9 يناير 2015
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬827 مشاهدة

مولد النور والرحمة، والانحراف الخطير من بعده

منبر الجمعة-مولد النور والرحمة، والانحراف الخطير من بعده

(الجمعة 9 / 1 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.

تمهيد

وُلد الهُدى فالكائناتُ ضياءُ

وفَمُ الزَّمانِ تبسُّمٌ وثَناءُ

مرَّتْ بنا في الثاني عشر من ربيع الأوّل، حسب بعض النقول([1])، ذكرى ولادة النبيّ الأكرم محمد بن عبد الله(ص)، كما نستقبلها أيضاً في السابع عشر من ربيع الأول، حسب نقولٍ أخرى تبنّاها شيعةُ أهل البيت(عم)([2]). وقد نُسبت إلى أهل البيت(عم) رواياتٌ تؤكِّد هذا الأمر([3]).

الإمام الخميني وأسبوع الوحدة الإسلاميّة

ورغبةً في الوحدة بين المسلمين، الذين أرادهم الله سبحانه وتعالى أن يكونوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، فقال عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، أعلن الإمام الخميني(ر) الفترة ما بين 12 و17 ربيع الأوّل أسبوعاً للوحدة الإسلاميّة، لا يختلف فيها سنِّيٌّ مع شيعيّ حول ولادة رسول الله(ص).

وقد جاء هذا الإعلان جرّاء فهمٍ دقيق معمَّق لسيرة أهل البيت(عم)، وهم المنفتحون على كلّ الناس، فضلاً عن انفتاحهم على كلِّ المسلمين.

ثورة الحسين(ع) للمسلمين كافّةً

ومن هنا كان من الخطأ الجسيم الاعتقاد أنّ ثورة الحسين(ع) قد خدمت التشيُّع وحده، وأنّ ذلك كان هَدَفاً لها؛ لأنّ المتأمِّل في تلك التضحيات العظيمة يرى فيها خدمةً للمسلمين جميعاً كأمّةٍ واحدة لا فرق بين أفرادها وتيّاراتها؛ حيث إنّ الهدف منها كان توليد الوعي والإحساس في نفوس الناس؛ ليتنبَّهوا من خلالهما إلى أمرٍ خطير وغَلَط كبير جدّاً كان مُحْدِقاً بهم، وكاد أن يبدِّل دينهم وهُمْ لا يشعرون.

الخطر الداهم بعد رحيل النبيّ(ص)

ويتمثَّل هذا الخَطَر في أنّ المسلمين من حيث العموم كانوا يرَوْن إلى الخلفاء والأمراء الذين حكموهم منذ أن قُبض رسول الله(ص) صفةً مزدوجة، هي صفة المشرِّعين والمنفِّذين في آنٍ واحد، أي كانوا يتصوَّرون أن الخليفة له صلاحيّة التشريع، والتحليل والتحريم، والتغيير والتبديل، متناسين ما رُوي من أنّ «حلال محمد حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرام أبداً إلى يوم القيامة»([4]).

وبالتالي كانوا يرَوْن للحاكم حقَّ الاجتهاد وإعمال الرأي ضدَّ نصوص القرآن والسنّة الثابتة، كما له حقّ التطبيق وصلاحيّة التنفيذ؛ قياساً له على رسول الله(ص)، الذي كان هو المشرِّع والمنفِّذ معاً.

وبسبب هذه النظرة الخاطئة من المسلمين إلى حُكّامهم تجرّأ بعض أولئك الحكّام على الاجتهاد ضدَّ نصوص الكتاب والسنّة الشريفة، وعلى التلاعب بأحكام الإسلام حَسْب شهواتهم ومصالحهم.

فما أن التحق رسول الله(ص) بالرفيق الأعلى حتّى بدأ الاختلافُ بين سيرته وسيرة المسؤولين بعده. فشهدنا تحريم المتعتين اللتين كانتا على عهد رسول الله(ص)([5])، وشهدنا زيادة «الصلاة خير من النوم»([6])، وإسقاط «حيّ على خير العمل»([7]).

