15 يونيو 2012
التصنيف : كتيّبات: مفاهيم إسلامية
لا تعليقات
3٬714 مشاهدة

ضرورة النبوّة العامّة

(بتاريخ: 2 ـ 2 ـ 2006م)

(اختصاراً لما كتبه الشهيد الشيخ مرتضى مطهَّري في هذا الموضوع / نشر مركز الإمام الخمينيّ الثقافيّ)

الأسئلة التمهيديّة:

1ـ ما هي النبوّة؟

2ـ هل الإنسانيّة بحاجةٍ إلى أن يتلقّى بعض البشر الأوامر من السماء لإيصالها إلى الناس؟

3ـ لو قلنا بحاجة البشريّة لتلقّي التعاليم من السماء، فهل ينبغي أن تتمّ بواسطة بعض أفراد البشر أم توجد سُبُلٌ أخرى لتلقّي تعاليم السماء؟

4ـ إذا سلَّمنا بضرورة هذه الحاجة فما هو السبب في ضرورتها؟

***************

تمهيد

النبوّة هي الأصل الثاني من أصول الدين الثلاثة، والأصل الثالث من الأصول الخمسة وفق المذهب الشيعيّ.

والمستقِرّ في أذهان الناس عن النبوّة أنَّ هناك أفراداً من البشر يكونون واسطةً بين الله وسائر أفراد البشريّة، حيث يتسلَّم هؤلاء النفر الأوامر من الله ويبلِّغونها للناس.

بيد أنَّه يتشعّب عن هذا المفهوم الكلّيّ للنبوّة تساؤلاتٌ عديدةٌ، ومنها:

1ـ لماذا يجب أن يتلقّى بعض البشر الأوامر من السماء لإيصالها إلى الناس؟ وبعبارةٍ أخرى: هل الإنسانيّة بحاجةٍ إلى مثل هذه العمليّة؟

2ـ لو كانت البشريّة بحاجةٍ لتلقّي التعاليم من السماء، فهل من المحتَّم أن تتمّ بواسطة بعض أفراد البشر أم توجد سُبُلٌ أخرى لتلقّي تعاليم السماء؟

3ـ إذا سلَّمنا بضرورة هذه الحاجة فما هو السبب في ضرورتها؟ هل تختلّ من دون تلك التعاليم الحياة الاجتماعيّة للبشر في هذه الدنيا فحسب؛ أو تختلّ من دونها حياة البشر الأخرويّة فحسب، حيث إنّ سعادة الإنسان في الدار الآخرة مرتبطةٌ بطبيعة الحياة التي يقضيها في هذه الحياة الدنيا، وبنوع المعتقدات والأفكار والأخلاق والأعمال التي تصدر منه في هذه الحياة الدنيا؛ أو أنَّ كِلا الحياتين ستختلاّن من دون الاقتداء بتعاليم السماء والالتزام بأحكام الله؟

وهكذا نجد أنفسنا في خضمّ البحث عن الحاجة إلى الأنبياء والرسل، ومنشأ هذه الحاجة.

الحاجة إلى الرسالة

إذا ما آمنّا بالآخرة، وأنّ حياة الإنسان لا تنتهي بالموت في هذه الدنيا، بل هناك نشأةٌ أخرى، وحياة أخرى، ونحو آخر من الرزق والسعادة والشقاء، فلا شكّ أنَّ العلم والعقل الإنسانيّ غير كافيين للبحث في مسألة الآخرة، وتحديد الأشياء النافعة والضارّة للسعادة الأخرويّة.

فمع كلّ التقدُّم الذي أحرزه العلم البشريّ ما يزال عالم ما بعد الموت مجهولاً أمام البشريّة، ولا يمكن للعلم أن يبتّ بأمر وجوده أو عدمه بنحوٍ قاطعٍ.

إذاً ففي مسألة الآخرة، التي أخبر الأنبياء أنفسهم عن أصل وجودها، وأوضحوا نهج السعادة ونهج الشقاء فيها، تصير الحاجة إلى النبوّات ثابتةً، قطعيّةً، لا مجال للنقاش فيها.

بل إنَّ هناك جهةً أخرى تحتاج إلى بحث أكثر، وهي تلك التي تتعلَّق بالحياة الاجتماعيّة للإنسان، فهل تحتاج الحياة الدنيويّة للبشر إلى الأنبياء حقّاً أم لا؟ وهل عُني القرآن بهذا الجانب أيضاً أم اقتصرت رسالته على النشأة الآخرة فحسب؟

لم يقتصر اهتمام القرآن على الآخرة وحدها، بل كانت الحياة الدنيا من أهداف الأنبياء أيضاً، فقد أكّد القرآن الكريم على أنَّ العدالة من ضرورات الحياة البشريّة، وأنّ وجود الأنبياء ضروريّ لازِمٌ لبسط العدالة، فقال (عزّ وجلّ): ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25).

وهنا نتساءل: ما هو موقف العلم؟ وما هي نظرة الدراسات الاجتماعيّة؟ فهل تذعن هي الأخرى لوجود ضرورة مثل هذه أم لا؟

والجواب: ينبغي لحياة الإنسان أن تكون اجتماعيّة؛ إذ لا يمكن لبني البشر إلاّ أن يعيشوا مجتمعين، وأن يكون بينهم ضرب من الترابط والتعاون.

