23 ديسمبر 2023
التصنيف : استفتاءات
لا تعليقات
680 مشاهدة

عصمة الأئمة(ع) اختياريةٌ علميّة، والفرق بين عصمتهم وعصمة غيرهم، كالسيدة زينب(ع)

سؤال: لماذا اختار الله أهلَ البيت بالذات وعَصَمهم؟ وهل يمكن أن نقول: إنهم أفضلُ الناس ولديهم حُرِّية اختيارٍ، وهم يختارون أن لا يَعْصُوا الله، فلأجل ذلك طَهَّرهم؟! ولكنَّ بعضَهم يتوهَّم أن المسألة جَبْريّةٌ (يريد الله ليذهب عنكم الرِّجْس) فلا حُرِّية، ولماذا هُمْ بالذات؟ فإذا كان الله قد عَصَمهم فأين تَمَيُّزهم؟

وما هو الفَرْق بين عصمة الأئمّة وعصمة السيّدة زينب؟ فالجميع يختار عدم المعصية، فما هو الفَرْق؟

الجواب: الأئمّة كالأنبياء، هم صفوة الله؛ فاللهُ يصطفي ويجتبي ويختار أشخاصاً؛ لحمل المسؤوليّة ومهمة التبليغ عن الله، بعد تلقّي الوَحْي منه، أو تلقّي التعاليم من الأنبياء (كما في الأئمّة، حيث لا يُوحَى إليهم)

وهذا الاصطفاء ليس عَشْوائيّاً، وإنما هو من وَحْي العلم الإلهيّ بالمؤهِّلات الشخصيّة لكلّ إنسانٍ، ومن هنا قال عزَّ وجلَّ: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). فليس كلُّ أحدٍ مهيّأٌ لهذه المهمّة، وإنما هناك مَنْ يمتلكون المؤهِّلات والمواصفات التي تجعلهم في معرض الاختيار الإلهيّ

أمّا أن الله يعلم بذلك على وجه الدقّة، ولا يخطئ علمُه، فليس هذا من باب الإجبار، بل من باب أن واجبَ الوجود غيرَ المحتاج لا يكون علمُه إلاّ بهذه الطريقة، وإلاّ استلزم النقص والحاجة، وهو منزَّهٌ عنهما

ومثالُ ذلك في الواقع العُرْفيّ هو الأستاذ الذي يعلم مؤهِّلات طلابه، ومصيرَهم، فيختار أحدَهم (دون غيره) للمشاركة في امتحانٍ أو مسابقةٍ، ويقول لأحدهم بأنه لن ينجح، و… فهو لا يجبرهم على ذلك، وإنما هو فقط يختار ويتحدَّث من وَحْي علمه المُحِيط المُسْتَشْرِف (والأستاذ قد يخطئ إذا كان علمه غيرَ صحيحٍ، ولكنّ علمَ الله صحيحٌ مطلقاً)

إذن، كما أن ذوي السلطة والقدرة والعلم (المحدود طبعاً) يختارون ويصطفون أشخاصاً؛ لتحمُّل المسؤولية (وفي أكثر الأحيان يصيبون، وهم هُنا لا يتدخَّلون في المصطفى، بل يتحرَّك هو وَفْق اختياره الحُرّ، غاية الأمر هم يعلمون أهليّته وجدارته، ولذلك اختاروه)، فكذلك اللهُ يعلم أهليّة وجدارة كلّ إنسانٍ قبل أن يُولَد، فهو العالمُ بما كان وما يكون. وعلى هذا الأساس يتمّ الاصطفاء وإسناد المسؤوليّات، ولا يتدخَّل مع هؤلاء بنحو الإعجاز، إلاّ في موارد محدودةٍ جدّاً، وحيث تمسّ الحاجة، وبمقدار الحاجة فقط، فيعطيهم من غَيْبه بعضَ العلم المرتبط بالوظيفة، لا أكثر، وكذلك من الطاقات والقدرات ما يحتجّون به على الجاحدين…

