7 أغسطس 2015
التصنيف : منبر الجمعة
لا تعليقات
4٬263 مشاهدة

الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، حربٌ على الغُلاة والظالمين

2015-08-07-منبر الجمعة-الإمام الصادق(ع)، حرب على الغلاة والظالمين

(الجمعة 7 / 8 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

تمهيد

تبكي العيون بدمعها المتورِّدِ

حُزْناً لثاوٍ في بقيع الغَرْقَدِ

تبكي العيوم دماً لفقدِ مبرَّزٍ

من آل أحمدَ مثلُه لم يُفقَدِ

أيُّ النواظر لا تفيض دموعُها

حُزْناً لمأتَمِ جعفر بن محمّدِ

تمرّ بنا في الخامس والعشرين من شهر شوّال ذكرى وفاة إمامنا وسيِّدنا ومولانا أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق(ع)، هذا الإمام الذي نُسبنا إليه فسُمِّينا (جعفريِّين)؛ وذلك لأنّ أكثر تعاليم الدين وأحكام الإسلام قد نُقلَتْ عنه(ع)، وعن والده أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر(ع)؛ إذ قد عاشا في فترةٍ من الطمأنينة النسبيّة يتحدَّثان بما شاءا، ويبيِّنان ما يريدان، دون خوفٍ أو تقيّة، فقد عاش مَنْ سبقهما من أئمّة أهل البيت(عم) فترةً من الاضطهاد الفكري لا مثيل لها، حتّى كان المؤمن الشيعي إذا أراد الحديث في مسألةٍ فقهيّة منسوبة إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) قال: «قال أبو زينب»؛ لأنّ تلك الكنية لم تكن من كناه المعروفة والمتداوَلة.

وشاء الله سبحانه وتعالى أن يكون للدين فترةٌ من الراحة والاستقرار، تظهر فيها معالمه، وتبين أحكامه، فكانت تلك الفترة الزاهرة في حياة الإمامين الباقر والصادق(عما)، فقد اشتغل الأمويّون بالحفاظ على حكمهم، واشتغل العبّاسيّون بالتمهيد لدولتهم، مقرِّبين العلويِّين إليهم، لا حُبّاً بهم، وهم الذين أذاقوهم أقسى المرارات بعد ذلك، حتّى قال قائلُهم:

ألا ليت جَوْرَ بني مروان دام لنا

وليت عَدْلَ بني العبّاس في النارِ

بل كانوا يقرِّبونهم لكي يستمدّوا منهم الشرعيّة، ولكي يستعينوا بأنصارهم في إرساء قواعد حكمهم القائم على شعاراتٍ مزيَّفة ما قرَّروا لحظةً أن يجعلوها من مبادئ ثورتهم حقيقةً، فقد كان أبرز شعاراتهم «يا لثارات الحسين»، ولو كان الحسين حيّاً في دولتهم، وطالب بما طالب به في دولة بني أميَّة، لقتلوه، تماماً كما فعل الأمويّون.

وعظٌ وإرشاد

وهكذا دخل الإمام الصادق(ع) تلك الفترة الحَرِجَة من الحرب الباردة، فوجد الناس مشتَّتين بين موالٍ ومعارِض، ورأى الفتن كامنةً وراء أيِّ تحرُّكٍ، والمؤمنون المخلِصون قلّةٌ قليلة، ليس بوسعهم فعل شيءٍ على مستوى السلطة، فرأى الإمام(ع) أنّ أفضل الطرق لنجاة الشيعة من ذلك التيّار الجارف إنّما هو بالتزامهم تعاليم الله، وفهمهم للإسلام، وتطبيقهم لأحكامه، فانطلق يعِظ ويُرشِد ويدعو إلى محمود الخِصال، وحَسَن الأعمال، فكان يربط الناس بالله؛ ليحبَّ بعضُهم بعضاً فيه؛ لأنّه أمرهم بذلك، فكان يقول: «واعلموا أنّه لن يؤمن عبدٌ من عبيده حتّى يرضى عن الله في ما صنع الله إليه، وصنع به، على ما أحبَّ وكره»([1]).