غير أنَّ الإنسان يختلف عن بقيّة الكائنات الاجتماعيّة، التي تمارس حياتها بدافع الغريزة، وتلجأ إلى الحياة الاجتماعيّة بالإجبار، فمع أنَّه مضطرّ لأن يعيش حياة اجتماعيّة ولكنّه يمارس كلّ شيء بنفسه وبإرادته؛ لأنّه موجود مختار حرّ وعاقل، فعليه أن يفكّر، ثمّ يلجأ للاختيار وفق إرادته، وهذا ما يجعله قادراً على التخلُّف عن وظيفته دائماً.

وما دام يتمتّع بغريزة حبّ الحياة، ويريد أن يعيش، فقد خُلق مجبولاً على طلب النفع لنفسه، فأوّل ما يفكّر فيه الإنسان هو منفعته الخاصّة، وليس المصلحة الاجتماعيّة، وبالتالي فهو لا يشخّص مصلحة المجتمع على نحوٍ حسنٍ، وإذا افترضنا أنَّه يفعل ذلك فهو لا يرعاها.

ومن هنا كان محتاجاً إلى نحو من الهداية والتوجيه يسوقه صوب مصالحه الاجتماعيّة، كما هو بحاجةٍ إلى قوّةٍ تكون مهيمنةً على وجوده تسوقه وراء مصالحه الاجتماعيّة.

وقد بُعث الأنبياء لينهضوا بالمهمّتين معاً؛ فهم يهدون الإنسان ويرشدونه نحو المصالح الاجتماعيّة؛ وفي الوقت ذاته يجعلونه ـ وربما كانت هذه هي الوظيفة الأهمّ ـ مسؤولاً في أن يمكّن قوّة معيّنة باسم «الإيمان» للهيمنة على وجوده، بحيث يستطيع ـ بحكم هذه القوّة أو القدرة ـ أن ينفّذ المصالح الاجتماعيّة، وأن يسعى وراء كلّ ما يشخّص أنَّه مصلحةٌ اجتماعيّة، سواء كان هذا التشخيص للمصالح الاجتماعيّة بحكم الوحي، أو العقل، أو العلم.

ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنَّه لولا وجود هذه السلطة للدين والأنبياء لاندثرت البشريّة؛ إذ كانت ستأكل نفسها، وتدمّر وجودها بذاتها.

فما تملكه الإنسانيّة المعاصرة من إرث تربويّ يعود منشؤه إلى الأنبياء، والقدر الذي تحظى به الإنسانيّة يعود هو الآخر إلى تأثير الكتب السماويّة، ومن دون هذا الإرث وهذا التأثير ستضمحلّ الروح الإنسانيّة وستفنى البشريّة بالضرورة؛ إذ من دون تلك الروح ستتحوّل البشريّة إلى موجودات وحشيّة لا حظّ لها من الحياة الاجتماعيّة، ومن ثَمّ سيكون الجميع مضطرّين للعيش بعضهم مع بعض، ولكنْ ليس كما تعيش مجموعة من الأسود والسباع الضارية، بل ستتحوّل حياتهم إلى غابة يعيش فيها قطيعٌ من الغَنَم ومجموعة من الذئاب والثعالب والنمور وعدد من الجمال والخيول يفترس بعضها بعضاً، ويسحق القويّ فيها الضعيف.

إذاً علّة الحاجة إلى الأنبياء كِلا أمرين: الحياة الآخرة؛ والحياة الاجتماعيّة والفرديّة للإنسان في هذه الحياة الدنيا.

وهُنا قد يسأل البعض: لماذا تفترضون في الإنسان أنَّه سينطلق وراء مصالحه الشخصيّة على حساب مصالحه الاجتماعيّة، في حين أنَّه يمكننا أن نقول: إنَّ الإنسان كما كان مزوَّداً بغريزة حبّ الحياة وإرادة العيش فإنَّه مزوَّدٌ بالعقل الذي يصحّح له مسيره كلّما اتَّجه نحو الانحراف عن المسار الصحيح والسليم؟

ولماذا ينبغي أن يكون هناك على الدوام عاملٌ إضافيٌّ ـ يعني النبوّات ـ يمارس التحذير؟ وإلى أيّ مدىً يكون العقل مؤثِّراً مع هذا العامل الإضافيّ؟

والجواب: إنَّنا لا ننكر وجود هذا العقل في الإنسان، ولكن نحن نشاهد بالحسّ والوجدان أنَّ الكثيرين من البشر قد انساقوا وراء غرائزهم، وأهملوا تعليمات وإرشادات عقولهم، ولا أظنّ أنَّ أحداً يمكنه أن يتنكّر لهذا الأمر، ومن ثَمّ يبقى الإنسان بحاجةٍ إلى مَنْ يهديه إلى مصالحه الاجتماعيّة فيما لو تركها سعياً وراء منافعه الفرديّة الضيّقة.

إذاً فالأنبياء لم يُبعثوا من أجل تعطيل العقل الإنسانيّ ودفعه إلى الركود، ومن ثَمّ لم يكونوا بديلاً للعقل، بل على العكس تماماً، فقد بُعثوا لتحريك العقول وتحريرها.

وهذه المهمّة هي ممّا تشير إليه النصوص الإسلاميّة، فالقرآن الكريم مَشيدٌ أساساً على إحياء العقل وإيقاظه، وتحطيم الأغلال التي تحيط بالعقل وتأسره، كتقليد الآباء والأجداد: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ (الزخرف: 23).

