12 أبريل 2023
التصنيف : مقالات قرآنية
لا تعليقات
826 مشاهدة

شهادةُ القرآن للقرآن، نحو التفسير الصحيح

في قصّة نبيّ الله لوط(ع)، في سورة الحِجْر، قال تعالى: {وَجَاءَ أَهۡلُ ٱلۡمَدِینَةِ یَسۡتَبۡشِرُونَ ☆ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَیۡفِي فَلَا تَفۡضَحُونِ ☆ وَٱتَّقُوا۟ ٱللهَ وَلَا تُخۡزُونِ ☆ قَالُوا۟ أَوَلَمۡ نَنۡهَكَ عَنِ ٱلۡعَالَمِینَ ☆ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمۡ فَاعِلِینَ} (الحجر: ٦٧ – ٧١)…

وقد يتصوَّر بعضٌ أن لوطاً(ع)؛ ودفعاً للأفسد بالفاسد، كان يدعوهم – والعياذ بالله – للزنا ببناته، إنْ هم أصرّوا على ما يريدونه ويطلبونه من فاحشةٍ وعلاقةٍ آثمةٍ وغير شرعيّة مع ضيوفه، الذين كانوا على صورة (الرجال)، والواقع أنهم كانوا ملائكةً، وقد تمثَّلوا بهذه الصورة؛ ليمشوا في الأرض مطمئنِّين…

وبما أن القرآن ينطق بعضُه ببعضٍ، ويشهد بعضُه على بعضٍ، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ(ع)، فإن هذا التصوُّر باطلٌ من أساسه؛ بقرينة ما جاء في عرض نفس هذه القصّة، ولكنْ في سورةٍ أخرى، وهي سورة هود، حيث قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتۡ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمۡ وَضَاقَ بِهِمۡ ذَرۡعاً وَقَالَ هَذَا یَوۡمٌ عَصِیبࣱ ☆ وَجَاءَهُ قَوۡمُهُ یُهۡرَعُونَ إِلَیۡهِ وَمِن قَبۡلُ كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ ٱلسَّیِّئاتِ قَالَ یَا قَوۡمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطۡهَرُ لَكُمۡ فَٱتَّقُوا۟ ٱللهَ وَلَا تُخۡزُونِ فِي ضَیۡفِي أَلَیۡسَ مِنْكُمۡ رَجُلࣱ رَّشِیدࣱ ☆ قَالُوا۟ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنۡ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعۡلَمُ مَا نُرِیدُ ☆ قَالَ لَوۡ أَنَّ لِي بِكُمۡ قُوَّةً أَوۡ آوِي إِلَى رُكۡنٍ شَدِیدٍ} (هود: ٧٧ – ٨٠).

فهو هنا يدعوهم إلى بناته؛ لإقامة العلاقة الطاهرة، وهي علاقة الزواج حَصْراً: هؤلاء بناتي هُنَّ أطهر لكم…

ومن المعلوم أن النبيَّ، كلَّ نبيٍّ، هو أبو أُمَّته، بنسائها ورجالها، فلوطٌ(ع) يدعو العُزّاب منهم إلى الاستعفاف والتحصُّن بالزواج من النساء، كما يدعو المتزوِّجين منهم إلى مقاربة زوجاتهم، وهُنَّ جميعاً بناتُه…

ويؤكِّد هذا المعنى ما جاء في جوابهم، حيث قالوا: لقد علمْتَ ما لنا في بناتك من حقٍّ…

ولا يُحتَمَل أن (ما) هنا نافيةٌ، بمعنى: إنك تعرف أنه ليس لنا حقٌّ في بناتك؛ إذ هذا هو الزِّنا المحرَّم؛ فإن أمثال هؤلاء الشاذّين وعاملي السيِّئات وآتي المنكر ومرتكبي الفاحشة مع مماثليهم من الرجال لن يقفوا ولن يتردَّدوا ولن يسألوا عن ثبوت أو عدم ثبوت حقٍّ لهم في امرأةٍ أجنبيّة…

كما لا يُحتمل أن (ما) نافيةٌ، بمعنى: إنك قد عرفْتَ أنه ليس لنا الحقّ في مقاربة زوجاتنا (وهُنّ بناتُك) من الخلف (دُبُراً)، وهو ما نريده ونبتغيه؛ لنفس ما ذكَرْناه آنفاً، من أن الذي لا يبالي بتحريم اللواط (علاقة الرجل بالرجل)، ويريد مثل هذه العلاقة الشاذّة الآثمة، لن يبالي بتحريم بعض الأفعال بينه وبين زوجته، على فرض ثبوت مثل هذا التحريم…

وعليه ستكون (ما) اسماً موصولاً بمعنى (الذي)، أي لقد عرفْتَ الذي لنا في بناتك من حقٍّ، فنحن متزوِّجون أو قادرون على الزواج من النساء (وهنَّ بناتُك)، ولنا معهنّ اللذّةُ والمتعةُ المعروفة، التي فطر الله الناس عليها، ولكنْ ليس هذا هو مرادُنا ومقصودُنا، وإنما نريد شيئاً آخر، خارج دائرة الفطرة، خارج المعتاد والمألوف، نريد عالَماً أوسع في قضاء اللذّات والشَّهَوات، وهو ما لا يتحقَّق في نطاق الزواج بين الرجل والمرأة…

إذن هو إعلانٌ سافرٌ عن الشذوذ النفسيّ، وعن فيضٍ من الحاجات الوَهْمية المُدَّعاة، فلا يُكتفى بدَوْر الرجل (فاعلاً)، وإنّما يُراد الدَّوْران معاً (الرجل والمرأة، فاعلاً ومفعولاً)…

ذاك هو العدوان والتعدّي لحدود الله في خَلْقه وأمره، ذاك هو الإسراف، ذاك هو الإجرام، ذاك هو السَّفَه، تلك هي سَكْرة الشَّهَوات، تلك هي الجهالة…

ولا فرق في ذلك بين أوهام الرجال أو أوهام النساء؛ فالشذوذ شذوذٌ وتعدٍّ للحدود، سواء كان من الرجال أو النساء…

كما لا فرق بين شذوذٍ عشوائيٍّ وشذوذٍ مقنَّنٍ؛ فالعدوان والتعدّي لا تجمِّله القوانين مهما تضافرَتْ…

والعاقبةُ الحُسْنى للرُّشَداء المتطهِّرين…



أكتب تعليقك