المداهنة والمداراة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين.
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه مخاطباً نبيَّه الأكرم محمداً(ص): ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمْ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلاَ تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾(القلم: 4 ـ 9).
المداهنة حرامٌ
المداهنةُ، أيُّها الأحبَّة، هي تليين الموقف الصلب الذي يتطلَّبه منك التزامُك بدينك، ومن ثمّ إسقاطه لإظهار الانسجام مع الطرف الآخر المخالِف لمعتقدك ومبادئك والتزاماتك. وهذه الآية تلفت نظر النبيّ(ص) إلى عدم جواز مداهنة وتأييد أيٍّ من الكافرين والمكذِّبين في موقفهم؛ لأنّ هذه المداهنة وهذا التأييد من رسول الله(ص) يعطي شرعيّةً لهذه الحركة ولهذا الخطّ. وهكذا فإنّ مداهنة المؤمن للآخرين من غير المؤمنين تعطي مواقفهم ومبادئهم والتزاماتهم الشرعيّة والأصالة؛ إذ إنّ المؤمن هو الممثِّل للخطّ الديني الشرعي، فتنازله وتهاونه يضعِّف هذا الدين. ومن هنا كانت المداهنة من الكبائر؛ إذ هي أشبه ما يكون بالركون إلى الظالمين، الذي هو من الكبائر؛ لتوعُّد الله عليه بالنار في نصٍّ صريح لا لُبْس فيه ولا غموض: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾(هود: 113).
إذن المداهنةُ حرامٌ، وهي من الكبائر التي توعَّد الله عليها بالنار.
المداراة خلقٌ نبويّ عظيم
وأمّا الخُلُق العظيم الذي شهده الناس كافّةً من رسول الله(ص) فهو المداراة، حيث رُوي عن سيّدنا ومولانا عليّ بن موسى الرضا(ع) أنّه قال: «لا يكون المؤمن مؤمناً حتّى يكون فيه ثلاث خصال: سنّة من ربّه، وسنّة من نبيه، وسنّة من وليِّه، فأما السنّة من ربّه فكتمان سرّه، قال الله جلَّ جلاله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ﴾(الجنّ: 26 ـ 27)، وأما السنّة من نبيّه فمداراة الناس، فإنّ الله عزَّ وجلَّ أمر نبيَّه(ص) بمداراة الناس، فقال: ﴿خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ﴾(الأعراف: 199)، وأما السنّة من وليِّه فالصبر في البأساء والضراء، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ﴾(البقرة: 177)»([1]).
فما هي المداراة، وكيف تكون؟
مداراةُ الناس، أيُّها الأحبَّة، هي التعاملُ معهم بلطفٍ وهدوء، ومحبّةٍ ورحمة. وما أكثر ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تحثّ على المعاملة بالحسنى، واتّباع الأسلوب الأحسن في التعامل مع الناس كافَّةً.
أمّا المؤمنون فقد أوصى الله جلَّ وعلا نبيَّه محمّداً أن يكون في غاية اللطف والرِّقَّة معهم، حتّى قال: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾(الحجر: 88)، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ﴾(الشعراء: 215)، أي كُنْ معهم في غاية التواضع والرحمة والإلفة والإحسان، وما أشبه لسان هذه الآية بما ورد في الوصيّة بالوالدَيْن: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(الإسراء: 24). ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ أعزَّ نبيَّه وأكرمه من أن يصرِّح له بضرورة خفض جناح الذلِّ من الرحمة.
وامتثل النبيُّ(ص) هذه الوصيّة فكان مثالاً للعطف والرأفة: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾(التوبة: 128).
وأمّا مع غير المؤمنين فقد قال عزَّ من قائلٍ في بيان ما واثق به بني إسرائيل، فلمّا نقضوه استحقوّا عذابَ الله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾(البقرة: 83).
وقال تقدَّسَتْ أسماؤه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(النحل: 125).
وقال جلَّ وعلا: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾(العنكبوت: 46).
وقال سبحانه: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(فصّلت: 34 ـ 36).
وقال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾(المؤمنون: 96).