فلولا بعث الأنبياء وتوجيههم لبقي العقل ماكثاً في شوطه الطفولِيّ، ولم تبلغ البشريّة ما بلغته اليوم من رقيٍّ وتطوّر، فنحن نقول بملء الفم: لو لم يُبعث الأنبياء قبل ألوف السنين لما كان بمقدور البشريّة المعاصرة أن تصعد إلى القمر، فالأنبياء هم الذين تآزروا وحطّموا الأغلال عن العقل البشريّ، ومنحوا الإنسان شخصيّته، ومنطقهم على الدوام أنّ كلّ شيء وُجد للإنسان ومن أجله؛ لأنَّه أشرف المخلوقات.

ويقول أمير المؤمنين عليٌّ (عليه السلام) في هذا الصدد: «فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»[1].

إذاً البنية الإنسانيّة بحاجة إلى الإرشاد والهداية، كما أنّ الإنسان بحاجة إلى تكييف غريزته في البحث عن المنفعة الشخصيّة وتليينها، بحيث ينتبه إلى مسائل أرفع يستطيع أن ينظّم مصالحه الاجتماعيّة من خلالها.

أمّا أن يُقال: لماذا خُلق الإنسان على هذه الشاكلة؟ ولماذا لم يُخلَق على بنية أخرى؟ لماذا لم توهب النبوّة للجميع؟

فهذه أسئلة لا محلّ لها في صميم الخلقة، وليست صحيحة من الأساس.

فالخلقة تتحرّك في إطار نظامٍ محدَّد لا يتخلَّف، ولا يمكن تغييره، ونحن عندما نقول بحاجة البشر إلى النبوّة فليس معناه أنَّ الله مكلَّفٌ، وأنَّ من الواجب عليه أن يخلق الأنبياء لكي يتدارك هذا النقص في نظام الخلقة، بل إنَّ مشروع الخلقة مشروع متكامِل يحتلّ فيه كلّ شيء مكانه، فإذا ما كان ثَمّ حاجة في نظام الخلقة، وكان هناك استعدادٌ وإمكان لتلقّيها، فستفاض؛ لأنّ فيض الله مطلَقٌ.

ومن هنا نعرف أنَّه لا معنى للقول: لماذا لم يكن كلّ أفراد البشر على هذه الشاكلة؟

فالجواب: لأنَّ للخلقة نظاماً متّسقاً ومنسجماً، وليس بمقدور أيّ موجودٍ أن يوجَد إلاّ في إطار مرتبته الوجوديّة الموجود فيها فعلاً.

وأفضلُ مثال في مجال نظام الخلقة والتكوين هو الأعداد، فهي تصوِّر لماذا لا يمكن أن نفترض الإنسان موجوداً في مرتبة موجودٍ آخر، ولماذا لم يَصِر الإنسان حماراً والحمار إنساناً، ولماذا لم يصبح أبو جهل نبيّاً والنبيّ أبا جهلٍ؟

فهل يتساءل أحدٌ: لماذا لم تصبح الأربعة خمسةً، والخمسة أربعةً؟

لا؛ لأنَّ الأربعة إنَّما صارت أربعةً لأنَّها موجودةٌ أساساً في المكان الذي هي موجودةٌ فيه الآن، فلو نقلناها إلى مكان السبعة فستصير سبعةً، ولن تبقى أربعةً، وهكذا بقيّة الأعداد.

والموجوداتُ في هذا العالم متقوِّمةٌ بمراتبها، كما يُعبِّر عن ذلك الفلاسفة، فكلّ موجودٍ في أيِّ رتبةٍ وُجد فإنّ تلك المرتبة هي جزء من ذاته، وبالتالي فمن المحال أن تتغيَّر مرتبته ويبقى الموجود هو الموجود نفسه.

الله يصطفي رسلاً

يتساءل البعض فيقول: هل للأفراد الذين يختارهم الله للنبوّة خاصّيّة تميّزهم عن غيرهم أم يأتي الاختيار جزافاً، وعلى أساس عشوائيّ؟

والجواب: إنَّ الاختيار لا يتمّ جزافاً ومن دون ضابطة، بل للاستعداد دخلٌ في الاختيار، والقرآن الكريم يُبرز هذا العنصر، حيث يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 247).

والآية الأصرح في ذلك: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ (الأنعام: 124).

إذاً ليس لجميع الأفراد أهليّة النبوّة، وإنَّما يستند الاختيار إلى استعداد خاصّ.

وثَمّة سؤال آخر، وهو: لماذا نلحظ كثرة الأنبياء في أرض معيّنة؟ ولماذا حُرِم بعض الأقوام من وجود نبِيٍّ بينهم؟

أمّا الجوابُ عن السؤال الأوّل فهو أنّ لذلك علاقة بالعنصر ذاته الذي تشير إليه الآية: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ (الأنعام: 124)، فإذا كان للاصطفاء للرسالة صلة بالاستعدادات الخاصّة التي ينطوي عليها الأفراد فمن الثابت أنّ للأقاليم تأثيراتها المتنوّعة في تربية الاستعدادات.

فمثلاً: يقولون عن أرض الشرق الآن: إنَّها أرض العرفان والإشراق؛ إذ لم يكن جزافاً أن يميل الغربيّون ـ مثلاً ـ إلى المحسوسات أكثر في حين يميل الشرقيّون إلى ما وراء الحسّ أكثر.