ومن هذه المحبّة التي كان يزرعها في قلوبهم كان يدعوهم إلى التكافل الاجتماعي، ومعاونة بعضهم بعضاً، فكان يقول: «ولْيُعِنْ بعضُكم بعضاً؛ فإنّ أبانا رسول الله(ص) كان يقول: إنّ معونة المسلم خيرٌ وأعظم أجراً من صيام شهرٍ واعتكافه في المسجد الحرام. وإياكم وإعسار أحدٍ من إخوانكم المسلمين، أن تعسروه بالشيء يكون لكم قِبَلَه وهو مُعْسِرٌ؛ فإن أبانا رسول الله(ص) كان يقول: ليس لمسلمٍ أن يُعْسِر مسلماً، ومَنْ أنظر مُعْسِراً أظلَّه الله بظلِّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلُّه»([2]).

وكذا أوصى أصحابه أن يكونوا الدعاة إلى الله بكلّ طريقةٍ، ولعلَّه لاحَظ أنّ الناس قد سئمَتْ من الكلام الفارغ الذي يذهب هباءً، فهم يريدون أفعالاً لا أقوالاً، فكان يوصي أصحابه فيقول: «أوصيكم بتقوى الله، والعمل بطاعته، واجتناب معاصيه، وأداء الأمانة لمَنْ ائتمنكم، وحُسْن الصحابة لمَنْ صحبتموه، وأن تكونوا لنا دعاةً صامتين»([3]).

وكانوا يستغربون هذا الكلام، فهم قد تعوَّدوا ـ كما هم أكثر الدُّعاة في كلّ زمانٍ ومكان ـ أن يعظوا الناس بالخُطَب الرنّانة، وفق القواعد الخطابيّة الصحيحة، أمّا سيرتهم فلعلَّها تخالف في أغلب الأحيان أقوالهم، ممّا يجعل كلامهم لا يتجاوز آذان المستمعين، ولا يدخل منه كلمةٌ واحدة إلى عقولهم، «فقالوا: يا بن رسول الله، وكيف ندعو إليكم ونحن صموتٌ؟! قال: تعملون ما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، وتتناهون عمّا نهيناكم عنه من ارتكاب محارم الله، وتعاملون الناس بالصِّدْق والعَدْل، وتؤدّون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهَوْن عن المُنْكَر، ولا يطَّلع الناسُ منكم إلاّ على خيرٍ، فإذا رأَوْا ما أنتم عليه قالوا: هؤلاء الفلانيّة [أي العلويّة الجعفريّة]، رحم الله فلاناً، ما كان أحسن ما يؤدِّب أصحابه! وعَلِموا فضلَ ما كان عندنا، فسارعوا إليه»([4]).

حربٌ على الغُلاة

وكان الإمام يعمل في وادٍ، وآخرون يعملون في وادٍ آخر، هو يدعو إلى التقوى، وهم يسرعون في الابتعاد عنها، يدعوهم إلى طاعة الله، وهم يجهدون في خوض لُجَج المعصية والخطيئة. إنّهم الغُلاة، الذين عانى منهم الإمامان الباقر والصادق(عما) ما عانيا، فهم ينزِّلون الأئمّة(عم) فوق منزلتهم، ويشرِّعون لأنفسهم ديناً لا علاقة له بدين الله. ومن هنا قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ(ع): «هلك فيَّ رجلان: مُحِبٌّ غالٍ؛ ومُبْغِضٌ قالٍ»([5]).

وكان الأئمّة(عم) يتأذَّوْن من هؤلاء أشدَّ الأذى وأقساه، حتّى قال الإمام الصادق(ع): «واللهِ، ما الناصب لنا حرباً بأشدَّ علينا مؤونةً من الناطق علينا بما نكره»([6]).

وقال الإمام الباقر(ع): «اللهُ بيننا وبين مَنْ هتك سترنا، وجحدنا حقَّنا، وأفشى سرَّنا، ونسبنا إلى غير جدِّنا، وقال فينا ما لم نقُلْه في أنفسنا»([7]).

وذلك أنّهم كانوا يحرِّفون دين الله من خلال تحريف كلام الأئمّة(عم)، فقد قال للإمام(ع) بعض أصحابه: يا بن رسول الله(ص)، قد بلغنا عنك أنّك قلتَ: إذا عرفتم فاعملوا ما شئتُم، فقال(ع): «إنّي قلتُ: إذا عرفْتُم فاعملوا من الطاعات ما شئتم فإنّه يقبل منكم»([8]).