إذن، هؤلاء ينطلقون بمؤهِّلاتهم في خطّ الطاعة لله، وعصمة النَّفْس عن كلّ ما يُشِينها، مستندين في ذلك إلى العلم الذي يزوِّدهم الله به (كما يزوِّد غيرهم به من خلالهم، فهُمْ الواسطة لوصول العلم والمعرفة إلى الآخرين، وأما هُمْ فيصلهم العلم والمعرفة بواسطة الوَحْي)، فبمَحْض إرادتهم واختيارهم ـ المستند إلى العلم، واستحضار هذا العلم على الدوام ـ يمتنعون عن المعصية، ولا يتركون الطاعة، فما دامَتْ المعصية بالصورة القبيحة التي أوضَحَها الله لنا (مثلاً: الغِيبة = أكل لحم الشخص وهو ميتٌ، واللحم نَيْءٌ، والدماء تتقاطر… وهذا منظرٌ كَرِيهٌ ومقزِّزٌ جدّاً = فكرهتموه)، وهم يستحضرون هذه الصورة على الدَّوَام، لا تغيب عن أذهانهم، وكذلك جميع الصُّوَر القبيحة للمعاصي، فمؤهِّلاتهم وجدارتهم تتجلّى هنا، في أنهم يُولُون هذه المسائل الأهمِّية القصوى، فلا يزاحمها في عقولهم أيُّ مسألةٍ أخرى، ولا ينشغلون بشيءٍ من أمور الدنيا عن هذه الصُّوَر والمعلومات، فإذا حضرَتْ هذه الصورة كيف يُقْدِم على المعصية؟!

الغِيبة لغير المعصوم فيها لذّةٌ وأُنْسٌ وتسليةٌ، فيرغب بها؛ وأما المعصوم فيراها بالصورة التي تقدَّمَتْ فهل يمكن أن يقترب منها؟!

المرأةُ الأجنبيّة لغير المعصوم لذّةٌ وشَهْوةٌ ومتعةٌ، فينظر ويصافح و…؛ أما المعصوم فيراها كجَمْرةٍ ملتهبةٍ، أو كوادٍ سحيقٍ من النار أو…، فهل يفكِّر في النظر وما يتلوه؟!

وكذلك الرِّبا، والظلم، وأكل مال اليتيم، و…، من المعاصي

إذن، الله لا يُجْبِر ولا يزوِّد هؤلاء بأشياء لم يزوِّد بها غيرهم، ولكنْ هؤلاء لديهم مؤهِّلاتٌ ومواصفاتٌ وجدارةٌ ذاتيّة لتلقّي ما يُلْقَى إليهم من علوم، والاستفادة منها على أتمّ وأكمل وجهٍ، فلا ينسونها، ولا يتغافلون عنها، ولا ينشغلون بغيرها، فيكونون في خطّ الطاعة على الدوام؛ بخلاف غير المعصوم، الذي تصله هذه العلوم، فيتشاغل ويغفل وينسى، فيقع في المعصية، ثمّ يتذكَّر ويستغفر، وهكذا…

وعليه، فالاصطفاء والاجتباء والاختيار الإلهيّ للأنبياء والرُّسُل والأولياء إنما هو لأهلِّيتهم وجدارتهم، التي لا يعلم بها يقيناً إلاّ الله

ومن هنا نقول: كلُّ إنسانٍ يمكنه أن يعصم نفسه، وهو يفعل ذلك بالفعل؛ فكثيرون عصموا أنفسهم عن القتل والسرقة و…، مما هو من الجرائم والقبائح الواضحة والخطيرة، ويخافون معها من الحَبْس أو القتل أو الفضيحة أو…

والمؤمنون في أغلبهم يعصمون أنفسهم من شرب الخَمْر والزِّنى وأكل الميتة وأكل الخنزير وشرب الدم و…

إذن، العصمةُ اختياريّةٌ بالكامل، ومستندةٌ إلى العلم بقُبْح المعصية وحُسْن الطاعة، فيُقْبِلون عليها بلَهْفةٍ وشَوْقٍ؛ لما يستحضرونه من حُسْنها المعلوم.