ومن الثابت أنّ للمحيط الجغرافيّ، والظروف المناخيّة، وحرارة الشمس، تأثيراً مفيداً في تنمية جسم الإنسان، وللوضع الجسميّ تأثيره في تربية الروح وإعدادها إعداداً خاصّاً.

وعلى ضوء هذا ليس هناك ما يمنع أن يكون لبعض الأقاليم استعداد أكبر لتنمية الأفراد الذين يحظون ـ بشكلٍ عامٍ ـ بقابليّات على الإشراق والإلهام.

وأمّا الجواب عن السؤال الثاني فهو أنّه في الوقت الذي ليس بمقدورنا أن نثبت تاريخيّاً أنّ الأنبياء كانوا منتشرين في جميع الأصقاع فإنّ الدليل التاريخيّ لم يُثبت لنا خلوّ بعض الأصقاع والأقاليم من الأنبياء تماماً.

إذاً فلا دليل من التاريخ على أنّ الأنبياء كانوا في جميع الأصقاع، كما لا دليل على أنّ بعض الأصقاع قد خلا منهم.

والمنطق القرآنيّ في هذه المسألة هو أنَّ الله (عزّ وجلّ) بعث لكلِّ أمّةٍ نذيراً، قال (عزّ وجلّ): ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: 24).

فما يفيده منطق القرآن الكريم هو وجود النبوّات في كلّ الأمم والأقوام.

وهذا المنطقُ هو المرجع لنا مع فقد الدليل التاريخيّ على الإثبات والنفي.

الحاجة إلى الأنبياء

قد يقول قائل: إنَّه لا وجود لما ذكرتموه من حاجة البشريّة إلى النبوّة والأنبياء، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى الدين الذي يأتي به هؤلاء من عند الله.

وقد يرى البعض أنّه ليس من الصحيح أن نستدلّ على ضرورة النبوّة بحاجة البشريّة، وبعبارة أخرى: من غير الصحيح أن نقول: لمّا كانت البشريّة بحاجةٍ إلى النبوّة فلا بدّ أن يكون هناك أنبياء في العالم؛ إذ ليس من الضروريّ أن يوجد في العالم كلّ ما تحتاج إليه البشريّة، وإنْ كانت الحاجة واقعيّة.

وهنا يتحتّم علينا أن نستعرض مناهج البحث في مقولة الحاجة.

وقد ذُكر في ذلك منهجان: المنهج الكلاميّ؛ والمنهج الفلسفِيّ.

المنهج الكلاميّ في إثبات النبوّة

يرفض المتكلِّمون قانون العلّة والمعلول، ونظام السببيّة، ويذهبون إلى أنَّ ما يحفل به الوجود هو تقريباً أمرٌ شكلِيٌّ تشريفِيٌّ.

وكأنّ هؤلاء يظنّون أنَّ الالتزام بنظام العلّيّة هو ضربٌ من التحديد لله، وعليه فلا يقيمون لنظام العلِيّة وزناً، بل يذهبون إلى وجوب نسبة كلّ شيءٍ إلى الله مباشرةً وبلا واسطةٍ.

ويقول الذين يؤمنون بالحسن والقبح من المتكلّمين: ما دام الله حكيماً فلا يصدر منه فعلٌ إلاّ طبق المصلحة، فما هو حسن يجب عليه فعله؛ بمقتضى حكمته، وإلاّ أضرّ ذلك بحكمته، وما هو قبيحٌ ينبغي له أن لا يفعله؛ وإلاّ كان ذلك طعناً في حكمته.

وهذا النهج من الاستدلال ليس صحيحاً، سواء لجهة إنكار نظام العلّيّة، أو لجهة وضع قاعدة وقانون يتحكّمان بالله، ويضبطان فعله؛ إذ معنى أن نقول: «ينبغي له أن يفعل»، أو «ينبغي له أن لا يفعل»، تحديدُ دافعٍ للفعل الإلهِيّ، وهذا ما يتنافى مع واجب الوجود، الذي لا يخضع لتأثير أيّ علّةٍ مهما كانت.

المنهج الفلسفيّ في إثبات النبوّة

وهو المنهج الذي نتبنّاه، وعبَّرنا عنه من خلال طرح مقولة الحاجة، التي تُعدّ في ذاتها قانوناً، بل قانوناً طبيعيّاً.

ومفادُ هذا المنهج، الذي يذهب إليه الفلاسفة، أنّ كلّ شيءٍ غير موجود في العالم تعود علّة عدم وجوده إلى عدم الإمكان وعدم القابليّة، وأنّ كلّ ما له إمكان وقابليّة على الوجود فلا بُدّ أن يوجَد.

ولو طبّقنا هذا المنهج في مسألة النبوّة لوجدنا أنّ النبوّة ممكنةٌ، بمعنى إمكان اتّصال الإنسان بالعالم الآخر، حيث يُلقى إليه من هناك الإلهام والغيب، وهذا ما برهنوه في طيّات الحديث عن حقيقة الوحي.

ووجدنا أيضاً أنّ البشريّة بحاجةٍ إلى النبوّة، وأنّ النبوّة ضربٌ من الخير والسعادة والكمال، ويؤدّي عدم وجودها إلى ظهور فراغٍ وجوديّ لدى البشر يفضي إلى اضطراب عامّ في الحياة الإنسانيّة.