إذاً هي المداراة، ولكنْ دون أن تتخلَّى عن دينك وموقفك والتزامك، فلك دينُك وللآخرين حرّيّة دينهم ومعتقدهم، ﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف: 29)، ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾(الكافرون: 6)، وليكُنْ التعامل والتواصل بينكم بالأسلوب الهادئ، وبالطريقة الحسنى، حتّى تتوصَّلوا إلى قواسم مشتركةٍ تستطيعون أن تبنوا مجتمعكم القويّ المتماسك على أساسها.
والمداراةُ بهذا المعنى، وليس المداهنة، هو ما شهدناه في أكثر من موقفٍ لرسول الله(ص)، وهو الأسوةُ والقدوة إذا كنّا ممَّنْ يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً.
سيرة النبيّ المصطفى(ص)
1ـ فقد رُوي أنّ النبيّ(ص) بينا هو ذات يومٍ عند عائشة إذ استأذن عليه رجلٌ، فقال رسول الله(ص): «بئس أخو العشيرة»، فقامت عائشة فدخلت البيت، وأذن رسول الله(ص) للرجل، فلمّا دخل أقبل عليه بوجهه وبِشْره يحدّثه، حتّى إذا فرغ وخرج من عنده قالت عائشة: يا رسول الله، بينا أنت تذكر هذا الرجل بما ذكرتَه به إذ أقبلت عليه بوجهك وبِشْرك؟ فقال رسول الله(ص) عند ذلك: «إنّ من شرِّ عباد الله مَنْ تُكْرَه مجالستُه لفُحْشه»([2]).
2ـ ورُوي أنّه مرّ يهوديٌّ بالنبيّ(ص) فقال: السام عليك، فقال رسول الله(ص): «عليك»، فقال أصحابه: إنَّما سلم عليك بالموت قال: الموت عليك، قال النبيّ(ص): «وكذلك ردَدْتُ…»، الحديث([3]).
3ـ ورُوي أنّه دخل يهوديٌّ على رسول الله(ص)، وعائشة عنده، فقال: السام عليكم، فقال رسول الله(ص): «عليكم»، ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فردَّ عليه كما ردَّ على صاحبه، ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فردَّ رسولُ الله(ص) كما ردَّ على صاحبَيْه، فغضبَتْ عائشة، فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة، يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير، فقال لها رسول الله(ص): «يا عائشة، إن الفحش لو كان ممثَّلاً لكان مثال سوء، إنّ الرفق لم يوضَع على شيء قطّ إلاّ زانه، ولم يرفع عنه قطّ إلاّ شانه»([4]).
فلاحِظْ كيف وصف الله دعاءَها بالموت والغضب واللعنة، وتوصيفها لهم بما وصفهم به القرآن الكريم، بأنّه فحشٌ في القول، وهو حرامٌ، كما هو ثابتٌ في الفقه الإسلاميّ.
هذه هي أخلاقُ رسول الله(ص).
سيرة أهل البيت(عم)
وأمّا أخلاقُ أهل البيت(عم) فهي لا تبتعد عن هذا المبادئ والقِيَم، ولم يكن في قاموس أدبهم(عم) لعنٌ أو شتم.
1ـ فقد رُوي أنّ حِجْر بن عِدِيّ وعَمْرو بن الحَمِق خرجا يُظهران البراءةَ واللَّعْنَ من أهل الشام، فأرسل إليهما عليٌّ: «أن كُفّا عمّا يبلغني عنكما»، فأتياه، فقالا: يا أمير المؤمنين، ألسنا مُحِقِّين؟ قال: «بلى»،[ قالا: أَوَليسوا مُبْطِلين؟ قال: «بلى» ]، قالا: فلِمَ منَعْتَنا من شتمهم؟ قال: «كرهتُ لكم أن تكونوا لعّانين شتّامين، تشتمون وتتبرّؤون، ولكنْ لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر. و[لو] قلتم مكان لعنكم إيّاهم، وبراءتكم منهم: اللهمّ احقِنْ دماءَنا ودماءَهم، وأصلِحْ ذات بيننا وبينهم، واهْدِهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقَّ منهم مَنْ جهله، ويرعوي عن الغَيِّ والعدوان مَنْ لهج به، كان هذا أحبُّ إليَّ وخيراً لكم». فقالا: يا أمير المؤمنين، نقبل عظتك، ونتأدَّب بأدبك([5]).
