9 أكتوبر 2017
التصنيف : حوارات
لا تعليقات
3٬387 مشاهدة

الخطابة الحسينيّة، بين الضعف العلميّ والعقلانيّة الغائبة

(حوارٌ مع الإعلاميّة سلوى فاضل، بتاريخ: السبت 30 / 9 / 2017م)

* ما هو سرّ وهدف بعض قرّاء العزاء من المبالغات؟

لا أعتقد أن جميع قرّاء العزاء يتعمدون طرح الروايات والأخبار المشتملة على مبالغة وخرافة وغلوّ وغيرها، وإنما هو ضعف ثقافتهم، وقلّة خبرتهم العلمية والتحقيقية، تقودهم للاعتماد على مصادر مشهورة ومعروفة، ولكنّها ليست بالمصادر الموثوقة، التي يمكن الاعتماد على جميع ما ورد فيها من أخبار وروايات.

ومن هنا يسقطون في فخّ التراث الحديثي والأخباري الموضوع والمكذوب، من حيث لا يشعرون ولا يعرفون.

ويسقطون أمام هالة أسماء المؤلِّفين لهذه الكتب، بينما القاعدة الصحيحة، التي لا ينبغي إهمالها، هي: (انظر إلى ما قيل، ولا تنظر إلى مَنْ قال). فكائناً مَنْ كان القائل لا بُدَّ من عرض أقواله على كتاب الله، وما جاء فيه من معتقدات وأحكام ومفاهيم؛ وعلى السنّة الشريفة القطعيّة للنبيّ(ص) والأئمّة الأطهار من أهل بيته(عم)؛ وعلى مقرَّرات العقل القطعية، والحقائق العلمية التي لا مجال للنقاش فيها.

إذن أغلبهم لا يتعمَّد ذكر المبالغات والخرافات وأخبار الغلوّ وغيرها، وإنما يقعون فيها لأسبابٍ موضوعية، تتعلَّق بجهلهم، وضعف ثقافتهم، وقلّة اطّلاعهم على حقائق العلم، ومجريات التاريخ، وقلّة خبرتهم وعلمهم بعلوم القرآن وتفسيره، وعلوم الحديث ومسائله.

وعليه فالمشكلة في تصدّي هؤلاء الجهلة والضعاف؛ بحجّة أن لهم صوتاً شجياً، ونبرةً حنونة، وحنجرة عزائية، ولساناً فصيحاً، وأسلوباً سلساً، ونحو ذلك. وهذه كلُّها أمورٌ مهمّة، ولكنّها ثانويةٌ أمام العلم والعقل والفكر، الذي ينبغي أن يتحلّى به خطباء المنبر، فهي كالزينة للجسم، ولا تظهر جماليّتها إلاّ عليه، فإذا لم يكن جسمٌ وبدن فما هي قيمة الزينة؟! وهكذا لا قيمة لكلّ هذه الشكليّات، من صوتٍ وطلاقة وفصاحة وسلاسة، ما لم تكن مرتكزةً ومعتمدة على علمٍ وفير، وثقافةٍ واسعة، وفكرٍ حُرّ طليق، لا يجد غضاضةً في انتقاد حكايةٍ هنا ورواية هناك، إذا لم تتوافق مع مسلَّمات العقيدة والشريعة والأخلاق.

* مَنْ هو الضامن للسيرة الحسينية العقلانية حاليّاً من المراجع؟

للأسف الشديد، إن الهيمنة اليوم للمرجعيات الصامتة، التي تعيش التقيّة من أهل الباطل، فهي حتّى لو لم تكن راضيةً عن أفعالهم لا تجرؤ على التصريح بذلك.

وهي أصلاً معتزلةٌ عن الناس، ولم تدرك حتّى اللحظة ما لحضورها الشخصيّ والإعلاميّ من تأثيرٍ على المؤمنين والمتديِّنين، الذين يرجعون إليه في التقليد وغيرهم، مع ذلك نجد كثيراً من المرجعيات المؤثِّرة تنأى بنفسها عن التصدّي لما يُطرَح من قضايا خاطئة في ساحة المتديِّنين، وإذا طُرحت قضيةٌ كبيرة نوعاً ما فإنهم قد يتصدَّوْن لها، من خلال مكاتبهم أو وكلائهم أو الاستفتاءات المعدّة داخلياً، ولكنّ الجواب هو من صناعة المكتب ومَنْ يتواجد فيه من الوكلاء والمتنفِّذين، وهؤلاء لم يعودوا محلَّ ثقة الناس؛ لأسباب عديدة، ليس هاهنا محلُّ عرضها ونقاشها.

كما نجد أحياناً تعارضاً وتناقضاً في نقل وبيان رأي المرجع، وهو ما يصرف الناس عن الأخذ بكلا البيانين والنقلين، فيظهرون بمظهر المخالف للمرجع، ولكنّ الحقيقة أنهم لم يعرفوا رأيه واقعاً.

وكمثالٍ على ذلك: التطبير.