والخطرُ الأكبر الذي كان يكمن في تلك الظاهرة أنّ المسلمين كانوا يأخذون تلك التصرُّفات الشاذّة عن نصوص القرآن والسنّة على أنّها من صميم الإسلام وشريعة الله جلَّ وعلا.

بنو أميّة يتآمرون ضدّ الإسلام، وثورة الحسين(ع) تفضحهم

ولذا استغلّ الأمويّون هذه النظرة الخاطئة لتحقيق مؤامراتهم العدوانيّة ضدّ الإسلام ونبيّ الإسلام، فأخذوا يحرِّفون ويشوِّهون ويتلاعبون بشعائره ومقدّساته.

ومن ذلك صلاة معاوية صلاة الجمعة بالناس يوم الأربعاء بدل الجمعة([8])، وسنّ سبَّ الإمام عليّ(ع) على المنابر، ولبس الحرير والذَّهب، وشرب الخمر، وقتل النَّفْس المحترمة على الظِّنَّة والتُّهَْمَة، وألحق زياد بن أبيه بأبي سفيان([9])، وحوّل الخلافة إلى ملك وراثيّ عضوض.

وكان الناس يأخذون تلك البِدَع بعين الاعتبار، وأنّها من الدين. ولكنْ بعد ثورة الحسين(ع) تغيَّرَتْ نظرة المسلمين إلى الحكّام والأمراء، وظهروا أمام الرأي العامّ الإسلاميّ على أنّهم سلاطين جَوْر، وحكامٌ بالقَهْر والغَلَبة، لا صفة شرعيّة لهم، ولا سلطة تشريعيّة. فالإسلام شيءٌ وسيرة هؤلاء الحكّام والأمراء الذين يحكمون المسلمين شيءٌ آخر تماماً.

ونتيجةً لهذا التبدُّل في النظرة، والفصل بين الحكّام وأعمالهم من جهةٍ وبين الإسلام والمسلمين من جهةٍ أخرى بقي الإسلام محفوظاً ومصاناً في إطار الكتاب والسنّة الشريفة. ولولا ذلك لكان الإسلام خبراً بعد عَيْن، ولكان المسلمون اليوم أمّةً جاهليّة إباحيّة، لا تعرف الله، ولا تؤمن بنبيٍّ، ولا تقرأ كتاباً.

والدليل الواضح والصريح على أنّ ثورة الحسين(ع) عزلت الحكّام عن الشعب، وانتزعَتْ منهم صلاحية التشريع وصفة الشرعية هو ظهور الطوائف، وتعدُّد المذاهب، وتزايد الفِرَق الإسلامية، بعد عصر الحسين(ع) مباشرةً، حيث كانت ثورتُه بمثابة المنبِّه للناس من غفلتهم، فحرَّكوا عقولهم، وأعملوا فكرهم، فتبيَّن لهم البطلان والتزييف المحيطان بالحكم الأمويّ من كلِّ جانبٍ، فابتعدوا عنه، واستقلُّوا في النظر إلى الأمور.

محاولاتٌ يائسة لاستعادة السلطة الضائعة، وأهل البيت(عم) يتصدُّون لها

وممّا يُبرز ويقوِّي هذا الدليل محاولة الحكّام استعادة سلطتهم على الأمّة، وسيطرتهم على الشعب، بعدما فقدوها. فعمدوا إلى أصحاب النفوس المريضة، الذين تغريهم المناصب، وتستغويهم الأموال، أمثال شريح القاضي وغيره؛ ليجعلوهم صلة الوصل بينهم وبين الشعب، ينفِّذون سياسة الحكّام، ويبرِّرون إجرامهم، فيكونوا بذلك سلاحاً بيد السلطات، تحارب بهم الدِّين، وتدفع بهم عن حُكْمها وسلطانها.