2ـ وجاء في الخبر أنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب% كان جالساً في أصحابه فمرَّتْ بهم امرأةٌ جميلة، فرَمَقها القومُ بأبصارهم [على عادة الشباب هذه الأيّام، يتحرَّشون بالنساء في الطُّرُقات]، فقال%: «إنّ أبصارَ هذه الفحول طوامح، وإنّ ذلك سببُ هَبابها، فإذا نظر أحدُكم إلى امرأةٍ تعجبه فليلامِسْ أهلَه، فإنّما هي امرأةٌ كامرأة»، فقال رجلٌ من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه! فوثب القومُ [أي أصحاب الإمام%] ليقتلوه، فقال%: «رويداً، إنّما هو سبٌّ بسبٍّ، أو عفوٌ عن ذنبٍ»([6]).
ما أعظمَك يا مولاي يا عليّ! لم يعنِّفْ، لم يوبِّخْ، بل أرشد وعلَّم، فهدى الله به أقوماً ضلُّوا، وصدق الله حيث يقول لرسوله: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾(الرعد: 7).
وهنا يستوقفني توصيف وتصنيف أمير المؤمنين(ع) لكلام ذلك الخارجيّ، الذي تضمَّن ثلاث مقاطع: دعاءٌ بالهلاك، وتكفيرٌ، ووصفٌ بالفقاهة، فأيُّها هو السبُّ يا تُرى؟
أمّا التوصيف بالفقاهة فليس بسبٍّ قطعاً، ولا يعدو السبُّ أن يكون أحدَ الأمرَيْن الآخرَيْن.
فهل يسمع هذا اللاعنون لمَنْ يختلفون معهم من المسلمين، والدعاةُ إلى اللعن، وممارسو التكفير والتفسيق والتضليل؟
فأين هؤلاء من أخلاق الله، حيث لا يلعن قوماً بأسمائهم، وهو العالم بأفعالهم واستحقاقهم للَّعْن، وإنَّما يلعن فئةً بما فعلوا، فيقول مثلاً: ﴿أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾(هود: 18). فمَنْ كان ظالماً شملَتْه هذه اللعنة وعَرَفَتْ طريقها إليه، دون أن تستفزّ أحداً، أو تستدعي ردّة فعلٍ غير مرضيّة.
أين هؤلاء من نهي سبحانه وتعالى صراحةً المؤمنين عن أن يسبُّوا الأصنام، وهي معبودات أهل الجاهليّة، لئلا تكون ردّةُ فعلهم سبَّ الذات الإلهيّة المقدَّسة، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾(الأنعام: 108).
أين هؤلاء عن نهي أهل البيت(عم) لشيعتهم عن التعرُّض بالشَّتْم والسَّبِّ واللَّعْن لأعدائهم جِهاراً؛ خَوْفاً من ردّة الفعل العنيفة من الطَّرَف الآخر، التي ستتمظهر بسبّ وشتم ولعن أهل البيت(عم). وقد قيل لمولانا الصادق(ع): يا بن رسول الله، إنّا نرى في المسجد رجلاً يعلن بسبِّ أعدائكم ويُسمِّيهم؟ فقال: «ما له ـ لعنه الله ـ يعرِّض بنا»([7]).
وقد رُوي عن إمامنا الكاظم(ع) أنّه قال في رجلين يتسابان: «البادي منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه، ما لم يتعدَّ المظلوم»([8]).