وبسبب هذه الأكاذيب اضطرّ(ع) إلى أن يوصي أصحابه بأن لا يقبلوا عليهم إلاّ ما وافق القرآن والسنّة القطعيّة، أو ما يجدون عليه شاهداً من أحاديثهم السابقة، وبهذا صعب على الناس الاهتداء إلى تعاليم الله، واحتاج الناس إلى المتخصِّصين في فهم القرآن والسنّة وروح الشريعة الإسلاميّة، وتعقَّدت حياة الناس، وكلُّ ذلك بسبب هؤلاء الغُلاة المنحرفين.

وكان(ع) يأمر أصحابه بمجادلتهم والردّ عليهم ودحض أقوالهم ومزاعمهم، كما يفعلون مع الزنادقة والملحدين تماماً، ولكنْ بشرط أن يكون قادراً على المناظرة فإنْ لم يكن قادراً عليها وهزموه فإنّهم لن يهزموا شخصه، بل سيهزمون النهج الذي يتّبعه، فحذارِ حذارِ من هذه المناقشات ما لم يكن ضليعاً فيها، فقد قال له أحدُ أصحابه: بلغني أنّك كرهْتَ منّا مناظرة الناس، وكرهْتَ الخصومة؟ فقال(ع): «أمّا كلامُ مثلك للناس فلا نكرهه، مَنْ إذا طار أحسن أن يقع، وإنْ وقع يحسن أن يطير، فمَنْ كان هكذا فلا نكره كلامه»([9]).

في مواجهة الظالمين

وهكذا قضى(ع) حياته في الدعوة والتبليغ والنصح والإرشاد، ولم يُغفِل السياسة لحظةً واحدة، ولكنّ سياسته كانت سياسة الحقّ وسياسة العَدْل وسياسة المواجهة وعدم السكوت أمام الباطل، وعدم الرضوخ للظالمين، مهما بلغَتْ مكانتهم، ومهما بلغَتْ قسوتهم وهمجيّتهم، فقد كان(ع) يتصدّى لكلّ باطلٍ يراه أو يسمع به، من دون أن تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، ولم يكن ليُحابي أو يجامل أحداً على حساب دينه، فقد رُوي أنّ أحد ولاة المنصور في المدينة خطب يوم الجمعة بحضور الإمام، ونال من أمير المؤمنين(ع)، فقام الإمام الصادق(ع)، بعد أن فرغ الوالي من خطابه، وقال، بعد أن حمد الله وصلّى على رسوله: «أمّا ما قلتَ من خيرٍ فنحن أهله، وما قلتَ من سوءٍ فأنتَ وصاحبُك به أَوْلى وأحرى»، ثمّ أقبل على الناس فقال: «ألا أنبِّئكم بأخفّ الناس يوم القيامة ميزاناً، وأبينهم خسراناً؟ مَنْ باع آخرته بدنيا غيره، وهو هذا الفاسق»([10]).

وكان(ع) ينقل عن أبيه الإمام الباقر(ع) قولَه، معرِّضاً بالمنصور: «إنّ الإمامة لا تصلح إلاّ لرجلٍ فيه ثلاث خصال: ورعٌ يحجزه عن المحارم؛ وحِلْمٌ يملك به غضبه؛ وحسن الخلافة على مَنْ ولي عليه حتّى يكون له كالوالد الرحيم»([11]).

وكانت النتيجة الطبيعيّة لهذه المواقف أن يقوم الخليفة وأعوانه بإيذاء الإمام(ع)، والإساءة إليه، فقد أمر المنصور بإحراق بيته عليه، وقد أُحرق بالفعل، وأخذ الإمام(ع) يخمد النار بنفسه، ويطفئ الحريق بيدَيْه، فقد كان يتوقَّع من أولئك الطُّغاة ما هو أعنف وأقسى.