وحدهم أئمّةُ أهل البيت(عم)، ومعهم أصحابهم وشيعتهم، الذين بقُوا في خطّ المعارضة لتلك الحكومات الجائرة، ووقفوا في وجه أولئك العُلَماء الدجَّالين المنافقين السائرين في رَكْب الحكّام والأمراء، فها هو الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، الذي نستقبل ذكرى ولادته في نفس يوم مولد رسول الله(ص) في 17 ربيع الأوّل، «كتب إليه المنصور: لِمَ لا تغشانا كما يغشانا ساير الناس؟ فأجابه: ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نِعْمةٍ فنُهَنِّيك، ولا تراها نقمةً فنُعَزِّيك بها [وفي المقولة المشهورة: «إذا رأيتُم العلماء على أبواب الملوك فقولوا: بِئْس العلماء وبِئْس الملوك، وإذا رأيتُم الملوك على أبواب العلماء فقولوا: نِعْم العلماء ونِعْم الملوك»]، فما نصنع عندك؟! فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا، فأجابه(ع): مَنْ أراد الدنيا لا ينصحك، ومَنْ أراد الآخرة لا يصحبك، فقال المنصور: واللهِ، لقد ميَّز عندي منازل الناس، مَنْ يريد الدنيا ممَّنْ يريد الآخرة، وإنّه ممَّنْ يريد الآخرة، لا الدنيا»([10]).

ولذا قابلهم الحُكّام بكلِّ ظلمٍ واضطهاد، وحاربوهم بكلِّ قسوةٍ وعنف، واضطهدوا شيعتهم، ومنعوا الناس من الوصول إليهم، وأغلقوا أبوابهم، فصبروا على كلِّ ذلك، محتسبين الأجرَ والمثوبة عند الله، فـ ﴿جَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾ (الإنسان: 12). فهل من صابرٍ كصَبْرهم؛ ليلقى مِثْلَ جزائهم؟!

نسأل الله أن يُعيننا على أنفسنا بما أعان به الصالحين على أنفسهم. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) قال الكليني في الكافي 1: 439: «وُلد النبيّ(ص) لاثنتي عشر ليلة مضَتْ من شهر ربيع الأول، في عام الفيل».

([2]) قال المفيد في المقنعة: 456: «وُلد بمكة، يوم الجمعة، السابع عشر من ربيع الأول، في عام الفيل».

وراجع: رسائل المرتضى 3: 59؛ أبو الصلاح الحلبي، الكافي: 180؛ ابن زهرة الحلبي، غنية النزوع: 148؛ أبو الفتح الكراجكي، كنز الفوائد: 72.

وروى الطوسي في مصباح المتهجِّد: 820، عن إسحاق بن عبد الله العلوي العريضي قال: اختلف أبي وعمومتي في الأربعة الأيام تُصام في السنة، فركبوا إلى مولانا أبي الحسن علي بن محمد(ع) وهو مقيم بصربا، قبل مصيره إلى سُرَّ مَنْ رأى، فقالوا: جئناك يا سيِّدنا لأمرٍ اختلفنا فيه، فقال: نعم، جئتم تسألوني عن الأيام التي تصام في السنة؟ فقالوا: ما جئناك إلاّ لهذا، فقال(ع): «اليوم السابع عشر من ربيع الأول، وهو اليوم الذي وُلد فيه رسول الله(ص)».

([3]) قال المفيد في مسار الشيعة: 50: وروي عن أئمّة الهدى(عم) أنهم قالوا: مَنْ صام اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول ـ وهو مولد سيِّدنا رسول الله(ص) ـ كتب الله سبحانه له صيام سنة.

وراجع: الطوسي، مصباح المتهجِّد: 791، ابن طاووس، إقبال الأعمال 3: 122.