3ـ وهذا هو إمامُنا الحسنُ بن عليٍّ المجتبى(ع) يلقى في المدينة رجلاً شامِيّاً ناصِبيّاً، يكره أمير المؤمنين عليّاً وأولادَه(عم)، فجعل الرجل يلعنُه، وأيُّ منكَرٍ أعظمُ من هذا؟!، والحَسَن(ع) لا يردّ، وإنَّما قال له: «أيُّها الشيخ، أظنُّك غريباً، ولعلك شبَّهتَ، فلو استَعْتَبْتَنا أَعْتَبْناكَ، ولو سألتَنا أعطيناكَ…، وإنْ كان لك حاجةٌ قضيناها لكَ…»، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنَّك خليفةُ الله في أرضه، اللهُ أعلم حيث يجعل رسالته، وكنتَ أنتَ وأبوكَ أبغضَ خلقِ الله إليَّ، والآن أنتَ أحبُّ خلقِ اللهِ إليَّ، وحوَّل رَحْلَه إليه، وكان ضيفَه إلى أنْ ارتحل، وصار معتقِداً لمحبَّتهم([9]).
هذه هي أخلاق أهل البيت(عم) جليّةً واضحة أمام شيعتهم، لمَنْ أراد أن يكون من الشيعة حقّاً، وهكذا استطاعوا(عم) أن يقنعوا الكثير من أعدائهم بأحقِّيّتهم ومظلوميّتهم.
4ـ فها هو سيِّد الشهداء أبو عبد الله الحسين(ع) قد أقنع الحُرّ بن يزيد الرياحيّ بصوابيّة نهجه، وأحقّيّته من هؤلاء الطُّغاة الظَّلَمة، بعد أن عامله باللطف والإحسان، فلقد تقابلا في الطريق إلى الكوفة، وكان العطش قد أضرّ بالحرّ وأصحابه، فقال الحسين لفتيانه: «اسقُوا القوم، واروُوهم من الماء، ورشِّفوا الخيل ترشيفاً»، فقام فتيانه فرشَّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتيةٌ وسقَوْا القوم من الماء حتّى أروَوْهم، وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار [جمع تَوْر] والطِّساس من الماء، ثم يدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلَتْ عنه، وسقَوْا آخر، حتّى سقوا الخيل كلَّها([10]).
5ـ وهكذا كان موقف الإمام زين العابدين(ع) في الشام، وهو المفجوع بمصابه بأبيه وعمّه وإخوته، وهو الذي لا زال في الأَسْر وآثاره المادّيّة والمعنويّة، وحوله بنات رسول الله(ص)، وكفى بذلك مصاباً جَلَلاً، حيث التقى بشيخ من أهل الشام، فقال: الحمد لله الذي قتلكم وقطع قَرْن الفتنة، فقال له عليّ بن الحسين(عما): «أيُّها الشيخ، أنْصِتْ لي، فقد نصتُّ لك حتّى أبديت لي عمّا في نفسك من العداوة، هل قرأْتَ القرآن؟»، قال: نعم، قال: «هل وجدْتَ لنا فيه حقّاً خاصّة دون المسلمين؟»، قال: لا، قال: «ما قرأتَ القرآن»، قال: بلى، قد قرأتُ القرآن، قال: «فما قرأْتَ الأنفال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ أتدرون مَنْ هم؟»، قال: لا، قال: «فإنّا نحن هم»، قال: إنّكم لأنتم هم؟، قال: «نعم»، قال: فرفع الشيخ يده إلى السماء، ثم قال: اللهمّ إنّي أتوب إليك من قتل آل محمد، ومن عدواة آل محمد([11]).
6ـ وقيل للزُّهْريّ: لقيتَ عليّ بن الحسين(ع)؟ قال: «نعم، لقيتُه، وما لقيتُ أحداً أفضل منه. واللهِ، ما علمتُ له صديقاً في السرّ، ولا عدوّاً في العلانية»، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: «لأنّي لم أرَ أحداً وإنْ كان يحبُّه إلاّ وهو؛ لشدّة معرفته بفضله، يحسده، ولا رأيتُ أحداً وإنْ كان يبغضه إلاّ وهو؛ لشدّة مداراته له، يداريه»([12]).
أيُّها الأحبَّة، بهذه الأخلاق الحميدة، والقِيَم النبيلة، وحدها، لا بغيرها، نأمل ونرجو أن ينتشر التشيُّع والولاء لمحمدٍ وآل محمد(ص)، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه الصدوق في الأمالي: 408، عن عليّ بن أحمد بن موسى، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن مبارك مولى الرضا، عن الرضا عليّ بن موسى(عما)…، الحديث.