ومن هاتين المقدّمتين توصّلوا إلى ضرورة وجود النبوّة في نظام العالم.

وهذا المنهج لا يتحدّث عن تكليف الله، بل يقول الفلاسفة (حكماء الإسلام): إنّ الله فاعلٌ تامٌّ، ولا يمكن أن يمتنع الفيض من ناحيته، فلا مجال للبخل في ذاته كي يمنع الفيض، لذلك إذا ما كان لشيءٍ في نظام الوجود إمكان الوجود، وإمكان الديمومة، فسيُفاض عليه الوجود من قِبَل الله.

ولهذا المنهج أصول قرآنيّة، فقد قال تعالى، في معرض انتقاد منكري النبوّة والوحي: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 91).

فهو يقول: إنّ مَن عرف الله حقّ قدره لا يمكنه أن ينكر أنّ الله قد أنزل الوحي على أشخاص معيّنين، وهم الأنبياء.

وهذا استدلال بالله على وجود النبوّة والوحي.

جواب الإشكالان

الإنسان كائنٌ حرٌّ مختارٌ، خِلافاً للنباتات والحيوانات، ويعيش أيضاً حياةً اجتماعيّة، وهو ما يُعبَّر عنه بأنّ الإنسان مدنِيٌّ بالطبع، وبقاءُ الإنسان رهينٌ بأن يعيش حياةً اجتماعيّة.

وهذه الحياة الاجتماعيّة للإنسان تتعلَّق بشرط يتمثّل بوجود الإيمان، فالإنسان لا يستطيع أن يدير حياته الاجتماعيّة إذا بقي في إطار حالته الطبيعيّة والغريزيّة، التي تملي على كلّ فرد من أبناء البشر أن يفكّر في منفعته الشخصيّة فقط، وأن يقدّم منفعته الخاصّة على المصلحة الاجتماعيّة.

إذاً هو بحاجة إلى الإيمان الذي يهيمن على وجوده، ويستطيع من خلاله أن يحترم القوانين والضوابط، التي توضع من أجل المصالح الاجتماعيّة وإدارة الحياة الإنسانيّة، سواءً كانت من قِبَل الله أو من قِبَل الناس، ولكن بشرط أن تكون أصولها من عند الله.

ولا يكفي هنا أن ينصاع للقانون على أساس حسابات المصلحة الدقيقة، بحيث يحترم القانون خوفاً من أن يقوم الآخرون بمخالفته أيضاً فيتسبّب ذلك بمشاكل شخصيّة له؛ إذ سينحصر احترامه للقانون بالزمن الذي يكون فيه وازِعٌ من قوّة، أمّا إذا اشتمل هو نفسه على القوّة والقدرة الشخصيّة، بحيث لا يقدر أحد على إلحاق الأذى به، فلن يحترم القانون حتماً.

إذاً لا بُدَّ من إيمان الإنسان بالقانون حتّى تستقرّ حياته الاجتماعيّة.

وبهذا تثبت الحاجة إلى النبوّة؛ إذ لم تنبثق حتّى اليوم نظريّة تزعم عدم حاجة البشريّة إلى القانون، وإلى الإيمان بالقانون، وغاية المطروح هو: هل يمكن إيجاد هذا الإيمان، وهذا القانون، عن غير طريق النبوّة أم لا؟

فإذا ما استطعنا أن ننفي قدرة البشريّة على ذلك ثبتت الحاجة إلى النبوّة في كافّة العصور، وإلاّ فلا.

نظريّة المهندس بازرگان لإثبات النبوّة

ذكر المهندس بازرگان في كتابه «الطريق المطويّ» أنّه إذا لم نستطع إثبات حاجة الخلق إلى النبوّة، وباللغة العلميّة لم نستطع إثبات النبوّة بالبرهان اللمّيّ، أي عن طريق الاستدلال بالعلّة على المعلول، فإنَّنا نستطيع ذلك عن طريق الاستدلال بالمعلول على العلّة.

بيان ذلك: نرى في الخارج أموراً لا نشكّ في وجودها وتحقُّقها، وعندما نبحث عن مصدر هذه الأمور نجد أنَّه لا يمكن أن يكون مادّيّاً وعاديّاً؛ إذ لهذه الأمور من الخصائص ما يوجب أن يكون مصدرها إلهيّاً، وبحسب تعبيرنا ما وراء طبيعيّ.

ومثال ذلك: غرائزُ الحيوانات.

فالهدايةُ الموجودة في الحيوانات لا يمكن أن يكون لها منشأٌ غير الإلهام الإلهيّ.

وقد أكّد القرآن هذه الفكرة بقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ (النحل: 68).

وفي مسألة النبوّة نرى للأنبياء آثاراً لا يمكن أن تتّسق مع التعليم، والاكتساب من المعلِّم، والمحيط الداخليّ والخارجيّ، وبالتالي لا بُدّ وأن نذعن بوجود نحوٍ من التلقّي والإلهام.

وكذا نرى لتعاليمهم التطابق الكامل مع مصالح العباد، ومع شؤون البشريّة كافّةً، بخِلاف تعاليم العلماء والفلاسفة، الذين كانوا يظهرون بين فترةٍ وأخرى، حيث كانت ناقصةً، وهذا الكمال لا يُعقل أن يكون نتاجاً لفردٍ عاديٍّ، كما لا يمكن أن يكون ناتجاً عن التعليم، أو التجربة، أو عن طريق النبوغ وما يحظى به إنسانٌ ما من تفوُّقٍ على الآخرين.