وبقي الإمام(ع) خالداً بعلمه وفقهه ووصاياه، وذهب كلُّ أولئك الطغاة إلى حيث يستحقّون، وتلك سنَّةُ الله في خلقه، ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 62). وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) رواه الكليني في الكافي 8: 2، 8، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محمد، عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي، عن القاسم بن الربيع الصحّاف، عن إسماعيل بن مخلّد السرّاج، عن أبي عبد الله(ع).

([2]) رواه الكليني في الكافي 8: 2، 9، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محمد، عن جعفر بن محمد بن مالك الكوفي، عن القاسم بن الربيع الصحّاف، عن إسماعيل بن مخلّد السرّاج، عن أبي عبد الله(ع).

([3]) رواه القاضي النعمان في دعائم الإسلام 1: 56، معلَّقاً عن أبي عبد الله جعفر بن محمد(ع).

([4]) رواه القاضي النعمان في دعائم الإسلام 1: 56 ـ 57، معلَّقاً عن أبي عبد الله جعفر بن محمد(ع).

([5]) نهج البلاغة 4: 28.

([6]) رواه الكليني في الكافي 2: 222 ـ 223، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن سنان، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله(ع).

([7]) رواه الكليني في الكافي 1: 356، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسين بن الجارود، عن موسى بن بكر بن دأب ، عمَّنْ حدَّثه، عن أبي جعفر عليه السلام.

([8]) هكذا هو شائعٌ على الألسنة، ولكنْ لم نجِدْه بهذا اللفظ في مصدرٍ. وإنّما وجدنا في بحار الأنوار 7: 192، نقلاً عن رجال الكشّي: روى جماعةٌ من أصحابنا، منهم أبو بكر الحضرمي، وأبان بن تغلب، والحسين بن أبي العلاء، وصباح المزني، عن أبي جعفر وأبي عبد الله(عما)، أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه قال للبراء بن عازب: كيف وجدت هذا الدين؟ قال: كنّا بمنزلة اليهود قبل أن نتَّبعك تخفّ علينا العبادة، فلمّا اتَّبعناك، ووقع حقائق الإيمان في قلوبنا، وجدنا العبادة قد تثاقلت في أجسادنا، قال أمير المؤمنين(ع): فمن ثَمّ يحشر الناس يوم القيامة في صور الحمير، وتحشرون فرادى فرادى، يؤخذ بكم إلى الجنّة، ثمّ قال أبو عبد الله(ع): ما بدا لكم، ما من أحدٍ يوم القيامة إلاّ وهو يعوي عواء البهائم أن اشهدوا لنا واستغفروا لنا، فنُعرض عنهم، فما هم بعدها بمفلحين.

بيان [والكلام للعلاّمة المجلسي]: قوله: ما بدا لكم، كذا في النسخ التي عندنا، والظاهر أنه مصحَّف، ويمكن حمله على أن المعنى: اصنعوا ما بدا لكم من الطاعات؛ فإنَّها تقبل منكم ونشفع فيكم. ويحتمل أن يكون استفهاماً إنكاريّاً، أي أيُّ شيء سنح لكم حتّى جعلكم متحيِّرين في أمركم؟ أما تعلمون أنّه لا ينجو في القيامة غيركم؟

([9]) رواه الكشّي في الرجال 2: 638، عن حمدويه ومحمد ابنا نصير، عن محمد بن عيسى، عن عليّ بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن الطيّار، عن أبي عبد الله(ع).

([10]) رواه الطوسي في الأمالي: 50، عن محمد بن محمد، عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن أبي عليّ محمد بن همام الإسكافي، عن أحمد بن موسى النوفلي، عن محمد بن عبد الله بن مهران، عن معاوية بن حكيم، عن عبد الله بن سليمان التميمي، عن أبي عبد الله الصادق(ع).

([11]) رواه ابن بابويه القمّي في الإمامة والتبصرة: 138، عن محمد العطّار، عن الأشعري، عن عبد الصمد بن محمد، عن حنان بن سدير، عن أبي عبد الله(ع)، عن أبيه.

ورواه الصدوق في الخصال: 116، عن أبيه، عن محمد بن يحيى العطّار، عن محمد بن أحمد [وربما كان الصحيح: عن أحمد بن محمد]، عن عبد الصمد بن محمد، عن حنان بن سدير، عن أبي عبد الله، عن أبيه(عما).



أكتب تعليقك