ورواه الصدوق أيضاً في معاني الأخبار: 184، عن عليّ بن أحمد بن محمد، عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي، عن سهل بن زياد الآدمي، عن مبارك مولى الرضا(ع) عن الرضا عليّ بن موسى(عما)…، الحديث.
ورواه الصدوق أيضاً في الخصال: 82، وفي عيون أخبار الرضا(ع) 2: 232 ـ 233، عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد [بن يحيى بن عمران الأشعريّ]، عن سهل بن زياد، عن الحارث بن الدلهاث مولى الرضا(ع)، عن أبي الحسن [الرضا](ع)…، الحديث.
ورواه الصدوق أيضاً في صفات الشيعة: 37 ـ 38، عن أبيه، عن محمد بن يحيى العطّار، عن سهل بن زياد، عن الحارث بن الدلهاث مولى الرضا(ع)، عن أبي الحسن [الرضا](ع)…، الحديث.
ورواه الكليني في الكافي 2: 241 ـ 242، عن عليّ بن محمد بن بندار، عن إبراهيم بن إسحاق، عن سهل بن الحارث، عن الدلهاث مولى الرضا(ع)، عن الرضا(ع)…، الحديث.
([2]) رواه الكليني في الكافي 2: 326، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله(ع)، مرفوعاً.
([3]) رواه الكليني في الكافي 4: 5، عن عليّ بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن عليّ، عن عبد الرحمن بن محمد الأسديّ، عن سالم بن مكرم، عن أبي عبد الله(ع) قال:…، الحديث، ثم قال النبيّ(ص): «إنّ هذا اليهوديّ يعضّه أسودٌ في قفاه، فيقتله»، قال: فذهب اليهوديّ فاحتطب حطباً كثيراً، فاحتمله، ثم لم يلبث أن انصرف، فقال له رسول الله(ص): «ضَعْه»، فوضع الحطب، فإذا أسودٌ في جوف الحطب عاضٌّ على عُودٍ، فقال: «يا يهوديّ، ما عملْتَ اليوم؟» قال: ما عملْتُ عملاً إلاّ حطبي هذا، احتملته فجئت به، وكان معي كعكتان، فأكلت واحدةً، وتصدَّقْتُ بواحدةٍ على مسكين، فقال رسول الله(ص): «بها دفع الله عنه»، وقال: «إنّ الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان».
([4]) رواه الكليني في الكافي 2: 648، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر(ع) قال:…، الحديث، قالت: يا رسول الله، أما سمعت إلى قولهم: السام عليكم؟ فقال: «بلى، أما سمعْتِ ما ردَدْتُ عليهم؟ قلتُ: عليكم، فإذا سلَّم عليكم مسلمٌ فقولوا: سلامٌ عليكم، وإذا سلَّم عليكم كافرٌ فقولوا: عليك».
([5]) رواه نصر بن مزاحم المنقريّ في وقعة صفين: 102 ـ 103، عن عمر بن سعد، عن عبد الرحمن، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك…، الحديث. ورُوي مختصراً في نهج البلاغة 2: 185 ـ 186.
([6]) نهج البلاغة: 4: 98 ـ 99.
([7]) الصدوق، الاعتقادات في دين الإماميّة: 107.
([8]) رواه الكليني في الكافي 2: 322، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي الحسن موسى(ع)…، الحديث.
([9]) رواه ابن شهرآشوب في مناقب آل أبي طالب 3: 184.
([11]) رواه فرات بن إبراهيم الكوفيّ في التفسير: 153 ـ 154 (تفسير قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى﴾)، عن جعفر بن محمد بن هشام، معنعناً، عن ديلم بن عمرو…، الحديث.
([12]) رواه الصدوق في علل الشرائع 1: 230 ـ 231، عن محمد بن القاسم الإسترآبادي، عن عليّ بن محمد بن سيّار، عن أبي يحيى محمد بن يزيد المنقري، عن سفيان بن عيينة، عن الزُّهْريّ…، الحديث.