إذاً فهذه التعاليم التي جاء بها الأنبياء خارجةٌ عن مقدّرات العقل الإنسانيّ ومعطيات الفكر الإنسانيّ، فيجب عندئذٍ الإيمان بوجود الإلهام.

وهذا السبيل هو نفسُه النهج الذي سلكته الآيات.

نقد نظريّة المهندس بازرگان

نظريّة المهندس بازرگان تعتمد على جملةٍ من المقدِّمات[2]، وهي:

1 ـ نهض الأنبياء على الدوام ضدّ الاتّجاه الحاكم في مجتمعاتهم.

وهذه الفكرة صحيحةٌ، غير أنَّ هذا لا يختصّ بالأنبياء وحدهم، بل إنَّ جميع الثائرين وأصحاب الحركات كانوا أساساً على هذه السيرة.

2 ـ جاهد الأنبياء وضحّوا في الطريق إلى تحقيق أهدافهم.

وهذه الفكرة صحيحةٌ أيضاً، ولكنَّ هذا لا يختصّ بالأنبياء وحدهم، فكم هم المضحّون في سبيل أهدافهم وما يعتقدون به! فهل يكون هؤلاء أنبياء؟!

3 ـ لقد نهض الأنبياء بمفردهم، ولم يحظَوْا بحماية سلطةٍ، أو سياسةٍ، أو طبقةٍ معيَّنةٍ، فقد كانوا وحيدين على الدوام.

وهذا صحيحٌ أيضاً، ولكنْ يُشاركهم فيه غيرُهم.

4 ـ لم يكن الأنبياء نفعيّين، يندفعون وراء جمع المال وكسب السلطة.

وهذه نقطةٌ نؤمن بها، ولكنْ لا نستطيع أن نحتجّ بها لإثبات النبوّة لمَنْ يُنكرها ولا يؤمن بها؛ إذ يرى هؤلاء أنَّ كلّ شخصٍ يسعى وراء هدفٍ معيَّنٍ يقنع به في هذا العالم، بل إنّهم يرَوْن أنّ الأنبياء هم أشخاص يتملّكهم هياج التمكّن من السلطة المعنويّة على الناس، وهذه الحالة تعبِّر بذاتها عن ضربٍ من المنفعة.

وعليه فالاستدلالُ بأنّه ما دام الأنبياء لا يرغبون بالمال فهم لا يرغبون بالسلطة أيضاً مخدوشٌ من قِبَل المنكرين للنبوّة.

نعم، الكُلّ يُسلِّم أنَّ الأنبياء لم يكونوا يرغبون في سلطةٍ تشبه سلطة الملوك والسلاطين، ولا سلطة العلماء والفلاسفة، فهم فريقٌ آخر، ولكنَّ هذا لا يعني أنَّهم مبعوثون من عند الله.

5 ـ حظي الأنبياء بتوفيقٍ عظيمٍ لا نظير له.

وهذا صحيحٌ.

6 ـ تختلف تعاليم الأنبياء عن تعاليم الآخرين (الفلاسفة والعلماء) في النهج.

فنهجُ العلماء والفلاسفة نهجٌ منظَّمٌ، يقوم على أساس الحركة من المقدِّمة إلى النتيجة، فهو نهجٌ فكرِيٌّ واستدلالِيٌّ، ينطلق من عدد من المقدِّمات، ويتحرَّك إلى الأمام، حتّى يبلغ النتيجة.

أمّا الأنبياء فليس نهجهم بالأساس نهجاً استدلاليّاً، ومنطقيّاً، وما شابه.

ويستثني المهندس بازرگان القرآن الكريم، فقد جاء عن طريق العقل والمنطق، واقترن بهما، ففي القرآن أنماطٌ من الاستدلالات العقلِيّة والفلسفيّة بالكامل، وليس فقط العقل التجريبيّ.

وهذا الكلام صحيحٌ إلى حدٍّ ما، ولكنَّه ليس صحيحاً بشكلٍ تامٍّ.

7 ـ إنّ الأمم التي اتَّبَعَت تعاليم الأنبياء حظيت بالرقيّ والتقدُّم.

ونحن نؤمن بهذا، وينبغي علينا إثباته، ولكنْ هل يؤمن به الذين ينكرون النبوّة؟

إنّهم يعدّون أغلب ما جاءت به تعاليم الأنبياء من مظاهر الرجعيّة والتخلُّف.

ثمّ يخلص المهندس بازرگان إلى أنّ الأنبياء لم يكونوا نفعيّين، وكانوا يؤمنون بأنفسهم.

وهذه النتيجة مثارٌ للجَدَل والنقاش أيضاً؛ إذ يُنكر البعض، وهم الذين يرَوْن أنّ الأنبياء جماعة من النفعيّين الذين يسعَوْن وراء الجاه والسلطة، أنّ الأنبياء كانوا يعتقدون بصدق أنفسهم.

ولكنَّ الإنصاف أنّ تضحيات الأنبياء وسيرتهم تدلّ بوضوح على أنّهم كانوا يؤمنون بما يقولونه.