([4]) رواه محمد بن الحسن الصفّار في بصائر الدرجات: 168، عن إبراهيم بن هاشم، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس، عن حمّاد، قال: سمعتُ أبا عبد الله(ع) يقول: «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدٌّ كحدّ الدور. وإنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ إلى يوم القيامة. ولأن عندنا صحيفة طولها سبعون ذراعاً، وما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ فيها، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدور فهو من الدور، حتّى أرش الخدش وما سواها، والجلدة ونصف الجلدة».

وروى الكليني في الكافي 1: 58، عن عليّ بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن حريز، عن زرارة قال: سألتُ أبا عبد الله(ع) عن الحلال والحرام؟ فقال: «حلال محمد حلالٌ أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة، لا يكون غيره ولا يجيء غيره»، وقال: قال عليٌّ(ع): «ما أحدٌ ابتدع بدعةً إلاّ ترك بها سنّة».

([5]) روى أحمد بن حنبل في مسنده 3: 325، عن عبد الصمد، عن حمّاد، عن عاصم، عن أبي نضرة، عن جابر قال: «متعتان كانتا على عهد النبيّ(ص)، فنهانا عنهما عمر(رض)، فانتهينا».

وروى الدارقطني في العلل 2: 156، عن عليّ بن عاصم عن داوود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيَّب، عن عمر: «متعتان كانتا على عهد رسول الله(ص) أنا أنهى عنهما: متعة النساء؛ ومتعة الحجّ».

([6]) فقد جاء في الموطّأ 1: 72: وحدَّثني [يحيى]، عن مالك، أنّه بلغه أن المؤذِّن جاء إلى عمر بن الخطّاب يؤذنه لصلاة الصبح، فوجده نائماً، فقال: الصلاة خيرٌ من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح.

([7]) فقد روى الصدوق في علل الشرائع 2: 367 ـ 368، عن عليّ بن عبد الله الورّاق وعليّ بن محمد بن الحسن المعروف بابن مقبرة القزويني، عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف، عن العبّاس بن سعيد الأزرق، عن سويد بن سعيد الأنباري، عن محمد بن عثمان الجمحي، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قلتُ لابن عبّاس: أخبرني لأيّ شيءٍ حذف من الأذان حيّ على خير العمل؟ قال: أراد عمر بذلك أن لا يتَّكل الناس على الصلاة، ويَدَعوا الجهاد، فلذلك حذفها من الأذان.

([8]) قال الأميني في الغدير 10: 196: «ولقد بلغ من أمرهم في طاعتهم له أنّه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صِفِّين الجمعة في يوم الأربعاء».

([9]) فمن قبيح فعال أبي سفيان في الجاهليّة شربه للخمر، وزناه بالبَغِيّة (سُميّة)، أمّ زياد بن عُبَيْد الثقفي (راجع: ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 19: 173؛ وابن الأثير، الكامل في التاريخ 3: 443؛ والأميني في الغدير 10: 224، نقلاً عن العقد الفريد 3: 3)، فولدَتْ زياداً، الذي هو في الظاهر وشرع الله ـ لمقولة النبيّ(ص): الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر (راجع: الكليني، الكافي 5: 491 ـ 492؛ والبخاري، الصحيح 3: 4 ـ 5) ـ ابنٌ لعُبَيْد الثقفي، غير أنّ معاوية بن أبي سفيان ألحق زياداً هذا بأبيه أبي سفيان، سنة 44هـ (راجع: الأميني، الغدير 10: 217 ـ 218)، بعدما كان قد تناهى إلى سمعه أنّ أبا سفيان قد نسبه إلى نفسه، ولكنّه لم يجرؤ على المجاهرة بذلك؛ خوفاً من غضب الخليفة عمر بن الخطّاب (راجع: ابن عبد البرّ، الاستيعاب 2: 524 ـ 525؛ وابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق 19: 174 ـ 175؛ والأميني في الغدير 10: 218 ـ 219، نقلاً عن العقد الفريد 3: 3).

([10]) رواه أبو الحسن عليّ بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي في كشف الغمة 2: 427، عن ابن حمدون…



أكتب تعليقك