فبعض المراجع يرَوْن جوازه، بل استحبابه وكونه من الشعائر الحسينية، بل لعله في نظرهم من أهمّ هذه الشعائر؛ وبعض المراجع يرَوْن حرمته بضرسٍ قاطع، ويصنِّفونه في البيِّن غيُّه، ويجب اجتنابه، والنهي عنه؛ ولكنّ المشكلة في قسمٍ ثالث، له حضوره الجماهيري وتقليده الواسع، ومع ذلك تتعارض النقولات المبيِّنة لرأيه في هذه المسألة؛ فتارةً ينقلون عنه أنه يجيز ذلك ما لم يؤدِّ إلى ضَرَرٍ معتدّ به على النفس؛ وتارةً ينقلون عنه أنه يقول بحرمته؛ لما فيه من تشويه المذهب، بل يُنْقَل أنه يرى حرمته بالعنوان الأوّلي أيضاً، فكيف نقطع هذا الجَدَل؟

وكذلك الحال في ما تتضمَّنه الخطب والمحاضرات والسيرة الحسينية في كثيرٍ من المجالس، فمهما ابتعدَتْ هذه المجالس عن الطروحات العقلانيّة، ومهما ذُكر فيها من خرافاتٍ، وعقائد منحرفة، ومفاهيم خاطئة، لا نسمع صوتاً يعلو في مواجهة هذه الطروحات ولو كانت جزئيّةً وتفصيليّة، بينما كانت سيرة النبيّ(ص) وأهل بيته(عم) ملاحقة تفاصيل حياة الناس، وتصويب الخطأ، وتقويم الانحراف. وقد بلغ الصمت حدّاً صرنا نشكّ معه أن هذه المرجعيّات تسمع وتطّلع على ما يجري. فعلاً نحن لا ندري هل يعلمون بما يُطرَح أم تصلهم التقارير الزائفة المبتورة، ويصدِّقون ما جاء فيها، ويعتبرون أن الأمّة والمذهب في أفضل حالٍ؟! فكيف سيكون الإصلاح؟

في اعتقادي لن يكون ذلك قبل أن تعتاد هذه المرجعيّات على مخاطبة الناس بنفسها، وبيان ما تريد بيانه بلا واسطةٍ تضيع معها عادةً كثيرٌ من الحقائق والأفكار والتفاصيل.

إذن نحن بحاجةٍ إلى حالةٍ من الوعي الكامل للمخاطر المحدقة، وإرادةٍ جادّة للتصدّي والمواجهة، وعزمٍ صادق على الصبر والتحمُّل والتضحية في سبيل بيان الحقّ والحقيقة، ولو على حساب الهيبة المصطنعة والقداسة الزائفة.

في اعتقادي لا يوجد اليوم مَنْ يمتلك ذلك بالمستوى المطلوب. نعم، هناك بعض المواقف وبعض الجهود هنا وهناك، ولكنها لا تفي بالغرض المطلوب والهدف المنشود.

* هل أن العدد الهائل من الجمهور يبرِّر اللجوء إلى الأهوال في قراءة السيرة؟

لا شَكَّ أن العلاقة التفاعليّة بين الخطيب والجمهور الحسيني مهمّةٌ وضرورية، وتنعكس تأثُّراً بالمصاب، وحُزْناً وبكاء ولَطْماً، وكلُّه مطلوب مرغوب إليه في عزاء سيد الشهداء(ع).

ولكنْ لا ينبغي أن يكون القربان في سبيل تحقيق ذلك هو العقلانية والتفكُّر والتدبُّر من قِبَل الخطيب، بحيث يكون جُلُّ همِّه تحشيد الناس في مجلسه، وإثارة مشاعرهم وعواطفهم بما يرغبون ويحبّون سماعه، ولو من باب (إذا لم يكن لك ما تريد فأَرِدْ ما يكون)، ولو على حساب الوقائع التاريخيّة، والحقائق الاعتقاديّة، والأحكام الشرعيّة:

فنراهم يستعرضون أحداثاً لم تحصل، كزواج القاسم وعُرْسه.

ويعتقدون بما لم يكُنْ، كوجود بناتٍ عديدات للحسين(ع)، كخولة في بعلبكّ، وصفيّة في حوش تلّ صفيّة، وغيرهما.

وينسبون إلى الحسين(ع) ما لم يفعله؛ لأنه على خلاف المقرَّرات الشرعية. فنجد بعض الخطباء يفتتح محاضرته بما ينسبه إلى الحسين من القول: (شاء الله أن يراني شهيداً، وشاء الله أن يراهنّ سبايا)، ويحشد ما شاء من الروايات الضعيفة التي تذكر أن النبيّ(ص) أخبر عمّا سيجري على الحسين(ع)، وأقام عليه العزاء و…، لينتهي في المصيبة إلى القول بأن الحسين ترك ابنةً له في المدينة، اسمها فاطمة، وكانت عليلةً لا تطيق السفر، ووعدها بأنه متى استقرّ بهم المقام سيرسل إليها عمَّها العبّاس أو أخاها عليّاً ليحملها إليهم.

فيا عزيزي الخطيب، قُلْ لي بربِّك ما الذي تعتقده حقيقةً؟ هل كان الحسين(ع) يعرف بمصيره ومصير أهل بيته؟ إذن كيف يَعِدُ ابنته بذلك الوَعْد؟ أيكذب عليها ـ والعياذ بالله ـ؟ أيّ تهمة تسوقونها للحسين(ع)؟!

أم هل وعدها حقّاً وصدقاً؟ إذن هو لم يكن عالماً بمصيره.

وعلى أيّ حالٍ هذا واقعٌ قائم في كثير من المجالس الحسينية. وعلى الخطيب الورع التقيّ، والفطن الذكيّ، صاحب البصيرة والفكر والوعي والعلم، أن يتجنَّب طرح مثل هذه الأمور، ولو كان سيخسر بعضاً من الجمهور؛ فقليلٌ من أهل الوعي والبصيرة والعقل والفكر خيرٌ من كثيرٍ كغُثاء السَّيْل، يكثرون، يبكون يندبون يلطمون، فإذا رأَوْا تجارةً أو لَهْواً انفضّوا إليها وتركوه قائماً.

اللهُمَّ ارزقنا معرفة النبيّ وآله، اللهُمَّ ارزقنا حبّ النبيّ وآله، اللهُمَّ ارزقنا شفاعة النبيّ وآله يوم القيامة، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلاّ مَنْ أتى الله بقلبٍ سليم.



أكتب تعليقك