ولكنْ يبقى السؤال: هل أنَّ إيمان هؤلاء بصدق أنفسهم كافٍ لإثبات نبوّتهم؟

الجواب: كلاّ، فصحيحٌ أنّ الكثير ممَّن أنكر النبوّة في الماضي والحاضر لا يرى أنَّ الأنبياء هم محتالون من ذوي المكر والخداع، ولكنَّه يرى أنّ هناك حالةً تنتابهم بحيث تلقي عليهم ظلالاً من التخيُّلات تجعلهم يتوهَّمون أنَّه قد أُوحي إليهم.

فنحن نؤمن أنّ الأنبياء لم يكونوا مستبدّين قصّار نظر، كما لم يتأثّروا ببيئتهم ولم يتعلَّموا من محيطهم، ولم يكونوا مصابين بانفصام الشخصيّة، كما أنّهم لم يكونوا سذّجاً، ولكنَّ الآخرين ينكرون ذلك كلّه.

ومحصَّل نظريّة بازرگان في ثلاث مقدّمات:

أوّلاً: ما دامت تعاليم الأنبياء منبثقة من وجودهم، وليس من المحيط، أو بتأثير معلِّمٍ.

ثانياً: ما دامت تعاليمهم منبثقة من منشأ فكريّ، ومنتهية إلى مقصد هو الله.

ثالثاً: لمّا كانت مهمّتهم وخدماتهم قد اقترنت بالصدق والنبوغ والنضج.

إذاً ما جاؤوا به إمّا أن يكون إبداعاً ذاتيّاً، نتيجة خيالات وتصوّرات شخصيّة؛ أو أنّ له منشأً واقعيّاً وحقيقيّاً، وهو غير بشريّ في الوقت ذاته.

والاحتمالُ الأوّل باطِلٌ؛ إذ مهما بلغت إبداعات الشخص من الكمال فسيبقى للنقص فيها نصيبٌ كبيرٌ، وهذا النقصُ غيرُ موجودٍ في تعاليم الأنبياء.

فتعيّن الاحتمال الثاني.

مع الإشارة إلى أنَّ هؤلاء الأنبياء لمّا كانوا يؤمنون بعمق تديّنهم، وقد ثبت أنّهم منزّهون عن الكذب والحيلة، فيكون كلّ ما قالوه صدقاً، ومنه أنَّ هذه التعاليم ليست من عند أنفسهم، ولا من تداعيات عقولهم، بل إنّهم أخذوها من إله مفترض.

ثمّ أشار المهندس بازرگان في كتابه «الطريق المطويّ» إلى أنّ نهج الأنبياء نهج داخليّ، فهم يستمدّون الإلهام من داخلهم، تماماً كما يتأثّر الفنّانون بداخلهم.

وهذا الوجه المشترك يعدّ عند هذه الحدود صحيحاً إلى حدٍّ ما.

ثمّ يفرِّق بازرگان بين إلهامات الفنّانين وإلهامات الأنبياء بأنّ الفنّانين لا يخرجون أبداً من أطرهم النفسيّة، وأمّا الأنبياء فقد فتحوا نافذةً صوب العقل، وباتّجاه الخارج وتربية المجتمع.

وهنا نسأل: ما هو الدليل على أنّ ما يدخل في عداد إلهام الأنبياء، الذي هو إلهام داخليّ أيضاً، هو إلهامٌ إلهيّ؟

إذاً ما ذكره المهندس بازرگان من الشواهد والقرائن على صحّة طريق البرهان الإنّيّ (طريق الاستدلال بالمعلول على العلّة) غير تامٍّ، وإنْ كان الطريق نفسُه أساسيّاً في بحث إثبات النبوّة، بحيث لو أهملنا الآثار والدلائل التي ذكرها الأنبياء فلن نستطيع إثبات النبوّة.

خلاصة الدرس

النبوّة هي الأصل الثاني من أصول الدين الثلاثة، والأصل الثالث من الأصول الخمسة وفق المذهب الشيعيّ.

والنبوّة هي أن يُرسل الله أفراداً من البشر بتعاليم يوحيها إليهم ليبلِّغوها الناس.

فهل البشر بحاجة إلى الأنبياء والرسل؟

نعم؛ إنّهم يحتاجون إليهم لحياتهم الأخرويّة؛ إذ في الوقت الذي يشعر فيه كلّ البشر بضرورة أن يكون هناك يومٌ لإثابة المحسِن وعقاب المسيء نجد أنّه، ومع كلّ التقدُّم الذي أحرزه العلم البشريّ، ما يزال عالم ما بعد الموت مجهولاً أمام البشريّة، ولا يمكن للعلم أن يبتّ بأمر وجوده أو عدمه بنحوٍ قاطعٍ.

كما يحتاجون إليهم لحياتهم الدنيويّة.

فقد أكّد القرآن الكريم على أنَّ العدالة من ضرورات الحياة البشريّة، وأنّ وجود الأنبياء ضروريّ لازِمٌ لبسط العدالة، فقال (عزّ وجلّ): ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾.

وأكّدت الدراسات الاجتماعيّة أنّه ينبغي لحياة الإنسان أن تكون اجتماعيّة؛ إذ لا يمكن لبني البشر إلاّ أن يعيشوا مجتمعين، وأن يكون بينهم ضرب من الترابط والتعاون

وما دام يتمتّع بغريزة حبّ الحياة، ويريد أن يعيش، فقد خُلق مجبولاً على طلب النفع لنفسه، فأوّل ما يفكّر فيه الإنسان هو منفعته الخاصّة، وليس المصلحة الاجتماعيّة، وبالتالي فهو لا يشخّص مصلحة المجتمع على نحوٍ حسنٍ، وإذا افترضنا أنَّه يفعل ذلك فهو لا يرعاها.

