة، حيث يجب عليك الحضور، والإدلاء برأيك وصوتك، والتقدُّم بمشروعك، وعدم الاكتفاء بالقول: إنَّهم يعطِّلون مشاريعنا، إنَّهم لا يتعاونون معنا. أَحْرِجْهُم، اِفْضَحْهُم. هذه وظيفتك؛ ليعلم الناسُ الصالح من الفاسد، ويحدِّدوا مسارهم واختيارهم في الانتخابات القادمة، ويقفوا الموقف المناسب من كلِّ شخصٍ فاسد.
لا أعتقد أنّ أحداً من الأحزاب والقوى العاملة في لبنان بمنأىً عن واحدٍ، بل أكثر، من هذه المظاهر للفساد المباشر وغير المباشر. ومن هنا فإنّ مقولة: (كلُّن يعني كلُّن) لها حظٌّ في الواقعيّة، ونصيبٌ من الصواب. كلُّهم، نعم كلُّهم، فاسدون، وإنْ يكونوا غير متساوين في حجم الفساد والإفساد. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.