والسيّدة زينب(عا) وأبو الفضل العبّاس(ع) وغيرهم على هذا الطريق، كما هو النبيّ والسيّدة الزهراء والأئمّة الاثنا عشر(عم)، وغاية الأمر أنه ليس في غير النبيّ والزهراء والأئمّة الأهليّة والجدارة الكافية ليكونوا في تلك المقامات

فهؤلاء لا يستحضرون قُبْح بعض المعاصي على الدَّوَام، فقد يرتكبون بعضها

أليس يقولون: إن السيّدة زينب(عا) قد نطحَتْ جبينها بمُقَدَّم المَحْمِل والهَوْدَج، فسال الدم، ويتمسَّكون بذلك لتشريع التطبير. والواقع أنه لو كان هذا الأمر قد حَدَث فهو من المعصية التي حَصَلَتْ لغياب صورة القُبْح للحظاتٍ، وهي لحظاتُ قِمّة الأَسَى واللَّوْعة والجَزَع، حين رأَتْ رأس الحسين على الرُّمْح (رغم أنها مأمورةٌ من أخيها الإمام الحسين(ع) بعدم الجَزَع، وأن لا تخمش وَجْهاً، ولا تشقّ جَيْباً، ولا تنادي بالوَيْل والثبور)(ومع التنويه إلى أنه قد لا يكون قَصْدُها إسالةَ الدم، ولكنّه حصل بلا قَصْدٍ، وفوجئَتْ به). هذا الأمر لا يفعله المعصوم، فالإمام زين العابدين(ع) لمّا رأى رأس أبيه على الرُّمح استحضر فَوْراً مهمّته ووظيفته في حفظ العيال، فأمر السيّدة زينب(عا) بجَمْعهم في خَيْمةٍ؛ استعداداً للأَسْر والسَّبْي، بينما زينب رأَتْ الرأس فجَزِعَتْ وضربَتْ رأسها…

إذن، أهليَّتها وجدارتها ليست كأهليَّته وجدارته، فلا توازيه في المقام

وكذلك، يذكرون أنها أُعْجِبَتْ بعِقْدٍ في بيت المال، فاستعارته مضموناً؛ لتتزيَّن به، فلما افتقده أبوها أمير المؤمنين(ع)، وعلم بما فعلَتْه، عاتبها، وقال: (لو لم تكُنْ استعارةً مضمونةً لكانت سرقةً، ولكانَتْ أوّلَ هاشميّةٍ تُقْطَع يَدُها في الإسلام)

مثلُ هذا الفعل لا يقوم به إمامٌ معصوم، فأهليَّته وجدارته بلغَتْ حدّاً لا يقوم معه بهذه الأفعال، بل لا تغريه مثل هذه الزينة؛ فأمير المؤمنين(ع) يقلِّب الدنانير والدراهم بأصابعه، ثمّ يقول: غُرِّي غيري. وعندما يشتري(ع) قميصان، أحدهما أجود من الآخر وأفخم، سُرْعَان ما يعطي الأفخم لعَبْده قنبر، ويلبس هو الأقلّ جودةً

فهذه الأهليّةُ والجدارةُ، التي يستفيد منها للاستقامة في خطّ الزُّهْد والعَدْل والتضحية والإيثار و…، مما هو مطلوبٌ من النبيّ والزهراء والإمام(عم)، لا تتوفَّر بحَدِّها التامّ الكامل في السيّدة زينب(عا)، ولا في أبي الفضل العبّاس(ع)…، ولهذا لم يكونوا في عداد المُصْطَفَيْن لتلك المقامات والمهمّات

إذن، عصمةُ السيّدة زينب والعبّاس(عما) أرفع من عصمة غيرهم، ولكنّها دون عصمة النبيّ والزهراء والإمام(عم)، بالمعنى الذي ذَكَرْناه لعصمتهم.

ونرجو أن يكون هذا البيان واضحاً…



أكتب تعليقك