ومن هنا كان محتاجاً إلى نحو من الهداية والتوجيه يسوقه صوب مصالحه الاجتماعيّة، كما هو بحاجةٍ إلى قوّةٍ تكون مهيمنةً على وجوده تسوقه وراء مصالحه الاجتماعيّة.

وقد بُعث الأنبياء لينهضوا بالمهمّتين معاً.

فإنْ قيل: إلى أيّ مدىً يكون العقل مؤثِّراً مع عامل النبوّة؟

قلنا: إنَّنا لا ننكر وجود العقل المؤثّر في الإنسان، ولكن نحن نشاهد بالحسّ والوجدان أنَّ الكثيرين من البشر قد انساقوا وراء غرائزهم، وأهملوا تعليمات وإرشادات عقولهم، وعليه فالأنبياء لم يُبعثوا من أجل تعطيل العقل الإنسانيّ، وإنّما بُعثوا لتحريك العقول وتحريرها وتحطيم الأغلال التي تحيط بالعقل وتأسره.

إنَّ اختيار الأنبياء لا يتمّ جزافاً ومن دون ضابطة، بل للاستعداد دخلٌ في الاختيار، والقرآن الكريم يُبرز هذا العنصر، حيث يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ﴾.

والآية الأصرح في ذلك: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.

إذاً ليس لجميع الأفراد أهليّة النبوّة، وإنَّما يستند الاختيار إلى استعداد خاصّ.

ولا دليل من التاريخ على أنّ الأنبياء كانوا في جميع الأصقاع، كما لا دليل على أنّ بعض الأصقاع قد خلا منهم.

ومنطق القرآن الكريم هو وجود النبوّات في كلّ الأمم والأقوام.

ذكر المهندس بازرگان في كتابه «الطريق المطويّ» أنّه إذا لم نستطع إثبات حاجة الخلق إلى النبوّة، وباللغة العلميّة لم نستطع إثبات النبوّة بالبرهان اللمّيّ، أي عن طريق الاستدلال بالعلّة على المعلول، فإنَّنا نستطيع ذلك عن طريق الاستدلال بالمعلول على العلّة.

فمثلاً: غرائزُ الحيوانات، التي تحكم حياتها وتجعلها في نحوٍ لا مثيل له من النظم والتناسق، أمرٌ لا يسع أحداً إنكارُه، إذاً هي موجودةٌ، ولا بدّ لها من موجِد، ولا يستطيع أحدٌ أن يدّعي أنّ وجودها عن طريق التعليم والتعلُّم، أي عن طريق بشريّ، إذاً فالهدايةُ الموجودة في الحيوانات لا يمكن أن يكون لها منشأٌ غير الإلهام الإلهيّ.

وفي مسألة النبوّة نرى للأنبياء آثاراً لا يمكن أن تتّسق مع التعليم، والاكتساب من المعلِّم، والمحيط الداخليّ والخارجيّ، فهذه التعاليم التي جاء بها الأنبياء خارجةٌ عن مقدّرات العقل الإنسانيّ ومعطيات الفكر الإنسانيّ، وبالتالي الإيمان بوجود بوجود نحوٍ من التلقّي والإلهام.

وقد ذكر المهندس بازرگان جملةً من المقدِّمات والشواهد لإثبات نظريّته بيد أنَّها كلَّها قابلةٌ للنقاش.

ومحصَّل نظريّته في ثلاث مقدّمات:

أوّلاً: ما دامت تعاليم الأنبياء منبثقة من وجودهم، وليس من المحيط، أو بتأثير معلِّمٍ.

ثانياً: ما دامت تعاليمهم منبثقة من منشأ فكريّ، ومنتهية إلى مقصد هو الله.

ثالثاً: لمّا كانت مهمّتهم وخدماتهم قد اقترنت بالصدق والنبوغ والنضج.

إذاً ما جاؤوا به إمّا أن يكون إبداعاً ذاتيّاً، نتيجة خيالات وتصوّرات شخصيّة؛ أو أنّ له منشأً واقعيّاً وحقيقيّاً، وهو غير بشريّ في الوقت ذاته.

والاحتمالُ الأوّل باطِلٌ؛ إذ مهما بلغت إبداعات الشخص من الكمال فسيبقى للنقص فيها نصيبٌ كبيرٌ، وهذا النقصُ غيرُ موجودٍ في تعاليم الأنبياء.

فتعيّن الاحتمال الثاني.

إذاً ما ذكره المهندس بازرگان من الشواهد والقرائن على صحّة طريق البرهان الإنّيّ (طريق الاستدلال بالمعلول على العلّة) غير تامٍّ، وإنْ كان الطريق نفسُه أساسيّاً في بحث إثبات النبوّة، بحيث لو أهملنا الآثار والدلائل التي ذكرها الأنبياء فلن نستطيع إثبات النبوّة.

الهوامش


[1] نهج البلاغة، الخطبة رقم 1.

[2] ذكر المهندس بازرگان هذه المقدِّمات في كتابَيْه: «درس التديُّن» و«الطريق المطويّ».



أكتب تعليقك